ارشيف من :آراء وتحليلات

’جنيف-2’: تعقيدات كثيرة تغلّب الحذر على التفاؤل

’جنيف-2’: تعقيدات كثيرة تغلّب الحذر على التفاؤل
لا شيء يشير حتى الآن الى أن الطريق إلى مؤتمر "جنيف-2" باتت معبدة، وأنه في حال انعقاده سيشكل محطة مفصلية لها ما بعدها. إن حدود التفاهم الدولي لا تتجاوز مجرد التأكيد على ضرورة الحل السياسي للأزمة السورية، وأن الوضع الخاص بها بلغ حداً كارثياً، وأن إمكانيات السيطرة عليها داخل حدودها تضعف يوماً فيوماً، ما يهدد بانفلات تداعياتها بكل انعكاساتها الخطرة على مصالح الكبار. وما عدا ذلك من تفاصيل تتعلق بأهداف المؤتمر، وجدول أعماله، والأطراف التي يجب أن تشارك فيه، ما زالت موضع خلاف.

أضف إلى ذلك، أن أيّاً من الأطراف الدولية الأساسية لم يظهر فسحة تفاؤل حقيقية، وما زال يتعاطى بحذر شديد حتى لا نقول بتشاؤم كبير. فأوباما أعلن صراحة أنه لا يستطيع أن يقدم "وعداً بأن هذا الأمر سينجح"، ومن جهته ذهب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى أن ترجمة البيان الأمريكي - الروسي حول جنيف أمر "صعب جداً"، في حين لا يتوقف الروس عن تعداد العقبات المرصوفة في طريق المؤتمر.

في المقابل، وعلى الضفة الموازية لا تظهر الدول الإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية، والمنخرطة عملياً فيها أي استعداد للتفاهم على أهداف المؤتمر، والأطراف المشاركة، فالتحالف السعودي ـ القطري ـ التركي الذي استثمر غالياً في الأزمة، وبنى عليها رهانات عالية، يرى آماله هذه تنفرط من بين يديه، ويعمل جاهداً لتحقيق بعض المكاسب من خلال ما يملكه من أوراق سياسية وميدانية، ثم إن هذا التحالف يتوجس خيفة من أن تذهب واشنطن إلى عقد صفقة مع الروس والإيرانيين تكون على حسابهم الخاص. وأكثر من ذلك، فإن هذا الحلف لا يكاد يوحده إلا عداوته للنظام وللرئيس الأسد، وأما ما دون ذلك فهو محل خلاف ونزاع متبادل. ولذا يعمل هذا الحلف باستمرار على الدفع باتجاه إطالة أمد الصراع، وفتح الأبواب أمام تسليح المجموعات المسلحة على نحو كمي ونوعي لقلب التوازنات الميدانية لمصلحته، كما يعمل على رفع سقوفه السياسية الخاصة برؤيته للحل من قبيل اعتبار مصير الأسد منتهياً، وأن لا مكان له في أي تسوية مقبلة، ومن قبيل المطالبة بتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، والاكتفاء بمنح الأسد مخرجاً لائقاً لا أكثر ولا أقل. في المقابل تقارب طهران منذ البداية الأزمة من رؤية مختلفة. فهي ترى ضرورة الذهاب إلى الحوار بدون شروط، وأن أي تسوية يجب أن تلحظ أدواراً للجميع، للنظام كما للمعارضة... الخ.

’جنيف-2’: تعقيدات كثيرة تغلّب الحذر على التفاؤل
"جنيف-2": تعقيدات كثيرة تغلّب الحذر على التفاؤل

ما يزيد الأمور تعقيداً هو واقع المعارضة السورية، التي هي في الحقيقة معارضات لا تكاد تجتمع على شيء لاعتبارات تخص انتماءاتها الأيديولوجية والإثنية والطائفية، ولاعتبارات تخص حساباتها المتعلقة بحجم مواقعها وأدوارها في المستقبل السياسي لسوريا، ولاعتبارات تخص مرجعياتها الإقليمية والدولية التي تقف وراءها. هذا إلى جانب مقاربتها المتنوعة لأشكال الحل. ثم هناك بالفعل شكوك كبيرة حول حقيقة ما تمثله هذه المعارضة على الصعيد الشعبي في الوقت الذي يدرك الجميع أن الكلمة الحاسمة هي للمجموعات المسلحة التي بدورها تربو على الألف مجموعة، وإن كان البارز فيها اليوم هو المجموعات التكفيرية وفي طليعتها تنظيم "جبهة النصرة". فإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً وجود معارضة في الداخل السوري، نصبح أمام فسيفساء من المعارضة المتشاكسة الألوان والميول والاتجاهات والغايات والأهداف.

ثم، إن هذه المعارضة الموسومة باسم الائتلاف الوطني السوري لا تعكس إلا أجندة أسيادها الإقليميين والدوليين، فهي تطابق ما بين سقوفها وسقوف هؤلاء الأسياد على نحو مطلق، ما يجعلها - في الواقع - تقوم بعملية مصادرة على المطلوب، وبتالي تحويل المؤتمر إلى فرصة لفرض نوع من عقد إذعان على النظام لا أكثر ولا أقل.

في خضم هذا كله لا تتوقف عجلة الدبلوماسية العسكرية عن الدوران، بدءاً من المناورات العسكرية الإسرائيلية، وتلك التي ستكون ساحتها الأردن، ومروراً بإعادة النظر الأوروبية في مسألة رفع الحظر عن تزويد المعارضة بالأسلحة الفتاكة، والتي لا تتوقف واشنطن بدورها عن إرسال رسائل بنفس المحتوى، مع العودة إلى التلويح بخيار فرض حظر جوي فوق سوريا، والتي يقابلها تحذيرات من قبل روسيا وإيران وحزب الله تتقاطع عند حدود إظهار الاستعداد للتدخل المباشر في حال شن أي عدوان خارجي على سوريا، أو تم فرض منطقة حظر جوي، وليست صفقة صواريخ S300 الروسية المضادة للطائرات خارج هذا السياق.

هذه الدبلوماسية العسكرية النشطة تشكل محاولات غربية واضحة للضغط على النظام لحمله على التجاوب مع التنازلات التي يراد فرضها عليه في المدى المباشر، وتسعى لتوجيه رسائل لكل من روسيا والصين وإيران في حال فشل المؤتمر في المدى غير المباشر، إضافة إلى المغزى الخاص برفع معنويات المعارضة المتضعضعة. إن اشتباك الرسائل العسكرية يراد منه في النهاية فرض توازن قوى على صعيد الأوراق، لإعادة ضبط الصراع عند حدوده الحالية. ثم، إن التحالف الغربي - السعودي - القطري - التركي يدرك مغزى التطورات الميدانية داخل سوريا. إن انقلاب موازين القوى على نحو استراتيجي لمصلحة النظام وحلفائه الدوليين والإقليميين ستكون له انعكاساته الكبيرة على أهداف المؤتمر، فخريطة الحل يفرضها أولاً وأخيراً الواقع الميداني، مهما كانت درجة قوة أو ضعف الأوراق الأخرى التي بيد أعداء النظام. ففي الوقت الذي يحقق النظام انجازات نوعية على الصعيد الميداني تصبح المطالبة برحيله، أو رحيل الرئيس الأسد لا معنى لها، لأنها لا تستند إلى أي واقع صلب. في المقابل يستطيع النظام أن يقول إن موقعي ودوري المستقبليين يساويان جغرافياً سلطتي ونفوذي. فما يصيغ الحلول في النهاية هو الواقع الميداني. ولذا، يصعب تصور أن يوافق الحلف السعودي - القطري - التركي، وأن يوافق ربيبهم الائتلاف السوري المعارض على الذهاب إلى مؤتمر في ظل موازين القوى الحالية. وهم يدركون أن التلويح بورقة التسليح ليست كافية لإحداث تعديل فعلي في موازين القوى الحالية.

خلاصة القول هنا، إننا في مواجهة أحد الاحتمالات التالية:

أولاً: اعتبار كل ما تقدم أمراً طبيعياً تقتضيه لعبة التفاوض، فلا أحد يذهب بسقوف أو مطالب منخفضة، بل كل طرف يرفع سقف مطالبه إلى الحد الأقصى، وهو يدرك أن النتائج النهائية ستكون دون ذلك. وفي هذا السياق، فإن المشاكل الأخرى هي مشاكل إجرائية يمكن التغلب عليها إذا ما كان هناك قرار جدي بالوصول إلى حل سياسي.

ثم من قال، إن المطلوب من "جنيف-2" أن يكون بمثابة النهاية للأزمة السورية، فهو لا يعدو أن يكون محطة في مسار قد يطول أو يقصر لإيجاد حل لهذه الأزمة، وذلك نظراً لتعقيداتها الكبيرة.

هذا التصور يفترض عدم الذهاب إلى التشاؤم، وإنما التعاطي بواقعية وبشيء من التفاؤل الحذر بكل هذه المناخات المحيطة بالأزمة السورية.

ثانياً: إن كل ما تقدم يعكس مشاكل فعلية تعكس تعقيدات الأزمة وتشابكاتها، وتعكس حجم الأهداف والرهانات المتعلقة بكل ما يجري في سوريا، وهي أهداف تتداخل فيها الحسابات الدولية مع الحسابات الإقليمية، كما تتداخل فيها ملفات المنطقة إلى أقصى الحدود. فسوريا هي دولة مفتاح لكثير من الأمور الأساسية والإستراتيجية في المنطقة، هكذا كانت تاريخياً وما زالت، بل وربما اليوم أكثر لدخول عناوين جديدة مثل عناوين الطاقة، وإعادة رسم صورة المنطقة... الخ. هذا يعني أن أي تسوية فعلية يجب أن تعكس أولاً تفاهمات الكبار على كيفية توزيع مواقع الثروة والنفوذ... الخ، وثانياً ترجمة ذلك من قبل الأطراف المحلية الخاصة بالصراع. وهذا ما لا تظهر أية بوادر اقتراب منه حتى الآن. الأمر الذي يعني أن الوصول إلى "جنيف-2" محفوف بمشاكل فعلية، وحتى في حال انعقاده لن يشكل محطة مفصلية، وإنما خطوة في طريق صعب ومعقد، سيبقي سورية في معمودية النار حتى وقت غير قصير. وما قد يرجح هذا التصور أيضاً هو شعور الأطراف المتصارعة بإمكان حسم الأمور لمصلحتها، أو تعديل التوازنات لمصلحتها أيضاً، في ظل شعور بإمكان ضبط الصراع ومنعه من التحول إلى انفجار إقليمي شامل.

في مطلق الأحوال، إن دروس التاريخ تعلمنا بأن أزمات دولية - إقليمية - محلية من النوع الذي نشهده في سوريا، لا يكون الوصول إلى تسويات نهائية لها سهلاً. وهو يخضع للكثير من التجاذبات والأخذ والرد قبل وصول الأطراف الرئيسية المعنية إلى قناعة شاملة بحلول أوان الحل، وما لم تنضج ظروف التسويات الدولية - الإقليمية لا يمكن الحديث عن إمكان فرض حلول في المدى المنظور، وإنما سنكون أمام جهد يراد له تحضير المسرح بخشبته وكراسيه وممثليه قبل كتابة النص النهائي له، والذي من طبيعته في حالات كهذه أن يكتب كل يوم بيوم.
2013-05-31