ارشيف من :آراء وتحليلات
الاشتباك السياسي حول الحكومة وقانون الانتخابات
لعبة القط والفأر في ما يخص قانون الانتخابات دخلت ليس فقط في الوقت القاتل، وإنما في محك إظهار النوايا الفعلية للقوى السياسية في ما يتصل تحديداً بخياراتها الخاصة بقانون الانتخابات وبمصيرها في آن واحد.
الاشتباك السياسي حول قانون الانتخابات تتداخل فيه ثلاث دوائر أساسية: دائرة المصالح الخاصة، ودائرة المصالح الطائفية، وأخيراً دائرة المصالح المتصلة بالمشاريع المتجاوزة للإطار الوطني إلى الإطار الإقليمي والدولي.
وهذه المصالح الثلاث لا يسهل التفكيك بينها وهي تكاد تكون متطابقة إلى أقصى الحدود. فالمصالح الخاصة لها ممر إلزامي هو المصالح الطائفية، فبقدر ما تمثل الزعامات السياسية طوائفها تستطيع أن تفرض نفسها ممراً إلزامياً على صعيد النظام العام، والأمر عينه في ما يعني أدوارها بالنسبة للمشاريع الخارجية.
باختصار، إن حجم المواقع والأدوار الداخلية شرط ضروري للعب الأدوار الفاعلة داخل بنية النظام السياسي الداخلي وتوازناته العامة، وبالتالي الحصول على الجوائز والأفضليات الإدارية والاقتصادية. وحجم هذه المواقع والأدوار أيضاً هو شرط ضروري لاستدعاء الدعم الخارجي، مع الأخذ بعين الاعتبار دور الخارج أيضاً في رفد الممثل الداخلي لمصالحه بالمعونات اللازمة للعب هذا الدور.
ولأن الانتخابات النيابية هي الممر الضروري لبلورة وتظهير التوازنات والمعادلات الداخلية سواء في علاقات الطوائف والقوى السياسية في ما بينها، أم في علاقات المشاريع الخارجية أيضاً، تحتل هذه الأهمية الاستثنائية في لبنان.
ولأن صيغة قانون الانتخابات هي المطبخ الأول المحدد مسبقاً لنتائجها، كان الصراع عليها وحولها له هذه الأهمية الحاسمة.
بناءً عليه، فالصراع السياسي المحتدم في لبنان حول قانون الانتخابات ليس بالأمر البسيط، وما يزيده تعقيداً هو الصراع المحتدم في المنطقة، وهو صراع متشابك ومتداخل وسائل ولا تزال توازناته ووجهاته النهائية غير واضحة عموماً ما خلا مسألتين أساسيتين، باتت المؤشرات والدلائل عليهما محسومة، هما: الأزمة السورية، والقضية الفلسطينية، والتلازم بين الاثنتين جلي: صحيح أن للأزمة السورية أبعاداً متنوعة يصل بعضها إلى خرائط الطاقة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وإعادة صياغة الخرائط السياسية بالاستناد إلى قوى سياسية صاعدة، في سياق بلورة توازنات إقليمية ودولية جديدة، إلا أن ما يجري إغفاله عمداً البعد المتصل بموقع ودور سوريا في سياق محور المقاومة والممانعة، وهو بعد أساسي واستراتيجي، ولا يغيب عن مواقف الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، وحتى الدول الرئيسية المنخرطة في هذا الصراع.
يمكن القول ببساطة شديدة، إن ما يجري في سوريا هو في أحد وجوهه الأساسية حرب تموز سورية بوسائل مختلفة، أي الهدف الاستراتيجي لها هو أخذ سوريا من موقع المقاومة والممانعة إلى موقع التسوية، إضافة إلى تفكيك حلقات هذا المحور تمهيداً لمحاصرته وإضعافه، والتقليل من إمكانات ردود فعله.
بناءً عليه، فإن لبنان هو في قلب معادلة الصراع الدائر في المنطقة، ولا يخفى على أحد أن الصراع في لبنان هو في العمق صراع سياسي بين هذين المحورين تحديداً: محور المقاومة ومحور التسوية والالتحاق بالمشروع الأمريكي الاستعماري في المنطقة. وهنا تحديداً يكمن مغزى التداخل والتشابك بين الصراع الدائر في سوريا وعليها، والصراع الدائر في لبنان، حيث يشكل الأخير أحد الساحات الخلفية والمباشرة لهذا الصراع.
وإذا أخذنا الأزمة السورية في طورها الأخير، فإن مظهرين أساسيين لها: الأول ميداني يفصح عن تحول نوعي في موازين القوة لمصلحة محور المقاومة والممانعة. والثاني سياسي يعكس في جانب منه التطور الميداني لجهة اقتراب واشنطن من المقاربة الروسية من دون أن يعني ذلك أن مسار الحل السياسي سيكون سهلاً وسريعاً.
لا يستطيع ممثل فريق التسوية والمشروع الأمريكي في لبنان المعنون تحت لافتة قوى الرابع عشر من شباط إضافة إلى مواقع رسمية أخرى إلا أن يأخذ في الحسبان التحولات الخاصة بالأزمة السورية على صعيدي:
أولاً: تشكيل حكومة تكون له الأغلبية المطلقة فيها معادلة (8-8-8)، أو من خلال فرض حكومة أمر واقع. لأن هذا الفريق يرى نفسه أمام فرصة لا يريد أن يضيعها لكي يمسك بقرار السلطة وبما يفتح الطريق أمامه لنقل لبنان الرسمي إلى موقع المشروع الأمريكي والتسووي في المنطقة. وهو يرى عامل الوقت حاسماً لجهة أنه كلما أسرع قبل حدوث المزيد من التطورات الإيجابية على الصعيدين الميداني والسياسي في سوريا، كان له أفضل سواء لجهة عدم تضييع الفرصة، أم لجهة التعامل مع انعكاسات هذه التطورات لبنانياً من موقع أفضل وبما يقلل من خسائره.
إلا أن هذا الفريق يُدرك في الوقت نفسه دقة وخطورة ما يجري، ويعلم ماهية وعمق ما يحدث، وبالتالي فهو سيكون أمام مجازفة ومغامرة بالغة الخطورة خصوصاً إذا ما توهم أن الطرف المقابل سيقف موقف المتفرج أو اللامبالي.
ثانياً: قانون الانتخابات، هنا الحسابات قد تختلف قليلاً من ناحية تقبل المزيد من الانتظار غير الطويل.
وفي مطلق الأحوال، فالصراع هنا يأخذ أحد سيناريوهين: الأول، أن يتمكن فريق من إمرار قانون انتخابات يوفر له الأكثرية التي تمكّنه لاحقاً من الإتيان بالحكومة التي يريد، وانتخاب رئيس الجمهورية الذي يريد. والثاني، أن يتم تمديد الوضع القائم ربطاً بعدم تبلور صورة واضحة وحاسمة لما يجري في المنطقة، وبالتالي شراء المزيد من الوقت لكي يدوزن الأفرقاء خطواتهم وقراراتهم على مقياسها.
ما حدث مؤخراً في لعبة القط والفأر في ما يخص قوانين الانتخابات يندرج في هذا السياق، ولذا جرى إسقاط قانون الأرثوذكسي سياسياً، ومن المتوقع أن يسقط القانون المختلط الذي تقدم به تحالف التقدمي ـ المستقبل ومسيحيي 14 آذار والقوات، وسط انكشاف الأخير مسيحياً على نحو كبير.
ماذا يبقى من فرصٍ؟ نظرياً وعملياً لم يعد أمام الطقم السياسي اللبناني إلا أحد سبيلين: إما إحياء قانون الستين الذي ما زال حياً قانونياً، وإما أن يتم الإعلان عن دفنه، ما يفتح الطريق أمام لعبة التمديد التي ستخضع بدورها للعبة كباش حول حدودها ومداها. وهنا قد نكون أمام لعبة ابتزاز ومقايضة إضافية أحد أطرافها الحكومة، والطرف الآخر التمديد، ما يعني أن الأزمة ستبقى مفتوحة على احتمالات متنوعة، وإن كانت الأيام القليلة المقبلة ستحسم وجهتها.