ارشيف من :آراء وتحليلات
حسم اسم رئيس الحكومة لتبدأ معركة التأليف

اختار الرئيس ميقاتي الوقت الذي يلائمه على نحوٍ مطلق ليعلن استقالته، رامياً كرة مسؤولية كل الاستحقاقات التي تنتظر لبنان داخلياً وسورياً في ملعب الجميع، ومطلقاً في الوقت نفسه دينامية سياسية هي مزيج من الفرص والتحديات، ومزيج من خلط للأوراق والحسابات الصعبة بل والمعقدة، والتي تحمل في طياتها بذور سيناريوهات متنوعة لمسار الأزمة اللبنانية ولموقع لبنان في المعادلة الدولية ـ الإقليمية، يتوقف كل منها على الخيارات التي سيعتمدها الأفرقاء اللبنانيون الأساسيون في مقاربتهم للأمور.
في هذا الإطار، كيف تبدو صورة المشهد الداخلي، وما هي مآلاته المحتملة؟
أولاً: يؤكد رئيس الجمهورية إصراره على جملة أمور أساسية، هي:
أ ـ إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها المقررة دستورياً.
ب ـ رفض حاسم لفكرة التمديد للمجلس النيابي ما لم يتبنَّها كل الأفرقاء.
ج ـ إجراء الانتخابات وفق قانون الستين باعتباره ما زال ساري المفعول قانونياً، والاستمرار في اتخاذ كل الإجراءات اللازمة على هذا الصعيد.
د ـ التمسك بالمواعيد المقررة لإجراء الاستشارات النيابية.
تتقاطع مواقف رئيس الجمهورية هذه مع المطلب الأمريكي الذي عبرت عنه بوضوح السفيرة الأمريكية كونيللي بعيد لقائها المشهور مع الرئيس بري.
لا شك، أن هذا الموقف يتقاطع مع مصالح طرفين رئيسيين على الأقل هما تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط اللذين بذلا جهداً استثنائياً لفرض قانون الستين كأمر واقع باعتباره القانون الأنسب لمصالحهما النيابية والسياسية.
ولا شك أيضاً، أن هذا الموقف يتعارض مع مصالح أطراف كبيرة وواسعة أيضاً أبرزها التيار الوطني الحر وحزب القوات وحزب الكتائب مسيحياً، وتحالف أمل ـ حزب الله إسلامياً.
هذا الواقع يستدعي القراءة التالية لسلوك رئيس الجمهورية:
أ ـ أن يكون سليمان قد حسم أمره نهائياً لمصلحة تيار المستقبل والنائب جنبلاط داخلياً، ولتنفيذ الإملاءات الأمريكية خارجياً، الأمر الذي يضعه في موقف الطرف، والذي من شأنه أن يحمله كل تداعيات هذا الخيار داخلياً، وخصوصاً أن سليمان يدرك تمام الإدراك أنه لن يتم التسليم بأي عملية انقلاب تقلب التوازنات الداخلية لمصلحة فريق ضد فريق آخر في لحظة بالغة الحساسية محلياً وإقليمياً. فهل سليمان مستعد لتحمل تبعات قرار واشنطن الإطاحة بالاستقرار، أم أن هناك رهاناً بأنه لن تكون هناك ردود أفعال من الوزن الذي يطيح بالاستقرار.
ب ـ أن يكون سليمان ـ وعلى طريقة ميقاتي ـ يريد أن يحشر الجميع ليدفعهم إلى تحمل مسؤولية عدم إجراء الانتخابات في وقتها، ومن ثم التمديد.
ج ـ أن يكون سليمان يريد الضغط بهذه المواقف على تحالف عون ـ أمل ـ حزب الله تحديداً لحملهم ـ خصوصاً ـ الأول على الاختيار بين إجراء الانتخابات حسب قانون الستين وفي وقتها المقرر، وتأجيل الانتخابات وبالتالي التمديد ليس فقط للمجلس النيابي، وإنما أيضاً لموقع رئاسة الجمهورية تحديداً، وربما أيضاً للعديد من المواقع العسكرية والأمنية والإدارية.
وفي مطلق الأحوال، فسواء أكانت مواقف سليمان تكتيكية، أم تعكس التزامات خارجية، فهي تخدم فريق الرابع عشر من آذار أكثر من أي أحد آخر، حيث توسع لديه من هامش المناورة والضغوط، في مقابل تضييقها لدى الطرف الآخر.
ثانياً: يتصرف فريق الرابع عشر من آذار عموماً وتيار المستقبل تحديداً وكأن ما حدث ويحدث هو بمثابة فرصة قوية له للعودة إلى السلطة، ولإعادة تحسين التوازنات الداخلية لمصلحته، معتبراً أن زمام المبادرة بات بيده مجدداً. ولذا، فهو يعمد إلى استخدام لغة هادئة وغير استفزازية حتى الآن في سياق تحسين ظروف هذه العودة، وهو يعمل من جهة أخرى على إرسال رسائل جس نبض أو بالونات اختبار ليبني على الشيء مقتضاه.
وبالرغم من ذلك، تسجل هنا الملاحظات التالية:
أ ـ حسم هذا الفريق اسم رئيس الحكومة المفترضة لمصلحة النائب تمام سلام الذي أرسل وراءه على عجل إلى الرياض، وهذا الحسم سيجاريه حكماً النائب وليد جنبلاط، معتبراً أنه يكفيه بالنسبة لقوى الثامن من آذار أنه لم يتبنَّ اسماً استفزازياً لها كالسنيورة أو الحريري. وبهذه الاعتبارات يمكن القول إن اسم رئيس الحكومة حسم، لتبقى معركة تشكيل الحكومة، ومضمون بيانها الوزاري، والمهام التي ستناط بها.
ب ـ لا تزال التباينات موجودة حول قانون الانتخابات المفترض إجراؤها عليه. صحيح أن حزب القوات انقلب على الأرثوذكسي، وحزب الكتائب وضع نفسه في موقع القابل لاتخاذ أي موقف في ما يشبه القيام بنصف انقلاب، إلا أن كليهما لا يزال يرفض إجراء الانتخابات وفق قانون الستين.
هذا الموقف بقي صالحاً بدوره لحدود اجتماع بكركي الأخير الذي جمع إلى البطريرك أقطاب الأطراف المسيحية الأساسية، حيث جرى قلب الطاولة مجدداً لمصلحة التأكيد على:
أ ـ عدم التقدم بالترشيحات على أساس الستين.
ب ـ تعليق موضوع القانون الأرثوذكسي إفساحاً في المجال للوصول إلى قانون جديد يتم التوافق عليه، وذلك خلال شهر من تاريخ إصدار هذا الموقف.
ج ـ في حال عدم الوصول إلى اتفاق على قانون جديد يتم تبني الأرثوذكسي مجدداً، والدفع لطرحه على الهيئة العامة للمجلس.
لا شك، أن هذا الموقف هو برسم رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى، وبرسم أي حكومة جديدة يمكن أن تتشكل، لما يعنيه من تأكيد على دفن قانون الستين سياسياً، ودفن أي محاولة لفرضه كأمر واقع، وهو يفتح الباب واسعاً أمام تمديد ولو تقنياً للمجلس الحالي.
ومن الملاحظ هنا، أن المجتمعين لم يُقاربوا مسألة الحكومة اسماً وشكلاً، ما يعني أن حساباتهم مختلفة، وأن لا رغبة لأي منهم بربط المسألتين بعضهما بالبعض الآخر.
د ـ يقوم تيار المستقبل بإرسال إشارات متناقضة لجهة قانون الانتخابات، فهو من جهة يعلن صراحة أن الإجماع اللبناني هو على قانون خليط من الأكثري والستين وبما يوحي أنه ما زال منفتحاً على التوافق على قانون كهذا، ومن جهة أخرى يهيئ نفسه لتقديم طلبات الترشيح وفق قانون الستين.
وأما بالنسبة للحكومة فهو يتصرف بأنه هو من يملك مفتاح تسمية رئيسها مع إظهار ميلٍ واضح لعدم استفزاز الطرف الآخر لاعتبارات عدة أبرزها:
أ ـ رغبته في إمرار الاستحقاق الحكومي بهدوء.
ب ـ رغبته ربما في المحافظة على الهدوء والاستقرار في المرحلة المقبلة، ربطاً بعملية الانتظار المطلوبة لما يجري في سوريا في المرحلة المقبلة.
ج ـ يكفيه في هذه المرحلة عودته إلى السلطة ولو من خلال الصف الثاني أو الثالث، بدلاً من بقائه خارجها.
ثالثاً: يتموضع النائب جنبلاط في موقع بالغ الدقة والحساسية، وذلك وفق التالي:
أ ـ فهو لا يريد أن يتبنى موقفاً يغضب الرياض وسعد الحريري، ولذا نسب إليه أنه لن يوافق على ما لا يوافق عليه الحريري.
ب ـ وهو لا يريد أيضاً أن يغضب حزب الله ويتخذ موقفاً يرى فيه الحزب تصرفاً عدائياً أو انقلاباً جديداً من جنبلاط على تعهداته.
ج ـ يدرك جنبلاط أنه في ظل عدم وجود تسويات سياسية كبرى تنتج عن تفاهمات أو توافقات بين الكتل الكبيرة، فإنه يبقى يشكل بيضة القبان في المعادلة والحسابات الداخلية للأطراف، ولذا فهو يحتل محور المشاورات والاتصالات الداخلية والخارجية الآن، وهو بالتالي يتحمل مسؤولية باهظة.
د ـ لا شك، أن ما يريح جنبلاط أن ينجح في مد بساط التوافق بين الأطراف الأساسية المتصارعة، حتى لا يجد نفسه في موقعٍ حرجٍ أو مضطرٍاً لأخذ مواقف لمصلحة طرف على حساب الآخر.
هـ ـ إن جنبلاط ـ وكثمن مباشر لتسوية أموره مع الرياض ـ سيسمي من تسميه، وهو فعل ذلك، مع إظهار الحرص على أن يكون الاسم ـ هو سلام ـ استفزازياً ويشكل تحدياً لحزب الله. وهو كان واضحاً في مقابلته الأخيرة لجهة القول إنه رفض اسم اللواء ريفي لأنه يشكل تحدياً لحزب الله ليبرر في الوقت نفسه السير باسم سلام، وكأنه يقول إنه اختار بين من يشكل اسمه تحدياً واستفزازاً، ومن ليس هو كذلك وإن كان محسوباً بالكامل على فريق الرابع عشر من آذار.
إلا أن المهم في مواقف جنبلاط هو تأكيده العلني أنه لن يصوت أو يشارك في حكومة غير وفاقية ويغلب عليها اللون الواحد، في ما يبدو محاولة منه لدفع الجميع نحو طاولة التفاهم الذي يبقى الأفضل له.
رابعاً: لا تبدو حسابات تحالف عون ـ أمل وحزب الله مريحة أيضاً لاعتبارات عدة أبرزها:
أ ـ إدراك هذا التحالف صعوبة إن لم يكن استحالة العودة إلى الوضع السابق، أي إلى انتاج الحكومة السابقة أو نظير لها لاعتبارات متنوعة، أهمها أن الظروف تبدلت أولاً، وأن ميقاتي الجديد لن يكون ميقاتي السابق، كما أن الحكومة الجديدة لن تكون محاكاة للحكومة السابقة، خصوصاً في ظل حسابات جنبلاط الجديدة.
ب ـ استمرار التباين في الحسابات والتقديرات بين مكوّناته لا سيما بين عون وبري، ما يصعّب من الوصول إلى تفاهمات مشتركة حول المرحلة المقبلة.
ج ـ اصطدام هذا التحالف بممر إلزامي اسمه النائب جنبلاط، وبالتالي ضرورة التفاهم معه.
د ـ إن المفاضلة لدى هذا التحالف دقيقة لكونها تحديداً لا تتم بين الجيد والسيئ وإنما بين السيئ والأسوأ.
خلاصة القول هنا، إننا في مواجهة سيناريوهات مفتوحة على الاحتمالات التالية:
أولاً: أن يكون هناك قرار كبير بالإطاحة بالاستقرار في لبنان لمصلحة أخذه إلى سياق الترتيبات التي يعمل عليها في الدول المحيطة بسوريا خصوصاً في العراق والأردن، ولزيادة الضغوط الأمنية والعسكرية والسياسية على النظام في سوريا.
ثانياً: أن يكون قرار المحافظة على الاستقرار ما زال معمولاً به ما يعني بدوره توفير كل مستلزماته الضرورية والتي منها الإتيان بحكومة لا تكون مستفزة، وربما وفاقية أيضاً، ولفترة تقطيع الاستحقاقات الرئيسة، أو ملء الفراغ ولو بالتأليف من الآن وحتى إنضاج مسار الأمور أكثر في المنطقة وسوريا.
ثالثاً: أن يكون هناك قرار بتعميم حالة الفراغ في لبنان وصولاً إلى فتح أبواب التغيير الكبير على مصراعيه خصوصاً في ما يتعلق بإنتاج تسوية جديدة في لبنان، قد تكون جزءاً من التفاهمات الأشمل في المنطقة.
إن الكيفية والطريقة التي ستسلكها الاستحقاقات الداخلية، ستشكل مرآة واضحة لأي من السيناريوهات السابقة التي ستكون هي المرجحة.
ومن المؤكد، أننا من الآن دخلنا في مرحلة دقيقة لا يمكن خوض حساباتها إلا كل يوم بيومه، وتبقى كل الأمور مرهونة بما هو آتٍ على سوريا، وما يجري في المنطقة، وما ستؤول إليه الأمور في النهاية. وربّ تطور مفاجئ قد يقلب كل المشهد رأساً على عقب، وقد يأتي من حيث لا يتوقع أحد.
وفي النهاية، إذا كانت معركة اسم رئيس الحكومة قد حسمت، فإن معركة التأليف لم تبدأ بعد وتبقى هي المحك إلى جانب معركة قانون الانتخابات أو إجراء الانتخابات نفسها. باختصار، المسار ما زال طويلاً ومفتوحاً أيضاً على الكثير من الأشياء.
وفي النهاية، إذا كانت معركة اسم رئيس الحكومة قد حسمت، فإن معركة التأليف لم تبدأ بعد وتبقى هي المحك إلى جانب معركة قانون الانتخابات أو إجراء الانتخابات نفسها. باختصار، المسار ما زال طويلاً ومفتوحاً أيضاً على الكثير من الأشياء.