ارشيف من :آراء وتحليلات
المعلن والمستور في حسابات التأليف
ما زالت عملية تأليف الحكومة متعثرة لأكثر من سبب أبرزها الآتي:
أولاً: الطريقة التي اعتمدت لإخراج عملية التكليف، والتي جاءت استفزازية على الأقل شكلاً لمجمل أطراف قوى الثامن من آذار وحلفائهم. فلقد حرص المخرجون على تقديم عملية التكليف بلغة انتصارية وحاسمة في تغليب مرجعية على مرجعية، ومكوّنات على مكوّنات أخرى، الأمر الذي أفقد من اللحظة الأولى أي طابع حيادي للرئيس المكلف، فالاحتضان السعودي القوي مع امتداداته المحلية له وضعه في خانة الطرف لا في خانة الحيادي.
ثانياً: ما عزز الصورة الآنفة هو الأداء المتعالي والمبالغ في إظهار قوته للرئيس المكلف، حيث من ينظر في مواقفه لا يرى فيها إلا لغة قائد عسكري كسب معركة ويريد فرض شروطه على خصومه: الحكومة جاهزة ـ والاستعداد لفرضها أمر واقع جاهز ـ القرار بعدم خوض أي نقاش حولها متخذ ـ والرئيس المكلف وحده وبضميمة رئيس الجمهورية فقط، ربما لكونه في الأجواء نفسها أو للحاجة إلى توقيعه لمراسيم إصدار التشكيلة الحكومية. فهما من يقرران صيغة الحكومة، وتوازناتها، وتوزيع حقائبها. الشرط الوحيد الذي وضعه الرئيس المكلف على نفسه هو أن لا تكون حكومته مستفزة للآخرين. والمفارقة هنا أن كل مقدمات التأليف هي أكثر من مستفزة، فكيف الحال مع نتائجها. والمطلوب ـ في المقابل ـ من الأطراف الآخرين التسليم بما يعرض عليهم.
الفجاجة السياسية بلغت حد اعتبار تسمية قوى الثامن من آذار والتيار الوطني للرئيس المكلّف عبئاً عليهم لا عليه، وكأنه يقال لهم الخطأ خطأكم إذ سميتموني، ولا جميل لكم في رقبتي، وهذا كلام خارج عن أي مألوف سياسي ـ قيمي بالدرجة الأولى، بل خارج عن أي منطق سياسي، إذ بدلاً من العمل على استثمار الإجماع السياسي وترجمته عملياً يتم العمل على تقويضه.
ثالثاً: لم يدع تيار المستقبل وتوابعه الآذارية فرصة لتأكيد مدى التطابق بين مواقفهم من التأليف شكلاً ومضموناً ومواقف رئيس الحكومة، الأمر الذي ألغى عملياً أي تأكيد يمكن أن يصدر عن الرئيس المكلف بالحيادية، وأنه على مسافة واحدة من الجميع.
رابعاً: أحيطت عملية التأليف بمناخات لافتة تستدعي التوقف عندها للوقوف على حقيقة دلالتها، وهي:
أ ـ تسريب معطيات عن وجود توافق سعودي ـ إيراني على اسم الرئيس المكلف.
ب ـ إشاعة معلومات أيضاً عن اتصالات سعودية ـ إيرانية ـ حزب اللهية.
ج ـ تصدير مواقف إيجابية مصدرها الرياض تارة، وتيار المستقبل تارة أخرى، تتحدث عن مرحلة جديدة من الانفتاح ومد اليد.
د ـ إشاعة معطيات عن دور خفي للرئيس بري في عملية الإطاحة بالحكومة السابقة بالتعاون المسبق مع النائب جنبلاط، وبتسمية الرئيس الحالي.
هـ ـ العمل على مد جسور علاقة مع التيار الوطني الحر.
هناك من رأى في هذه المعطيات رسائل جس نبض، وإظهار حسن نوايا، في محاولة واضحة لتطمين الأطراف الأخرى، واحتوائها. إلا أن هناك من رأى أيضاً، خصوصاً في ظل التثبت ـ على الأقل ـ من عدم وجود اتصالات فعلية، أو توافقات مسبقة سعودية ـ إيرانية ـ حزب اللهية، بل على العكس، ثمة من يقول إن ما نشهده اليوم هو حرب شعواء تقودها السعودية في أكثر من مكان، وعلى أكثر من جبهة ضد الجمهورية الإسلامية، ما يعني بدوره أن كل ما تقدم لا يعكس قناعات لدى هذه الأطراف بضرورة التواصل والتفاهم، بقدر ما يعكس تكتيكات تستهدف ضرب وحدة وتماسك التحالف القائم بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر من خلال إثارة الشكوك في نواياهم، وزرع الظنون، ما يمهد لنقزة متبادلة توهن من هذا الصف، وتفتح الطريق لأخذه بالمفرق حيث لا يمكن أخذه جملة.
خامساً: سارع تيار المستقبل إلى لعبة خلط أوراق في ما له علاقة بتأليف الحكومة، لعبة تكشف المستور أو القطب المخفية التي تحرك عملية التأليف، وتتمثل بالآتي:
أ ـ القذف بفكرة تداول الحقائب، المعني الأول بهذه الفكرة هو عون لجهة نزع حقيبتي الطاقة والاتصالات منه، وذلك لاعتبارات أمنية وجيوبوليتيكية تتصل بالمحرك الرئيسي للصراع الدائر اليوم على طول الشاطئ الشرقي للمتوسط بدءاً من سواحل فلسطين المحتلة ومروراً بلبنان وسوريا ووصولاً إلى قبرص، حيث الكلام عن مخزون نفطي وغازي كبير.
ب ـ بعث رسالة إعلامية ـ مستقبلية للحزب تدعوه إلى مقايضة الضمانات في الحكومة بتقديم تنازل من قبله بأحد ثلاثة عناوين: دوره في سوريا ـ سلاح المقاومة ـ البيان الوزاري. بمعزل عن ظروف وحيثيات هذه الرسائل، فإنها كاشفة عن الحقيقة العميقة ولما يريده هذا الفريق ومن يقف وراءه من استثمار سياسي لعملية التأليف.
نعم، هناك من يحاول أن يوفق بين الرسائل الإيجابية التي يدأب على إرسالها السفير السعودي، والمواقف المتطرفة للرئيس المكلف، من خلال ردها إلى وجود صراع تيارين في السعودية: الأول، يقوده بندر وفي فلكه يدور تيار المستقبل والرئيس المكلف، والثاني، يقوده الملك عبد الله بشخص ابنه مقرن. الأول يريد أخذ الأمور إلى الآخر، بينما الثاني يريد البحث عن مساحات توافقية، ولا يريد دفع الأمور إلى الصدام والانفجار في لبنان.
سادساً: ذهاب تحالف أمل ـ حزب الله ـ التيار الوطني بمواقف موحدة إلى رئيس الحكومة، الأمر الذي شكل رداً عملياً على أي مناورة تستهدف وحدة وتماسك هذا التحالف. كما شكل تقوية للموقف السياسي لهذا التحالف في مواجهة الرئيس المكلف ومن يقف وراءه الأمر الذي من شأنه أن يدعوهما إلى مراجعة حساباتهما.
سابعاً: إن ثبات النائب جنبلاط على تعهداته العلنية وغير العلنية بأنه لن يمنح الثقة لأي حكومة لا يوافق عليها المكوّن الشيعية ممثلاً بحركة أمل وحزب الله من شأنه أن يسهم بدوره في دفع الرئيس المكلف إلى مراجعة حساباته.
ثامناً: بدا واضحاً أيضاً أن سكرة حماسة التكليف بدأت تخفّ تدريجياً لمصلحة رؤية الأمور بواقعية، وأخذ كل الوقائع الصلبة بعين الاعتبار، تجنباً لأي دعسة غير محسوبة. ولذا بدأنا نشهد تغييراً ولو بسيطاً في مواقف الرئيس المكلف، إلا أنه تغيير مؤثر، فبعد الإصرار على التسرع، بدأنا نسمع كلاماً عن أن السرعة مطلوبة لكن التسرع مرفوض، وأن لا سقف لمهلة التأليف. وبعد أن كان الرئيس المكلف قد حسم أمره لمصلحة حكومة غير سياسية بدأنا نسمع كلاماً عن حكومة تجمع بين السياسيين وغير السياسيين... إلخ، الأمر الذي بعني عملياً أن مياه التأليف الراكدة أخذت تتحرك ولو تحركاً طفيفاً، ذلك أن رحلة التأليف دونها محطات ليست بالسهلة تبدأ بحسم هوية الحكومة وتمر بتوازناتها وتوزيع الحقائب فيها وتنتهي ببيانها الوزاري. وكل ذلك وسط تشابك وتداخل الحسابات المحلية بالاعتبارات الإقليمية والدولية وحسابات النفط والغاز.