ارشيف من :آراء وتحليلات

دلالات وأبعاد الانعطافة الاميركية

دلالات وأبعاد الانعطافة الاميركية


"نريد أن يجلس الأسد و"المعارضة" السورية الى طاولة المفاوضات، بغية تشكيل حكومة انتقالية ضمن الإطار التوافقي الذي تمّ التوصل اليه في جنيف؟"، بهذا الموقف الحاسم والواضح أطاح وزير الخارجية الاميركي جون كيري بالثابتة المركزية التي بنت عليها واشنطن كل مقاربتها للأزمة السورية سواء في الجانب الميداني من خلال توفير كل أسباب الدعم والإسناد السياسي والاعلامي واللوجستي على الصعيدين العسكري والأمني، أم في الجانب المتصل بالمفاوضات السياسية مع الروس تحديداً.

وهذا الموقف، ليس ـ في الحقيقةـ ابن ساعته، ولا يعبر عن زلة لسان، كما إنه ليس مفاجئاً بالمطلق، وإنما هو وليد مراجعات وإعادة تقويم قامت بها الإدارة الاميركية للمسار المتشابك والمعقد للأزمة السورية، وكانت تنتظر تعيين وزير خارجية جديد.

من نافل القول، إن أوباما رفض توصية وزيرة خارجيته السابقة كلينتون، وكذلك توصية رئيس جهاز المخابرات الاميركية بتراوس، آنذاك، وكذلك توصية وزير حربه أيضاً بانيتا، الحاضة على الانخراط العسكري الاميركي في الأزمة السورية، حيث أصرّ أوباما على المقاربة الدبلوماسية لها، وحينما عُيّن كيري وزيراً للخارجية قيل إن أحد اعتبارات تعيينه يتمثل بكونه ـ من جهة ـ ضليعاً بالملف السوري وبالرئيس الأسد الذي يعرفه عن كثب جرّاء لقاءات عدة عقدها معه، وبكونه ـ من جهة أخرى ـ شخصية تفضل الحلول الدبلوماسية على الحلول الأمنية والعسكرية، ليست هذه هي الاعتبارات الوحيدة لدى واشنطن التي أملت عليها هذه الانعطافة في مقاربتها للأزمة السورية،

فإلى جانب ما تقدم يمكن ملاحظة التالي:

أولاً: أحدثت إدارة أوباما نوعاً من القطيعة مع مقاربة ادارة بوش الابن للعلاقات الدولية ولسياسة اميركا الخارجية القائمة على العسكرة، والتدخل المباشر، واستبدالها بالمقاربات الدبلوماسية والضغوط المستقاة مما يعرف بأساليب الحرب الناعمة التي تتطلب هذا النوع الجديد من المقاربة وعدم القفز فوق مجلس الأمن، وتالياً العودة اليه، ما أعطى فرصة أكيدة لكل من روسيا والصين لموازنة الدور الاميركي واستعادة دور الشريك.

هذه الفرصة ما كانت لتكتمل لولا تراجع مكانة الولايات المتحدة الدولية، وانتكاسة استراتيجيتها خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، وتخبطها في أزمات بنيوية معقدة أبرزها أزمتها الاقتصادية ـ المالية، وهنا تحديداً يكمن دور جبهة المقاومة والممانعة في استراتيجية الولايات المتحدة والحؤول دون ترجمتها الى مكاسب استراتيجية خصوصاً على الصعيد الدولي.

ثانياً: ما تقدم، فرض على إدارة أوباما اجراء اعادة ترتيب لأولوياتها، فتقدمت الأزمات الداخلية على ما عداها، وتقدمت منطقة المحيط الهادئ حيث الأولوية لاحتواء الصين على ما عداها.

ثالثاً: صحيح ان سقوط النظام في سوريا وترحيل الرئيس السوري بشار الأسد، يشكلان مصلحة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة وللغرب وللكيان الاسرائيلي ولكل من السعودية وقطر وتركيا، لدواعٍ تتصل بشكل أساسي بمحاصرة ايران واحتواء تنامي قوتها ودورها في المنطقة، وبضعضعة جبهة المقاومة والممانعة في وجه المشروع الامبريالي الاميركي والمشروع الرديف له، أي المشروع الصهيوني، إلا أن انجاز هذا الهدف الكبير اصطدم بجملة حسابات وموانع وتطورات من شأنها ان تجعل كلفته أكبر بكثير من تحقيقه، وذلك استناداً الى الآتي:

أ ـ إن سقوط النظام مع الإبقاء على مؤسسات الدولة بدا كهدف متناقض في بلدٍ كسوريا، حيث الارتباط بين النظام ومؤسسات الدولة وكذلك مع رأس النظام ارتباط عضوي.
ب ـ ان التعويل على المعارضة السورية والمجموعات المسلحة بدا أنه يستند الى أوهام أكثر منه حسابات واقعية، فهذه المعارضة معارضات لا تكاد تجتمع على شيء بالرغم من توفير كل شيء لها تقريباً، يضاف اليها ان المجموعات المسلحة بالرغم من كل الفرص التي منحت لها لم تتمكن من ان تحقق انجازاً معتداً به وقابلاً للاستثمار السياسي او البناء عليه، باستثناء تدمير سوريا، وإغراقها في مشاكل انسانية واقتصادية وقيمية.. الخ..

وأكثر من ذلك، وهنا بيت القصيد الاميركي والغربي عموماً، فإن النفير العام الذي ضرب على مستوى العالم لاستقدام المجموعات السلفية التكفيرية لمقاتلة النظام، بدا أنه آخذ في الانقلاب على أصحابه، لجهة أن من له اليد الطولى عسكرياً اليوم هو هذا النوع من المسلحين، وان اي تغيير في سوريا سيمهد الطريق أمام هؤلاء، وسيفتح سوريا على مقتلة عظيمة، وفوضى أعظم، لن تقف عند حدود سوريا، بل إن تداعياتها ستشمل عموم المنطقة، ولا سيما ان المناخات والظروف مهيأة لها.

وما زاد من درجة القلق الاميركي هو حجم ترسانة الأسلحة الكيميائية والنوعية التي تملكها سوريا، والتي يمكن ان تقع بسهولة في ايدي هذه المجموعات، أو انتقالها الى ايدي خصومها، الأمر الذي يمكن ان يشكل تهديداً أمنياً كبيراً للغرب عموماً، وللكيان الإسرائيلي على نحو خاص.
ج ـ بدا النظام في سوريا أقوى من كل الحسابات والرهانات على سقوطه سريعاً، حيث استطاع الصمود، والإمساك بزمام المبادرة، مستنداً الى دعم دولي نوعي ودعم اقليمي مماثل.

د ـ صحيح ان التقديرات الاميركية ما زالت تقول بأن الرئيس السوري سيرحل عاجلاً أم آجلاً، ولا تعطيه من العمر ـ بحسب تقديرها ـ الا القليل، الا أنها ـ في الوقت نفسه لديها حالة من عدم اليقين إزاء هذا العمر القليل الذي يمكن ان يمتد الى سنوات وسنوات، كما لديها حالة من عدم اليقين ازاء مستقبل سوريا لاحقاً في ما لو غادر الأسد وسقط النظام.
هـ ـ تدرك واشنطن ان بلداً كسوريا في موقعها الجيوبوليتيكي والجيو استراتيجي الفائق الأهمية اذا ما سقط لأي سبب من الأسباب، فإن تداعيات هذا السقوط ستكون مدوية على مستوى المنطقة، ويمكن ان يؤدي الى انفجار شامل لا تريده في هذه المرحلة، ويناقض مجمل توجهاتها السياسية.

و ـ بدا ان واشنطن ايضاً تملك أهدافاً أكثر مما تملك استراتيجية واضحة لتحقيقها.

كل هذه الاعتبارات، هي التي أوصلت واشنطن الى ما عناه كيري، أي:
أ ـ العودة الى الاعتراف بدور للرئيس السوري، بعد كلام كثير عن ضرورة رحيله.
ب ـ الموافقة على المقاربة الروسية للأزمة السورية.
ان ادراك حلف المتضررين من التقارب الروسي ـ الاميركي بأن هذا التقارب بات جدياً، وهو بصدد فرض نفسه على الجميع، دفع هؤلاء الى اتخاذ مجموعة من الخطوات الاعتراضية لإفشال هذا التقارب من خلال فرض وقائع سياسية وميدانية، أبرزها:

أ ـ دفع المعارضة الى تشكيل حكومة مؤقتة، أو هيئة تنفيذية كخطوة ضرورية لمنحها موقع سوريا في الجامعة العربية والقمة العربية المزمع عقدها في الدوحة ما بين 26 و 28 من الشهر الجاري.
ب ـ اتخاذ قرارات سريعة بزيادة شحنات الأسلحة كماً ونوعاً للمجموعات المسلحة، التي من شأنها ان تعدّل من موازين القوى الميداني لمصلحة المعارضة.
ج ـ تطهير الخلاف داخل ائتلاف المعارضة لجهة احتواء خطوة رئيسة معاذ الخطيب الداعية الى الحوار مع النظام، والعمل على اجهادها والدفع باتجاه استبداله.
د ـ الاعلان عن رفض أي حوار مع النظام قبل سقوطه، وكذلك مع الأسد.

في هذا السياق، تبدو الأزمة السورية وكأنها في سياق بين الحل السياسي والحل العسكري، الذي قد لا تبدو واشنطن متضررة منه اذا كان من شأنه ان يخدم موقعها التفاوضي، والمقياس هنا يبقى في مدى الضغوط التي ستمارسها واشنطن للحد من العسكرة، والدفع باتجاه الحل السياسي، ويبقى على النظام ان يخوض معركة إثبات وجود من خلال إفشال ما يخطط له من معارك وحروب جديدة، قد تشكل المخاض الأخير لولادة الحل السياسي.

وهنا تبقى ملاحظة لا بد منها لاتصالها بالتطور الاميركي الخاص بالأزمة السورية، وتتعلق بالتطور المماثل في مقاربة الملف النووي ـ الايراني، فهل نحن أمام مشهد تسووي في بدايات انطلاقاته، من شأنه ان يشمل اكثر من ملف؟ الاحتمال هنا قوي، وإن كانت العبرة تبقى بالنتائج الأخيرة، ولا سيما أن المتضررين كثر بدءاً من التحالف الموضوعي الذي يضم اليوم النظام السعودي ـ قطر ـ تركيا ـ والكيان الاسرائيلي.
في مطلق الأحوال، ان الأيام والأشهر المقبلة ستشهد اختباراً قوياً للحل السياسي الذي لن يمر ـ كما يبدو ـ من دون معمودية نار.




2013-03-16