ارشيف من :آراء وتحليلات
تونس: الأزمة السياسية تراوح مكانها والمعارضة تلوح بالتصعيد
رغم إصدار "بطاقة جلب" من قبل النيابة العامة بحق المقاتل السلفي الجهادي العائد من سوريا المدعو "أبو زيد"، ورغم منع معارض سوري متورط في تجنيد الشباب التونسي للقتال في سوريا، من دخول الأراضي التونسية ـ الأمر الذي اعتبره البعض تغييراً في سياسة الحكومة الجديدة التي منحت فيها الحقائب السيادية للتكنوقراط ـ إلا أن التونسيين لم يلمحوا اختلافات كبيرة بين سياسات هذه الحكومة وسابقتها برئاسة حمادي الجبالي.
فأغلب وزراء الحكومة السابقة حافظوا على مواقعهم رغم إقرار رئيسهم المستقيل بفشل حكومته واعتذاره صراحة للشعب التونسي عن هذا الفشل، ومنهم وزيرة شؤون المرأة والأسرة سهام بادي، التي تنتمي إلى حزب الرئيس المرزوقي ما جعل الأخير يصر على احتفاظها بحقيبتها في إطار المحاصصة بين أحزاب الترويكا. ما جعل جهات إعلامية محسوبة على المعارضة، تشن حملة إعلامية شعواء على هذه الوزيرة التي ستمثل قريبا أمام المجلس الوطني التأسيسي من أجل المساءلة وسحب الثقة.
حكومة لم تجتمع
ومن بين ما يعيبه البعض على الحكومة الجديدة أنها لم تجتمع رسميا إلى الآن في مجلس وزاري لتدارس أوضاع البلاد الصعبة وذلك رغم مرور أكثر من شهر على تشكيلها. كما إن الحكومة السابقة بقيت لأشهر من دون أن تجتمع في القصبة (مقر الحكومة) أو حتى في قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية)، وهو ما يعني، بحسب عدد من الخبراء والمحللين، أن البلاد تشهد شللا تاما منذ الضائقة الماضية، أي حتى قبل اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد.
كما إن المجلس الوطني التأسيسي الذي وعد رئيسه السيد مصطفى بن جعفر بالتفرغ من كتابة الدستور مع نهاية سنة 2012 لم يتم مهمته بعد. وهو منشغل عن كتابة الدستور بسن ما يسمى بـ"قانون تحصين الثورة" أو ما تسميه المعارضة قانون الاقصاء السياسي الذي يهدف من خلاله الفريق الحاكم إلى إبعاد الخصوم السياسيين الحقيقيين ومنهم رئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي عن دائرة المنافسة باعتبار أن استطلاعات الرأي ترشحه للفوز في حال إجراء انتخابات رئاسية.
القضاء والإعلام
يعتبر القضاء المستقل والاعلام الحر ركيزتي البناء الديمقراطي وهو ما يسعى التونسيون إلى تحقيقه منذ اندلاع شرارة ثورتهم وقد حققوا بعض التقدم في هذا المجال قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011، لكن بعد هذا الموعد بدا وكأن الفريق الحاكم الجديد غير راغب في تحقيق هذين المطلبين ويرغب في الحفاظ على ذات الآليات التي هيمن من خلالها بن علي على دواليب الدولة ومن ذلك الاعلام الذي كان يطبل للرئيس ليل نهار، والقضاء الذي كان مسلطا على خصوم النظام السياسيين.
وقد ماطل حكام تونس الجدد في سن القانون المتعلق بالهيئة الوقتية المستقلة المشرفة على القضاء ليبقى القضاة خاضعين لسلطة وزير العدل في هذه المرحلة الانتقالية. كما ماطلوا أيضا في تفعيل المرسوم المتعلق بالهيئة المستقلة المشرفة على الاعلام وبقي القضاء "مرجع" السلطة في تسليط العقوبات السالبة للحرية على إعلاميين لم يدخلوا بيت الطاعة ويعلنوا عن ولائهم للفريق الحاكم. وحتى مشروع القانون الذي تم الاعلان عنه مؤخراً والمتعلق بإنشاء الهيئة المستقلة المشرفة على القضاء، والذي رضخت من خلاله الترويكا الحاكمة لمطالب التونسيين لم يرض قضاة تونس وهياكلهم الرسمية وممثليهم باعتبار أن أعضاء هذه الهيئة غير منتخبين بالكامل في هذا القانون، إذ ستقع تسميتهم من قبل رئيسي الحكومة والجمهورية وهو ما يعني عمليا وضعا أسوأ مما كان سائدا في عهد بن علي الأمر الذي دفع بقضاة تونس إلى التحرك والخروج إلى الشارع.
قضية شكري بلعيد
ولعل ما يزيد الطين بلة هو تأكيد الجبهة الشعبية وحزب الوطنيين الديموقراطيين المستمر في وسائل الاعلام، أن التحقيق في اغتيال شكري بلعيد لا يسير في الاتجاه الصحيح، وتؤكد هذا القول أرملة الشهيد وكذلك أفراد عائلته الذين تظاهروا أمام قصر العدالة بالعاصمة معبرين عن عدم رضاهم بشأن سير التحقيقات. ويؤكد هؤلاء كما جانب كبير من الرأي العام التونسي أن الجهات الحكومية تعرف قتلة شكري بلعيد وكذلك الجهات الأمنية، باعتبار أن البوليس التونسي الذي كان مصدر قوة النظام السابق لديه من الامكانيات البشرية واللوجستية ما يجعله قادرا على تفكيك أعتى الشبكات الاجرامية والمخابراتية في فترة زمنية وجيزة لو توافرت الارادة السياسية.
ويقول السيد زياد الأخضر الأمين العام الجديد لحزب الوطنيين الديمقراطيين الذي خلف شكري بلعيد بأن حزبه قدم للجهات المكلفة بالتحقيق رقم السيارة التي كانت تجوب المنطقة التي تم فيها اغتيال بلعيد، لكن هذه الجهات لم تتحرك للبحث عن هذه السيارة. ويتداول في مواقع التواصل الاجتماعي بأن هذه السيارة على ملك شركة يساهم فيها أحد قياديي حركة النهضة لكن لم يتم تأكيد هذه المعلومة.
ولعل ما يزيد من احتقان الشارع هو رفض حكومة العريض الجديدة تبني نتائج التحقيق المتعلقة بأحداث سليانة والاعتداء على النقابيين في معقلهم في ساحة محمد علي حيث مقر الاتحاد العام التونسي للشغل. وذلك بالرغم من أن هذه التحقيقات قد أجريت من قبل لجان مستقلة. ويعود سبب الرفض إلى تورط رابطات حماية الثورة، وفقا لما جاء في أعمال اللجان، في العنف المسلط على النقابيين وتورطهم أيضا في محاولة انقلابية فاشلة على قيادة الاتحاد الشرعية المنتخبة من قبل عموم النقابيين.
فإدانة هذه الرابطات رسميا تعني إمكانية حلها قضائيا وفقا للقانون المنظم للجمعيات في تونس، وهو ما لا يريده الفريق الحاكم الذي يستفيد من هذه الرابطات في إفساد اجتماعات المعارضة. وتطالب جهات عديدة منذ مدة بحل هذه الرابطات لاعتبارها أن وجودها يخلق مناخا من الفوضى قد يعيق إجراء الحملات الانتخابية، لكن هذه المطالبات لا تجد آذانا صاغية من قبل الترويكا الحاكمة التي تدافع عن هذه الرابطات وعن حقها في الوجود.
الإقتصاد: المتضرر الأكبر
وقد انعكست هذه الأزمة السياسية على الاقتصاد الوطني حيث تتفق الوكالات الأربع المختصة في التصنيف الائتماني للدول على أن تونس باتت دولة غير قادرة على سداد ديونها بانتظام، وأنها دولة ذات مخاطر على الاستثمار الأجنبي. ما يعني أن المؤسسات المالية لن تمنح قروضا إلى تونس إلا بضمانات، ومنها أن تتكفل دولة أجنبية بالسداد وتتعهد بذلك للبنك الدولي، وهو ما حصل بالفعل. فقد لعبت الولايات المتحدة هذا الدور منذ فترة وجيزة وأعربت عن استعدادها لتكفل تونس في قرض جديد يقدر بملياري دولار باعتبار "العلاقة الحميمية" بين واشنطن وحركة النهضة. ومن المؤكد أن هذا "الكرم الحاتمي" الأمريكي لن يكون بصورة مجانية.
ويُجمع جانب هام من الرأي العام في تونس على أن سياسة التداين التي باتت تلجأ إليها حكومات النهضة لن تزيد البلاد إلا تبعية إلى الخارج وتؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وأن الحل للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية هو الخروج من الأزمة السياسية وذلك بتحديد مواعيد سياسية دقيقة ضمن خارطة طريق تنهي المرحلة الانتقالية الثانية، وبكف حركة النهضة عن محاولة الهيمنة على دواليب الدولة من خلال تسمية موظفين على أساس الولاء لا الكفاءة. فأغلب الوكالات التي خفضت تصنيف تونس الائتماني تُجمع على أن السبب يعود إلى ضبابية المشهد السياسي التونسي الذي تحمّل المعارضة مسؤوليته للحكومة.