ارشيف من :آراء وتحليلات

وثائقي يكشف الجوع الملاييني غير المرئي في اميركا

وثائقي يكشف الجوع الملاييني غير المرئي في اميركا
حينما يفكر الناس في الجياع يتذكرون  صورا للنساء والاطفال الهزلاء الذين أمضهم الجوع في أعماق العالم الثالث. وقلما تخطر في بالهم اميركا. وقد أجرت مواطنتان اميركيتان بحثا وفيلما وثائقيا، حيث كشفتا للمواطنين الاميركيين ان الذين يعانون من سوء التغذية يمكن ان يكونوا بعض جيرانكم في اميركا بالذات. وعنوان الفيلم "مكان الى المائدة". وقد بدأ مؤخرا عرضه على شاشات السينما في اميركا، التي تعتبر اكثر البلدان غنى وازدهارا في العالم، والتي يبيت فيها كل ليلة عشرات الملايين من الاميركيين وهم جياع.

وتقول كريستي جاكوبسون "ان الكثير من الاميركيين ليس لديهم اي تصور كم هي هذه المشكلة كبيرة". وتضيف لوري سيلفربوش، المخرجة الأخرى للفيلم "في الواقع ان الجوع في أميركا هو غير مرئي".

ان الفيلم ليس عدائيا ودعائيا على طراز افلام مايكل مور، ولكنه دراسة لمسألة كيف أنه في بلد ذي موارد كبيرة فإن حوالى 16% من السكان (وهذا يعني حوالى  50 مليون نسمة) يعيشون في بيوتهم مع نقص في التغذية او على حافة الجوع، في حين ان الاعانات الفيديرالية للزراعة تسيء استخدام الثروة الاجتماعية.

ان التقاعس هو اسوأ استراتيجية ممكنة، لأن العواقب الصحيّة للجوع  وخيمة. وتؤكد جاكوبسون "ان الثمن الذي تدفعه الأمة بأسرها هو باهظ جدا".

الجوع غير المرئي


ولدت فكرة الفيلم بعد اتصال هاتفي من قبل مدير احدى المدارس الابتدائية بتوم كوليتشو، وهو طاه ماهر في نيويورك، وزوج لوري سيلفربوش، وهو المنتج التنفيذي للفيلم. فقبل بعض الوقت كانت لوري وتوم قد اقترحا ان يساعدا الاطفال المحتاجين في شرقي هارلم، وقد اتصل بهما المدير ليقول لهما أن طفلة من المجموعة في الثانية عشرة من عمرها تنقّب في صناديق القمامة عن الطعام.

وتبين أن هذه الفتاة هي واحدة ممن يمكن تسميتهم بالجياع غير المرئيين. وللعين غير المدربة تبدو الفتاة أنها فتاة عادية، ولكن في الواقع هي واحدة من 16 مليون طفل أميركي يعانون من الجوع او من وضعية "فقدان الأمن الغذائي" حيث لعدة مرات في الشهر لا تستطيع العائلة المعينة ان تؤمن لأفرادها طعاما عاديا ومغذيا. وعلقت سيلفربوش "لقد كانت نموذجا مطلقا لطفل ناقص التغذية". وكانت الفتاة تتأخر في دروسها وغالبا ما تنام في ساعات الدرس.

وثائقي يكشف الجوع الملاييني غير المرئي في اميركا
 روزي تذهب احيانا الى المدرسة وهي جائعة الى درجة ان المعلمة تبدو لها اشبه بموزة

وهكذا ولعدة شهور بدأ بحث تفصيلي لهذه الحالة المعقدة وبدأت تظهر صور الفيلم الذي عرض في السنة الماضية في مهرجان للسينما في صاندانس (ولكن تحت اسم آخر هو "ايجاد الشمال"   Finding North).

صحارى غذائية

ان الحديث عن ذلك يمكن ان يفاجئ حتى المطلعين نسبيا على مشكلة الجوع في اميركا. فيوجد في الفيلم أشياء جديدة منها مثلا اكتشاف ما يسمى صحارى غذائية. وهذه مناطق، ليست فقط في الارياف، بل وفي المدن، حيث يوجد في المخازن وفرة من الاطعمة المعلبة والمحفوظة والمشروبات الغازية، ولكنك لا تستطيع ان تجد فاكهة وخضارا طازجة.

وتقول الطاهية ريي هاريس في الفيلم أنه في مدينتها جونستاون، ولاية ميسيسيبي، "لا يوجد مخزن يبيع الفاكهة، ولكن لدينا الشيبس، البوظة والحلويات...". وكما في فيلم "مكان الى المائدة"، كذلك في المعلومات التي تقدمها وزارة الزراعة الاميركية، يشار الى ان 14 مليون اميركي يعيشون في مثل هذه "الصحارى الغذائية"، حيث لا يوجد مكان للفواكه والخضار ومخازن ذات رفوف للمنتوجات الطازجة.

الاعانات في المكان الخطأ

وفي الوقت ذاته فإن العائلات ذات المداخيل المنخفضة وحتى العمال الصناعيين لا يستطيعون أن يسمحوا لأنفسهم ان يشتروا فاكهة وخضراوات طازجة أو أطعمة بروتينية نوعية. وهذا يعني أن الأطعمة نصف الجاهزة والمصنعة تكون أرخص بكثير، والسياسة الفيديرالية للاعانات للمزارعين هي أيضا مسؤولة عن ذلك.

فالمبالغ الكبيرة من الأموال تذهب الى المقاولين الذين وبدون ذلك هم يربحون كثيراً، ولهذا فإن النفقات لصنع المأكولات المصنعة تبقى منخفضة، في حين ان المزارع الصغيرة لا تحصل على دعم مماثل، حتى حينما يريد بعضهم ان يزرع منتوجات طازجة للسوق.

في الثلاثين سنة الماضية ارتفعت أسعار الفاكهة والخضراوات، بمقدار انخفاض أسعار المأكولات المصنعة. ولهذا فإن ثمن إجاصة واحدة الآن يساوي ثمن ساندويش. ويقول في الفيلم المعلم في مادة التغذية في جامعة نيويورك، ماريون نيستله "اننا ننفق سنويا 20 مليار دولار على الإعانات الزراعية، ولكن هذه الاعانات تذهب للأطعمة الخاطئة. وبمثل هذه الأموال يمكن عمل الكثير لاجل التغذية السليمة وتعليم السكان، بدءا من الاطفال".

لنعترف أولا بالمشكلة لاميركا

إن خلطة هذه الوقائع تظهر بشكل مفاجئ للبعض العلاقة بين السمنة وارتفاع الأسعار والنقص في الأغذية الصحية. إن الجوع والكيلوغرامات الزائدة هما ظاهرتان للمشكلة ذاتها.
وثائقي يكشف الجوع الملاييني غير المرئي في اميركا
العاملة باربي ايسكويردو... اجرها لا  يكفي لاطعام عائلتها بشكل طبيعي

ويقترح صانعو الفيلم على المشاهدين أن يشاركوا في حركة وعمليات من شأنها في المرحلة الاولى ان تستثير محادثات ومناقشات توضح كم هي المشكلة كبيرة. وفي المرحلة الثانية يأتي دور المبادرات القانونية والدعوات لاعتبار الموضوع يتعلق بالامن القومي. مثل هذه الحملة جرت بعد عرض فيلم "الجوع في اميركا" (1968)، الذي تبعته مبادرات كثيرة في السبعينات من القرن الماضي.

نظام مختل

إن عشرات ملايين الاميركيين المتضررين يتحملون بصمت مصيرهم. والكثيرون يخشون أن يتحدثوا عن المشكلة، لأنهم يخافون ان يتهموهم بأنهم يعتمدون فقط على المساعدات. ولهذا فإن القليلين هم الذين يعرفون عن الجوع.

وتقول سيلفربوش "اننا كأمة نتمسك كثيرا بقدرتنا على الخروج بمفردنا من المستنقع. اننا مستقلون جدا. ولكن الوجه الاخر لهذه الصورة انه اذا لم يستطع احدهم ان يتغلب على الصعوبات فهذا يعني انه أخطأ في شيء ما وانه الى حد ما هو المسؤول. ان الناس يقبلون ذلك بشكل داخلي، ويخجلون، ويشعرون بالاذلال، وهذا يستمر حدوثه حرفيا امام اعيننا. وحينما كنا نصور الفيلم ادركنا ان الناس ليسوا مسؤولين. ان النظام هو مختل".

بعض الكادرات التي يعرضها الفيلم:

1 ـ التلميذة في الصف الخامس روزي التي تعيش في مدينة ريفية في ولاية كولورادو مع امها وشقيقاتها، وجدها وجدتها. فهم معا يجمعون مدخولا يكفي لأن لا يحصلوا على المساعدة بكوبونات الطعام. ان روزي ليس لها مظهر الفتاة الجائعة، ولكن قصتها جمدت الدماء في عروق المشاهدين حينما وصفت كيف تذهب احيانا الى المدرسة وهي جائعة الى درجة انها تتصور المعلمة بأنها موزة. والمساعدة التي يحصلون عليها احيانا من بنك الأغذية هي ايضا مؤلفة من المأكولات المعلبة نصف المصنعة. وهم لا تكفيهم النقود لشراء الخضراوات الطازجة.

2 ـ وقصة مشابهة هي قصة تريمونيكا الطفلة ذات الـ8 سنوات وذات الوزن الزائد، والتي تعاني من الربو، ولكنها تواصل تناول الاطعمة المعلبة، لان النقود في العائلة لا تكفي لشراء المنتوجات الطازجة.

3 ـ يقول الممثل المشهور جيف بريجيس، الذي يدعم برنامج مكافحة الجوع في اميركا، انه خلال سنة 1980 فإن بنوك التغذية والمطابخ الخاصة بالفقراء كان عددها 200. اما اليوم فقد وصل عددها الى 40 الفا.
*كاتب لبناني مستقل
2013-03-15