ارشيف من :آراء وتحليلات

معركة القصير: لماذا كل ردود الفعل الحربية هذه؟

معركة القصير: لماذا كل ردود الفعل الحربية هذه؟

إن قياس حجم ونوع ردود الفعل على أي حدث أو فعل أو تطور ميداني أو سياسي مهم لأكثر من اعتبار، أبرزها الآتي:

أولاً: إنه يكشف عن مدى الضرر اللاحق بصاحب ردود الفعل تلك، وبالتالي هو يعكس درجة الألم أو غيرها.

ثانياً: إنه يشير الى مدى القلق لدى أصحاب ردود الفعل، كما يعكس مخاوف فعلية لديهم من الخسارة.

ثالثاً: إنه يشير الى صحة الفعل وقيمته النوعية في حسابات موازين الصراع ومعادلاته.

رابعاً: إذا اقتصرت ردود الفعل على إعلان المواقف السياسية والإعلامية، والاكتفاء بالتلويح بخطوات عملية، فهي تكشف عن ضيق يد هؤلاء، ومحاولتهم لتعويضها بمواقف عالية الصوت.

هذه المقدمة هي لفتح الكلام حول معركة القصير وما استدعته من ردود فعل غربية وإسرائيلية وتركية وخليجية ولبنانية من قبل عصبة المستقبل والرابع عشر من آذار ومن يدور في فلكهم. إن جردة حساب بسيطة لردود الفعل هذه، تضعنا أمام اللوحة التالية:

أولاً: يتذكر الرئيس الأمريكي أوباما ـ بالرغم من كل مشاغله الكونية ـ أن هناك رئيساً للبنان اسمه ميشال سليمان، فيتصل به ليبلغه رسالة مزدوجة إلا أنها مترابطة: الشق الأول منها، وهو الأساس كما يبدو، يعكس تذمراً وضيقاً أمريكياً مما اسماه أوباما تدخل حزب الله المتنامي في سوريا، وفي معركة القصير، ويحرضه على اتخاذ موقف سلبي منه. الشق الثاني، وهو عبارة عن تدخل سافر في شأن يفترض أن يكون محضا سياديا، ويتمثل بدعوته سليمان إلى الإسراع في تشكيل الحكومة، وفي إجراء الانتخابات في وقتها. معادلة أوباما واضحة: الحكومة والانتخابات في مقابل دعواه بتدخل حزب الله في معركة القصير. فالأمريكي يستنهض أدواته في لبنان للرد على هذا التدخل سياسياً. والمطلوب: فرض حكومة أمر واقع لا مكان لحزب الله فيها وذلك لحرمانه من أي غطاء شرعي رسمي، وإجراء الانتخابات في ظروف تؤدي إلى إنتاج أدواته كأكثرية تمكنها من أخذ لبنان إلى الموقع الأمريكي. في الحقيقة ليست وصفة أوباما إلا وصفة فتنة داخلية، يدرك أنها وصفة العاجز، وأن القيمة الإستراتيجية لمدينة القصير في حسابات الصراع الاستراتيجي على سوريا أكبر بكثير من حكومة تؤلف كأمر واقع أو انتخابات تجري وفق قانون يراد له إعادة إنتاج الأكثرية لمصلحة أدواته في لبنان.

والأخطر هنا، أن أوباما يحض سليمان على أخذ مواقف تجعله يخرج نهائياً من مكانه الذي يفترض أن يكون فيه إلى موقع الطرف.

ثانياً: فجأة يجري تحرك مشترك جمهوري وديمقراطي داخل الكونغرس الأمريكي لإصدار قرار يسمح للرئيس الأمريكي أوباما بتسليح المجموعات المسلحة في سوريا بأسلحة فتاكة، وكأن هناك أسلحة تقتل وأسلحة لا تقتل، وكأن السلاح الذي يقدم إلى المجموعات المسلحة من السعودية وقطر وتركيا وإسرائيل ليس سلاحاً أمريكياً أو على الأقل ليس بقرار أمريكي.

ثالثاً: فجأة أيضاً يُعاد تحريك ملف وضع ما يسمى بالجناح العسكري لحزب الله على لائحة الإرهاب الأوروبية بعد فشل كل محاولات إثبات دليل واحد على تورطه في حادثة تفجير بلغاريا. ومن المعلوم، أن هذا مطلب إسرائيلي بالدرجة الأولى. ويعلم الأوروبيون أن حسابات هذا القرار ليست بالأمر البسيط لتداخله بحسابات أخرى في أكثر من موقع ومكان.

رابعاً: يدخل الإسرائيلي على الخط بقوة من ثلاثة مداخل: الأول، عبر العودة للعزف على تهديداته المألوفة القاضية بإرجاع لبنان خمسين سنة إلى الوراء مع أنه لا شيء يستدعي على جبهة الجنوب مثل هذه التهديدات. الثاني، عبر الإعلان صراحة عن خشيته من انقلاب المعادلة في سوريا لغير مصلحته. والثالثة، من خلال إرسال عربة عسكرية إلى ما وراء خط الفصل في الجولان. تستهدف كما يبدو فحص جدية القرار السوري بالرد المباشر، وبالتالي فحص مدى صلابة خطوط الردع لديه.

الاستنفار الإسرائيلي معروفة خلفياته، فهو يرى في الحرب الدائرة في سوريا مجموعة مكاسب إستراتيجية كبيرة له، أهمها:

أ ـ استنزاف قدرات سوريا كدولة مواجهة ومقاومة.
ب ـ استنزاف حلفاء سوريا فيها أيضاً.

هذا في الحد الأدنى، أما في الحد الأقصى، فإن إسقاط النظام وتأمين بديل ملائم لهذا الكيان سيؤدي إلى نكسة إستراتيجية لكل من إيران وحزب الله وما تبقى من مقاومة في فلسطين. الأمر الذي من شأنه أن يفتح الطريق واسعاً أمامه لتطويب نفسه ملكاً على المنطقة من خلال عقد تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، وطي صفحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولا سيما أن عرب الخليج وغيرهم جاهزون للتوقيع من الآن. بناءً عليه، فإن خسارة الحرب في سوريا مع ما استلزمته من كلفة باهظة ستؤدي إلى نكسة إستراتيجية عكسية لهذا الكيان.

خامساً: صرخة أردوغان في وجه حزب الله، وهي صرخة أقل ما يقال فيها إنها صرخة من لا يستحي، ولا سيما أنه هو المسؤول الأول عن كل هذا الدمار الواسع في سوريا، وعن سفك الدماء فيها: ألم يُبح أردوغان تركيا وحدود تركيا لكل المجموعات التكفيرية وغير التكفيرية؟ ألم يعطل كل مسعى سياسي للحل في سوريا، لأن لا همّ له سوى استعادة مجد العثمانيين القدامى وتحويل سوريا إلى بوابة إستراتيجية لدور كبير لتركيا في المنطقة.

سادساً: تنادي المنظومة الخليجية وبعض الدول العربية إلى جلسة طارئة ورفع الصوت عالياً في مواجهة ما يجري بالقصير. مواقف هؤلاء معروفة، هذه المنظومة المسؤولة أولاً وأخيراً عن كل هذا البؤس الفتنوي في المنطقة، والتي تعمل على غسل عقول شعوبها لتجعل من العدو صديقا ومن الصديق عدوا، في سياق تآمرها العام على صورة الإسلام الحقيقية.

سابعاً: تحويل العراق إلى حقل للقتل المجاني لا يوفر شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً بأوامر مباشرة من مراكز تفريخ المجموعات التكفيرية، وذلك في استباحة مروعة للإنسان وبما لا يقبله ضمير إنسان أو عقل. فما يجري في العراق يقع في امتداد ما يجري في سوريا ولبنان، لأن المخطط واحد والمجرم واحد والمستهدف واحد.

ثامناً: تفجير الأوضاع في الشمال وتحديداً في منطقة طرابلس بين منطقة جبل محسن المحاصرة بمحيطها الطرابلسي، وفي توقيت متزامن مع ما يجري في القصير، وذلك في رسالة واضحة مفادها: أن القصير تعادل جبل محسن.

يضاف إليها سلسلة التحركات المشبوهة لمثيري الفتن المتنقلة من أحمد الأسير إلى أضرابه وأشباهه.

وفي خضم هذا كله تأتي المعمعة السياسية المتصلة بالحكومة والانتخابات التي يعزف عليها تيار المستقبل والقوات وأضرابهم من المتلبسين بلباس الوسطية وألوانها المختلفة، والتي لا تعدو كونها إلا نسخة مكررة للحن الأمريكي.

تاسعاً: الحملات الإعلامية المركزة من قبل قناتي الجزيرة والعربية وأضرابهما في لبنان والمنطقة، وغيرها من وسائل الإعلام الالكتروني، الهادفة إلى شن حرب نفسية، وتشويه الحقائق، وإسقاط السمعة... الخ.

نعم، هذا القدر من ردود الفعل الحربجية تستحقه معركة مدينة القصير، لماذا؟ لأن هذه المدينة من شأنها أن تشكل نقطة تحول إضافية ونوعية في توازنات ومعادلات الصراع في سوريا وعلى سوريا. وإذا كانت الحرب الدولية الإقليمية في سوريا يتوقف على نتائجها الصورة التي سترسو عليها ليس فقط المنطقة، وإنما صورة النظام الدولي الجديد، وكل ما يرتبط بها من تداعيات تمس قيادات وزعامات ومعادلات وربما أيضاً كيانات سياسية، نعرف أكثر المغزى الاستراتيجي لحرب القصير. ولماذا كل ردود الفعل هذه؟ ولماذا كل صراخ الألم هذا؟
2013-05-23