ارشيف من :آراء وتحليلات

الأزمة السورية: همسات التسوية وتعقيدات حسابات مصالح الكبار

الأزمة السورية: همسات التسوية وتعقيدات حسابات مصالح الكبار
ما تزال الإشارات الواردة حول جدية انطلاق قطار التسوية الخاصة بالأزمة السورية من عدمها تبدو مشوشة ومرتبكة. تشوش وارتباك المقاربة الغربية عموماً لهذه الأزمة يتطلب إجراء فحص دقيق للدواعي التي قد تفرض على الغرب حسم أمره لمصلحة انجاز هذه التسوية سلباً أو إيجاباً. والمصلحة هنا لا يمكن إلا أن توزن في ميزان الربح والخسارة بالنسبة لهذا الغرب وأدواته في المنطقة عموماً.

ثمة مجموعة من الأهداف الإستراتيجية والجيوبوليتيكية الكبيرة التي أرادها الغرب من افتعال الأزمة السورية وتأجيجها ومنحها الأبعاد المدمرة التي انتهت إليها. في طليعة هذه الأهداف الآتي:

أولاً: ضرب موقع ودور سوريا في محور المقاومة والممانعة في المنطقة، كمقدمة لإحلال واقع سياسي مختلف جاهز لإنجاز تسوية تاريخية مع الكيان الإسرائيلي، ويلحق سوريا ـ بالتالي ـ في منظومة عرب التسوية، ويلحقها في منظومة سياج حماية المصالح الأمريكية في المنطقة ومن ثم التمهيد لضرب إيران أو إضعافها إلى الحد الأقصى، وكذلك ضرب المقاومة في المنطقة وفي فلسطين المحتلة أيضاً.

كما يفتح الطريق واسعاً لتغيير الأوضاع في العراق ولبنان بما يقلب المعادلة الإستراتيجية بالمطلق لمصلحة الكيان الإسرائيلي وحلفائه الموضوعيين في أنظمة التسوية، وتؤدي محصلته إلى محاصرة الجمهورية الإسلامية ضمن حدودها الخاصة لإسقاطها لاحقاً إذا أمكن.

ثانياً: وضع اليد على الثروة النفطية والغازية في سوريا، وهي ثروة واعدة ومبشرة إلى حد كبير، وكجزء من وضع اليد على مجمل هذه الثروة المنتشرة على الشاطئ الشرقي للمتوسط، أي بما فيها تلك الموجودة في لبنان، وذلك كجزء من الصراع الدائر على الطاقة في المنطقة في سياق الصراع الجيو استراتيجي الدولي مع الصين وروسيا، والتحكم بالتالي بفيصل الصراع الدولي السائر في مسار تصاعدي. فالمطلوب بشكل رئيس إضعاف روسيا في مجال الطاقة، إضافة إلى حرمانها من آخر موقع لها شاطئ البحر المتوسط، والتحكم بمسار نمو المارد الصيني وفرض حدود قاسية عليه.

ومن الواضح، أنه ليس مسموحاً في نظر الغرب أن يستفيد نظام ممانع أو مقاوم من هذه الخيرات النفطية التي ستقوي من موقعه ودوره.

إنجاز هذين الهدفين الاستراتيجيين كان يتطلب إسقاطا سريعا للنظام، كما كان يتطلب توفير بديل ملائم على وجه السرعة أيضاً، إلا أن ما حدث هو الآتي:

أولاً: لم ينجح الرهان على إسقاط النظام بسرعة بالرغم من كل محاولات الإطباق عليه من الخارج عبر عزله سياسياً واقتصادياً وعبر نزع الشرعية الدولية والعربية عنه أو على الأقل نزع الحد الأقصى منها. فالنظام أثبت تماسكه وقدرته على الصمود وحتى على انتزاع المبادرة أيضاً.

ثانياً: لم تنجح كل الجهود المبذولة لإنتاج معارضة موحّدة وموثوقة، فالمعارضة معارضات ولكل منها توجهاتها ومرجعياتها الخاصة المتفاوتة في حساباتها. الأمر عينه ينطبق على المجموعات المسلحة التي تحولت إلى ما يشبه فسيفساء من المسلحين الموزعي الانتماءات الإيديولوجية والولاءات السياسية، والتي ينبو عددها عن أكثر من ألف فصيل مسلح.

ثالثاً: تتطلب انجاز الخطة تمويه حقيقة الصراع تارة بالمطالب الداخلية ـ وهي في قسم رئيس منها محقة ـ إلا أنها لا تشكل تبريراً مقنعاً لأخذ الأزمة بهذا المسار المدمر، وتارة أخرى ـ وهو الأخطر ـ تمويه الصراع بأبعاد طائفية ومذهبية ودينية. متطلبات هذا التمويه ومتطلبات رفع درجة عسكرة الأزمة تقف وراء تسهيل وصول مسلحي القاعدة من كل أصقاع العالم عبر عملية تجييش وتحشيد غير مسبوقة، الأمر الذي ولد نتائج متناقضة: فمن جهة تحولت جبهة النصرة إلى العمود الفقري الأساس للمجموعات المسلحة، وهي جبهة لا يمكن أن تشكل البديل المقبول غربياً، ومن جهة أخرى نجحت هذه العسكرة الواسعة في إطلاق عملية تدمير منهجي لسوريا، وهذا هدف مطلوب غربياً بمعزل عن طبيعة النظام القادم، لأن المطلوب إشغال سوريا بنفسها أطول فترة ممكنة، والإمساك بها من مداخل مشاريع إعادة الإعمار، ومشاريع إعادة بناء الاقتصاد وسواها عبر توزيعها حصصاً على أعداء سوريا.

رابعاً: إدراك كل من الصين وروسيا للمغزى الجيو استراتيجي لما يجري في سوريا ما دفعهما للإسراع في نسج شبكة حماية دولية للنظام في سوريا، هي مزيج من الدفاع عن المصالح الإستراتيجية لكل منهما، وتحويل الأزمة إلى فرصة تاريخية لإحداث تعديل في توازنات النظام الدولي لمصلحة احتواء الأحادية الأمريكية والتأسيس لولادة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، تلعب فيه العديد من الدول الإقليمية الصاعدة في أكثر من منطقة دوراً حيوياً.

خامساً: إدراك الجمهورية الإسلامية وحركات المقاومة للأبعاد الآنفة ما دفعها بدورها إلى الوقوف إلى جانب النظام من دون أن تهمل الحقوق المشروعة للشعب السوري، ساعية إلى إنتاج تسوية داخلية باعتبارها السبيل الوحيد لوقف مخطط التآمر على موقع ودور سوريا، ولوقف مسلسل التدمير المنهجي لها، ولوقف حرب الاستنزاف للطاقات الذي تريده الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة.

دعمت العوامل الآنفة عوامل إضافية أبرزها:

أولاً: نجاح النظام في إفشال كل المحاولات الهادفة إلى احتلال مدن أو محافظات رئيسية يبقى أبرزها دمشق، وأكثر من ذلك تمكن النظام من أخذ زمام المبادرة العسكرية حيث ألحق ضربات موجعة ونوعية بالمجموعات المسلحة كان أبرزها مؤخراً ما أنجزه ميدانياً في ريف دمشق لا سيما في منطقة الغوطة الشرقية وفي داريا، وما أنجزه في منطقة ريف القصير، وكذلك نجاحه في فتح طريق الإمدادات إلى مدينة حلب وريف إدلب... الخ.

ثانياً: فشل كل المحاولات الغربية والعربية والتركية لإنتاج كيان معارض موحد ومتماسك، كان آخرها اجتماع اسطنبول لما يعرف بدول "أصدقاء سوريا".

ثالثاً: الحذر الأمريكي من أي تورط مباشر لاعتبارات كثيرة معروفة، لكن يبقى أبرزها فشل الغرب وحلفائه في إنتاج بديل مقنع سواء لجبهة النصرة أم للمتطرفين الآخرين. لقد وجدت واشنطن نفسها في مواجهة سياسة معقدة ومتناقضة ميدانياً: فهي من جهة لا تريد إسقاط النظام كيفما كان، بل تريد إسقاطه بعد توفير البديل الملائم لمصالحها، وهي لا تريد إسقاط الدولة ومؤسساتها حتى لا تتكرر تجربة العراق وفي الوقت نفسه فإن كل السياسات المعتمدة تؤدي إلى نتيجة عكسية، كما إن انجاز هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق بدون تفكيك حلقات النظام، وهذا ما عجزت عنه.

ولواشنطن هنا حسابات تتصل أكثر بأمن الكيان الصهيوني لا سيما تلك المتعلقة بالخوف من أن تنتهي الأسلحة الإستراتيجية التي بحوزة النظام إلى أيدي أعداء الكيان الصهيوني أو الجماعات المصنفة إرهابية.

رابعاً: اقتراب الصراع المسلح من جبهة الجولان وهو اقتراب محفوف بالعديد من المخاطر بالنسبة للكيان الصهيوني. فهذه الجبهة التي ظلت هادئة ومضبوطة أمنياً لعقود من الزمن باتت مرشحة مؤخراً للتداعي.

خامساً: التخبط الاقتصادي الشامل والاستراتيجي الذي يعاني الغرب عموماً منه والذي بات يهدد العديد من دول الاتحاد الأوروبي بالإفلاس.

سادساً: عدم القدرة على حصر تداعيات الأزمة السورية داخل حدودها، فهي تعدتها إلى الدول المجاورة بالدرجة الأولى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً كما هي الحال بالنسبة لتركيا أردوغان وللعراق وللبنان وللأردن. فهذه الدول أخذت تضيق بنتائج هذه الأزمة وصولاً إلى حدود حدوث انفجارات معبّرة في داخلها.

والأمر عينه ينطبق على دول الخليج وإن على نحو مختلف خصوصاً بالنسبة للنظام السعودي الذي يعاني من وضع جيو استراتيجي صعب، ومن أوضاع داخلية منذرة، وكذلك بالنسبة لقطر التي لعبت وما زالت دور رأس الحربة في تأجيج الأزمة السورية وتمويل عملية تدميرها المنهجية.

وأما الكيان الإسرائيلي فيجتاحه مزيجٌ متناقض ومركَّب من الحسابات: فهو من جهة مسرور لتدمير سوريا ولاستنزاف إيران وحركات المقاومة والضغط عليها ومحاصرتها، ومن جهة أخرى هو قلق من أن تؤول الأمور في النهاية إلى حيث لا يرغب ولا يتمنى.

لا نريد من هذا العرض أن نرسم صورة متفائلة وكأن التحالف العريض للغرب والكيان الإسرائيلي وتركيا ومنظومة دول الخليج وتوابعها في المنطقة لم يحقق نتائج لمصلحته، إذ يكفي هنا:

أولاً: إيجاد بيئة ضاغطة على إيران وحركات المقاومة وفرض خيارات قاسية عليها.

ثانيا: إبعاد الأنظار عن القضية المركزية أي قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي لمصلحة إنتاج أعداء آخرين وهميين. وللأسف فإن منظومة دول الخليج هي المسؤولة الأولى عن هذا الأمر.

إلا أن هذه النتائج لم تصل في المحصلة العامة، إلى حد إحداث انقلاب استراتيجي ما دامت لم تصل الأمور إلى حد انجاز الأهداف الأساسية المشار إليها ابتداءً.

السؤال الذي يفرض نفسه الآن، هل كل ما تقدم من شأنه أن يوفر الأرضية المناسبة لإيجاد تسوية سياسية والاكتفاء بالتالي بما تمّ التوصل إليه من نتائج، أم أن هذه الأرضية ما زالت مرنة وغير صلبة؟

التقدير الأولي يشير إلى أننا ما زلنا أمام همسات تسوية أكثر من أننا بصدد تسوية فعلية، ولا سيما أن توازنات القوة العامة ما تزال تسمح ببعض الرهانات. وما يزيد الأمر تعقيداً هو تشابك القضايا: فالولايات المتحدة تريد سوريا ورقة ضغط في مواجهات ملفات أخرى لا سيما في وجه إيران، إضافة إلى الأهداف الإستراتيجية المشار إليها آنفاً، وروسيا والصين تريدان من سوريا مدخلاً لتفاهمات دولية شاملة، وإيران وحركات المقاومة تسعيان إلى رسم خطوط دفاع إستراتيجية عن مواقعهما وأدوارهما في المنطقة. بينما تركيا تريدها مفتاحاً لدورها الإقليمي في المنطقة، والرياض تريد منها خط دفاع عن وجودها، وقطر تريدها منطلقاً لدورها الإقليمي الآخذ في الاتساع وبما يفيض عن وزنها الجغرافي والديموغرافي... الخ.

إن أزمة من هذا النوع لا يسهل إيجاد حلول لها بدون نظرة أشمل لخريطة المصالح في المنطقة، وهذا يبقى شغل الكبار، وإن كانت الكلمة الأساس تبقى للميدان. ولحظة التسوية الفعلية هي اللحظة التي يقتنع فيها الجميع أنها باتت هي الخيار الأفضل، وأن استمرار الأزمة لم يعد ذي جدوى، بل سيتحول إلى خطر يدهم الجميع، ولذا، فإن الأزمة ما زالت مرشحة لأن تطول، حتى مع فرض تحرك مسار التسوية، فالصراع يبقى جزءاً من عملية التفاوض.

2013-04-26