ارشيف من :آراء وتحليلات

بلغاريا تواصل مسيرة خلط الأوراق

بلغاريا تواصل مسيرة خلط الأوراق
يوم الاحد في 12 ايار الجاري جرت في بلغاريا الانتخابات النيابية المبكرة، بعد استقالة الحكومة السابقة التي كان يترأسها الجنرال بويكو بوريسوف رئيس حزب (غ ي ر ب) (المواطنون لأجل التطور الاوروبي لبلغاريا)، وكان الحزب قد فاز بأكثر من 50% من اصوات المقترعين في انتخابات 2009 وحاز أكثريةَ المقاعد في مجلس النواب وشكل حكومة حزبية منفردة.

وكان الحزب وحكومته عرضة لانتقادات شاملة، من اليمين واليسار، على كل الاصعدة السياسية والاجتماعية. وفي اذار/ مارس الماضي رفعت شركة الكهرباء البلغارية اسعار الطاقة الكهربائية بشكل مفاجئ، وبلغت بعض فواتير الكهرباء على بعض المواطنين ـ المتقاعدين مبلغا اكبر من المعاش التقاعدي الذي يتقاضونه، فخرجت مظاهرات جماهيرية في كافة انحاء بلغاريا ضد غلاء المعيشة وخصوصا ضد رفع اسعار الكهرباء، وفي صوفيا جرت صدامات مع الشرطة ووقع عدد من الجرحى، فما كان من رئيس الوزراء الجنرال بوريسوف إلا أن اصر على تقديم استقالة الحكومة شاجبا إراقة دماء المواطنين في الشارع، وقبل مجلس النواب الاستقالة، وتشكلت حكومة تكنوقراطية ليس فيها أي عضو من حزب (غ ي ر ب) ذاته، من أجل اجراء انتخابات مبكرة تم تحديدها في شهر ايار/مايو. وكان الحزب يأمل ان يكسب الانتخابات مرة اخرى بأكثرية كبيرة، ولكنه فشل في تحقيق هذا الهدف.

بلغاريا تواصل مسيرة خلط الأوراق
سيرغيي ستانيشيف مع بوتين

وأسفرت الانتخابات عن فوز حزب (غ ي ر ب) بنسبة 6،29% من الاصوات، في حين ان الحزب الاشتراكي البلغاري (الحزب الشيوعي سابقا) الذي كان يتزعم الحكومة السابقة قبل تشكيل حكومة بوريسوف في 2009 حصل على نسبة 6،25% من الاصوات. وحل في المرتبة الثالثة حزب (دي بي سي) (حركة الحقوق والحريات) "الاسلامي ـ التركي" الذي حصل على 4،13% (وحسب الاحصاءات شبه الرسمية يمثل المسلمون والاتراك ـ البلغار نسبة 12% من سكان بلغاريا). وحل في المرتبة الرابعة والاخيرة حزب "أتاكا" (الهجوم) القومي البلغاري المتطرف، وهو حزب معاد لليهود والاتراك، وحصل على نسبة 3،7% من الاصوات. ولم يستطع اي من الاحزاب الاخرى (وبالاخص الاحزاب "الديمقراطية" الموالية للغرب، وحزب الملك السابق) ان يتجاوز عتبة الـ4% من الاصوات، وهي العتبة الالزامية للدخول الى البرلمان، بموجب قانون الانتخاب النسبي البلغاري.

وبذلك فإن اصوات الاحزاب الفاشلة ستوزع (بالنسبة) على الاحزاب الفائزة. وهكذا فإن البرلمان القادم سيتشكل من الاحزاب الاربعة الفائزة فقط وهي: حزب (غ ي ر ب) (حزب يمين الوسط)، بزعامة رئيس الوزراء السابق الجنرال بويكو بوريسوف، الحزب الاشتراكي البلغاري بزعامة رئيس الوزراء الاسبق سيرغيي ستانيشيف (وهو ابن المرحوم ديميتر ستانيشيف احد كبار المسؤولين الشيوعيين السابقين، وكان معروفا بمواقفه المؤيدة للقضايا العربية والقضية الفلسطينية والقضية الوطنية اللبنانية، ووقف في حينه بحزم ضد العدوان الاسرائيلي على لبنان سنة 1982 ونظم حملة تضامن وتبرعات للشعب اللبناني)، حزب (دي بي سي) "الاسلامي ـ التركي" ومؤسسه هو احمد دوغان احد ابرز رجال السياسة في بلغاريا، واخيرا حزب "اتاكا" القومي البلغاري بزعامة النائب فولين سيديروف وهو صحفي وكاتب بلغاري كان معروفا بمعارضته الشديدة لليهود وتأييده للقضية الفلسطينية ومعاداته للشيوعية في الوقت ذاته.
بلغاريا تواصل مسيرة خلط الأوراق
الجنرال بويكو بوريسوف

وحسب تقدير الخبراء فإن مقاعد مجلس النواب الجديد وعددها 240 ستتوزع كما يلي: 93 الى حزب (غ ي ر ب)، 83 الى الحزب الاشتراكي البلغاري، 42 الى الحزب "التركي ـ الاسلامي"، و22 الى الحزب القومي "أتاكا".

ويستبعد الخبراء ان يتم تأليف حكومة ائتلافية "وحدة وطنية" من كل الاحزاب الممثلة في البرلمان، لأن حزب (غ ي ر ب)، من جهة، والحزب الاشتراكي والحزب "الاسلامي ـ التركي" من جهة ثانية من شبه المستحيل ان يتم التوافق السياسي بينهم، اقله في المرحلة الراهنة.

كما يستبعد ان يتم تأليف حكومة ائتلافية بزعامة حزب (غ ي ر ب)، ينضم اليها الحزب "الاسلامي ـ التركي" وحزب "أتاكا" القومي، من اجل تأمين اكثرية النصف + 1( 121 نائبا مؤيدا)، ذلك ان الحزب "الاسلامي ـ التركي" ليس لديه اي ميل ليشارك في التعويم السياسي لحزب (غ ي ر ب) بعد ان فشل في قيادة البلاد في المرحلة السابقة، واضطر الى تقديم الاستقالة وإجراء انتخابات مبكرة. كما ان حزب "اتاكا" ايضا سارع الى ابداء رفضه للمشاركة مع حزب (غ ي ر ب) في الوزارة، وخاصة ان حزب (غ ي ر ب) سبق له ان رفض إشراكه في الوزارة السابقة حينما كان (غ ي ر ب) يتمتع بالاكثرية بالبرلمان.

وحسب تقديرات الخبراء فإن الارجح ان يقوم الحزب الاشتراكي البلغاري (الشيوعي سابقا) بتشكيل الوزارة الجديدة بالائتلاف مع الحزب "الاسلامي ـ التركي"، استنادا الى امرين: الاول ـ ان الحزب الاشتراكي سبق له ان ألّف حكومة ائتلافية مع الحزب "الاسلامي ـ التركي" في الفترة التي كانت له فيها الاكثرية في البرلمان (سنة 2005 ـ 2009)، والثاني ان الحزب الاشتراكي البلغاري والحزب "الاسلامي ـ التركي" يلتقيان على نقطة سياسية جوهرية، وهي تجنيب بلغاريا اي نزاع قومي وإتني وديني، على غرار ما جرى في يوغوسلافيا السابقة.

ولا بد ان نورد هنا الملاحظات المهمة التالية:

اولا ـ منذ سقوط النظام "الشيوعي!!!" السابق في 1990، ففي كل دورة انتخابية يفوز حزب جديد، غير الحزب الذي كان في الوزارة السابقة لتاريخ الانتخابات. وطوال اكثر من عشرين سنة تناوبت على كسب الانتخابات وتشكيل الوزارة جميع الاحزاب الرئيسية البلغارية: الاشتراكيون (الشيوعيون السابقون)، و"الديمقراطيون" اليمينيون الموالون للغرب، وأنصار الملك السابق الموالي للغرب، والقوميون المعتدلون (يمين الوسط) الذين يمثلهم حزب (غ ي ر ب). ولم يحدث ابدا ان فاز حزب بعينه في دورتين انتخابيتين متتاليتين وشكل وزارتين متتاليتين. بل كان كل حزب حاكم يخسر الانتخابات ويفوز غيره وهكذا. وكأنما الناخب البلغاري كان يعاقب الجميع بالجميع ويخلط كل الاوراق من دون ان يفضّل ورقة على اخرى.

بلغاريا تواصل مسيرة خلط الأوراق
احمد دوغان

ثانيا ـ ان جميع الاحزاب "الديمقراطية" اليمينية الموالية للغرب وحزب انصار الملك السابق الموالي للغرب، الذين سبق لهم ان نالوا في دورات سابقة اكثر من ثلث اصوات الناخبين وأحيانا اكثر من نصف الاصوات، والذين كان منهم رئيسان للجمهورية وثلاثة رؤساء وزارات، قد فشلوا فشلا ذريعا في هذه الانتخابات ولم يستطع اي حزب من هذه الاحزاب تجاوز عتبة الـ4% من الاصوات، ولن يكون في المجلس الجديد اي نائب عن تلك الاحزاب، وهذا دليل صارخ على الافلاس التام للسياسة الغربية ـ الاطلسية والاتحاد اوروبية في بلغاريا.

ثالثا ـ لقد اتاحت اللعبة البرلمانية لحزب بلغاري واحد، هو الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقا) ان يحتفظ بكتلة انتخابية كبيرة، حتى حينما كان يخسر الانتخابات ولا يفوز بالمرتبة الاولى، كما اتاحت له ان يشكل وزارة حزبية منفردة في اواسط التسعينيات، ثم وزارة ائتلافية (مع الحزب "الاسلامي ـ التركي") في 2005، والارجح انه هو الذي سيشكل الان وزارة ائتلافية مع الحزب "الاسلامي ـ التركي" ايضا. ويستنتج بعض المحللين من ذلك ان هذا يدل على وجود "حنين" لدى قطاع شعبي بلغاري واسع الى العهد "الشيوعي!!!" السابق. ويطرح محللون آخرون السؤال التالي: هل سيستطيع الحزب الاشتراكي البلغاري ان يبرر ثقة "جمهوره" وأن يخرج بالبلاد من لعبة "خلط الاوراق" المستمرة منذ اكثر من عشرين سنة؟!!

*كاتب لبناني مستقل
2013-05-15