ارشيف من :آراء وتحليلات

الجيش السوري ... النصف المليء من الكأس

الجيش السوري ... النصف المليء من الكأس
عامان على هذه الحرب الشرسة في سوريا وعليها؛ أو لعلها في المحصلة حرب سوريا على نفسها. هي حربٌ اختلطت فيها أوراق. بدأ الأمر بحادث عرضي في حي الحريقة التجاري بالعاصمة دمشق اعتراضاً على خطأ ارتكبه شرطي مرور. بعده بأسابيع، أطفال في درعا وكتابات على الجدران فاعتقالات ثم تظاهرات... احتجاجات تتصاعد تحت عنوان: "الشعب يريد إصلاح النظام". كل المؤشرات كانت تشير منذ البداية إلى وجود احتقان شديد في الشارع، يؤذن بشيء ما. وفيما السؤال: هل تصل رياح "الربيع العربي" إلى دمشق؟!! كان مطبخ القرار السياسي تحت وطأة "نظرية المؤامرة" ما طرح نقاشاً حول امكانية سد الثغرات. لو جرت ملاقاة الاحتقان بإجراءات استيعابية كبيرة، حتى إذا ما جاءت هذه لاحقاً وفي غير موعدها، لبدت نوعاً من التنازل ولا سيما أنها جاءت في ظرف قطعت فيه الأزمة أشواطاً من العنف الدموي!! حتى بلغ ذروته الآن في العمليات العسكرية التي تخوضها الميليشيات المسلحة المعارضة وفي جهات سوريا الأربع ـ تمكنت ـ أو مُكِّنت !!! ـ من احتلال مقرات وقواعد عسكرية، ومدن، وما إلى ذلك!

لم يكن أحد ليتصور أن تنحدر الأمور إلى ما سبق، فيما بات رهان الخارج منصباً على خلق اهتزازات عالية الوتيرة تستهدف بالمحصلة معنويات القوات المسلحة وصولاً إلى انفراط عقدها ما يسمح للمعارضة بتحقيق انجازات عسكرية حاسمة في الميدان. غير أن المفارقة جاءت على خلاف ذلك، فالنتائج التي حققتها المعارضة في الميدان خلال الأشهر المنصرمة ـ والتي لا ينكرها إلا مكابر ـ قد بلغتها من غير انفراط عقد القوات المسلحة، الأمر الذي أكد بأن عصب الجيش منيع ومتماسك وبالتالي من الصعب خلخلة بنيته وتفكيكها؛ لكنه بالمقابل يطرح سؤالين مقلقين: أولهما: كيف أمكن لقوات من الميليشيات أن تتحضر وتتجهز إلى ما يمكّنها من خوض عمليات عسكرية في مواجهة جيش نظامي؟!!.

والسؤال الثاني: كيف وضمن هذه المعطيات الإيجابية للقوات المسلحة السورية تمكنت قوات شبه عسكرية للمعارضة من اختراق مواقع للجيش العربي السوري والسيطرة على أماكن حساسة؟ كمثال فقط: مواقع السدود في الطبقة، ومواقع النفط التي يفترض أنها تحظى لأسباب استراتيجية وأمنية برعاية استثنائية؟ وهو ما أوجد مفاجأة قد تفوق مفاجأة الدخول إلى مركز محافظة كمدينة الرقة!

هذان السؤالان في غاية الأهمية، وفي مكانهما حتى لا يتكرر المشهد أي عودة المسلحين من حيث خرجوا!! وقد سمعنا أنهم الآن في طور الانكفاء إثر العمليات التي قام بها الجيش في عدة أمكنة محققا في الأسابيع الأخيرة تقدماً ملموساً في أكثر من جهة. وهنا نحذر من أن تصيب الانجازات العسكرية أحدا بالنشوة! إذ ينبغي هنا الأخذ بعين الاعتبار أنه في الحروب الطويلة الأجل كما حالنا، لا يصلح أي انجاز عملاني على الأرض مقياساً لينبني عليه التفاؤل ما لم يقترن بامكانية الحفاظ عليه وتثميره في خطوات لاحقة. إذ لطالما سمعنا عن مناطق جرى طرد ميليشيات المعارضة منها، ثم لم تلبث أن عادت، لنسمع بأن الجيش يخوض معها مجدداً المعارك!!.وفي كلا الحالين فراً أو كراً فإن الأمر ضمن هذه الحدود حصراً يظل بمثابة الانجاز للميليشيات المعارضة التي تعتبر أن مجرد قدرتها على الحركة، أو البقاء في الساحة هدف بحد ذاته لتتمكن من استنزاف الجيش والسلطة بالآن عينه لا سيما بعد أن تمكنت ـ أو مُكِّنَت ـ من ايجاد قواعد لها في المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا ، وداخل الأردن مع بعض الجيوب المحدودة داخل لبنان!!.

إن أي إنجاز عملاني في الميدان لا يصلح مقياساً إلا متى بات جزءاً من استراتيجية قضم، لا يهم إن جرى القضم بوتيرة سريعة أو بطيئة بقدر ثباته واطراده. هذا ما دام أنه من المتعسر الضغط عسكرياً نحو مصادر تزويد تلك الميليشيات بالأسلحة والمعلومات؛ وبهذا الصدد نشر موقع "العهد" الإخباري مقالاً رد فيه الكاتب اختراقات ميليشيات المعارضة لمناطق أو مواقع عسكرية إلى توافر خدمات استطلاع متطورة موضوعة بتصرفها من قبل حلف الأطلسي بينما يفتقر الجيش السوري إلى وسائط الاستطلاع المتطورة والإنذار المبكر، وهو الأكثر حاجةً لها من العتاد العسكري الثقيل كالدبابات والمدفعية، وهذا لكونه يخوض حربا متنقلة تختلف فيها قواعد الاشتباك وأساليبه عن المتبع في الحروب التقليدية. لكن وللأمانة فإن ما ورد في المقال يشكل نصف الحقيقة!! دليل ذلك أن القوات المسلحة السوريّة لم تكن تحتاج لهذه الوسائط كي تحول دون احتلال مواقع السدود وآبار النفط؛ أو ذلك السقوط الملتبس للواء 38 دفاع جوي جنوباً، ومثله مدينة القصير، وتلكم أمثلة من عديد.

لم يعد سراً أن عدة دوائر مخابراتية اقليمية قد أمكنها ومنذ زمن بعيد عمل اختراقات عميقة، منها شراء الذمم الضعيفة لبعض أصحاب المسؤوليات طلباً للتفريط بمسؤولياتهم وخيانة قسَمهم، أمور لها شؤون وشجون مع المفارقات من تدفق السلاح أو بناء الأنفاق والمخازن تحت الأرض، وإلى كل ما حضر للبنية العسكرية اللوجستية لميليشيات المعارضة. ومن هنا، ومن أمام هذه المشهد الملتبس تصاعدت أصوات قريبة من مطبخ القرار الروسي دعت لمنحى أكثر (براغماتية) قوامه عدم الرهان على صمود النظام وإنما المناورة ضمن (الممكن) وفي هامش لا يستفز أمريكا طلباً لمقابل ما من (الكعكة السورية). هذه البراغماتية تتغذى من تجربة الماضي عندما ضاع من روسيا حصتها في "سايكس ـ بيكو" إثر الثورة الشيوعية. كل ذلك بالطبع مبني على تصور محدد وهو أن سوريا ذاهبة إلى التقسيم (وبإرادة) غربية وأن النظام آيل إلى السقوط!!

لكن المقاتل السوري خيب كل الرهانات. بل نسجل لهذا الجيش العربي السوري معجزة كسره لهذا الحصار من حوله. حصار نصفه في الداخل بفعل خيانات من انشقوا، أو من فعلها من غير الافصاح عن انشقاقه، ونصفه الثاني من الخارج يكمن في تردد الكثير من الأصدقاء. كسره بصموده في جهات سوريا الأربع، ودأبه كي لا يخسر المبادرة على كامل الأرض السورية، كسرها وهو يقاتل الغرب وحلفاءه وبمشاركة عربية غير مسبوقة! كسرها في حين كان المخطط غربيا هو حشره في مناطق بعينها ليستولد ذلك حالة تقسيم بحكم الأمر الواقع. ومن هنا يمكننا أن نقول إن هذا الجيش البطل هو النصف المليء من الكأس السورية الذي يشكل الآن الضمانة الوحيدة لوحدة سوريا، وهو يخوض اليوم معركة وحدة التراب السوري، أو بالأحرى حرب الاستقلال الثانية.

* (كاتب من لبنان)
2013-04-23