ارشيف من :آراء وتحليلات

صيف تركي حار وحار جداً...

صيف تركي حار وحار جداً...
لو لم تكن هنالك "حديقة غازي" و"ساحة تقسيم"، فإن الاضطرابات التي تعصف اليوم بتركيا كانت ستحدث حتماً، لأن الشارع التركي قد أصبح شديد الاحتقان بالسخط على سياسات أردوغان، ولأن أي تصرف يقدم عليه رئيس الوزراء الذي زعم يوماً بأنه سيعمل على "تصفير" مشاكل تركيا، كان سيثير مشكلة ويطلق بالتالي شرارة الانفجار.

لكن الظروف شاءت أن تنطلق تلك الشرارة من "حديقة غازي" و"ساحة تقسيم"، أي من مكان مشبع بالدلالات ومن مشروع حكومي مشبع بدوره بدلالات أكبر. "حديقة غازي" هي البقعة الخضراء الوحيدة المتبقية في غابة الإسمنت والإسفلت والتلوث المنبعث من أنماط العيش السائدة في مدينة يعيش فيها 15 مليون إنسان يعانون شأن غيرهم من سكان المدن في العالم من ضغوطات الحياة العصرية. تنتصب فيها بقية أشجار يلتجئ الناس إلى فيئها ليتنفسوا هواءً ما زال يحتفظ ببعض النقاء. وتلك الأشجار بالضبط هي ما اختارته حكومة أردوغان لتقدمها، مع جانب كبير من "ساحة تقسيم"، أضحية على مذبح المصالح الشخصية الضيقة، القطرية ـ التركية، ولكن أيضاً على مذبح عثمنة تركيا، إضافة إلى الانتقام من مكان منعت فيه التظاهرات لسنوات لأنه طالما شهد على نضالات الشعب التركي ضد حكامه الظلمة.

صيف تركي حار وحار جداً...

المشروع العمراني الذي تنوي حكومة أردوغان إقامته في المكان هو عبارة عن مدينة للملاهي ومركز تجاري ضخم بملكية مشتركة بين مستثمرين قطريين وبعض أقارب أردوغان. بكلام آخر، ذراع إضافية للأخطبوط الذي تمثله بضع عشرات من المراكز التجارية الضخمة المنتشرة في أنحاء المدينة. والأنكى أنه، على ما يقوله اليساريون، وهم ليسوا قلة في تركيا، "خصخصة" لمكان عام بعد أن اجتاحت الخصخصة كل مرافق تركيا.

وإلى جانب المركز التجاري، ثكنة عسكرية عثمانية تريد حكومة أردوغان إعادة بنائها من جديد تأكيداً لهوية جهدت تركيا طيلة قرن مضى من أجل التخلص منها لحساب علمانية وحداثة يتبناهما حزب العدالة والتنمية نفسه رغم صعوبة التوفيق بينهما وبين العثمنة وشكل من أشكال الأسلمة مثير للمخاوف أو، أقله، قابل للنقاش.  وإلى جانب الثكنة مسجد تنطبق عليه المواصفات المذكورة.

وغير بعيد عن "ساحة تقسيم"، وفي غمرة الاضطراب الذي يعصف في تركيا، لا يتردد السيد أردوغان عن صب الزيت على النار: قرار ببناء جسر ثالث على مضيق البوسفور. أي قرار بإثارة مشكلة لا تتعلق ببناء الجسر بل تحديداً بالاسم المزمع إطلاقه على الجسر: "جسر السلطان سليم". أي، إلى جانب العثمنة التي يرفضها كثيرون من الأتراك بما هي كذلك، عثمنة بوجه طائفي معلن أثار حفيظة عشرين مليون علوي ما زالوا يتذكرون الاضطهاد الذي تعرض له أسلافهم على يد السلطان المذكور.
كل ذلك، وخصوصاً مواقف التحدي والعنجهية التي اتخذها أردوغان بالتوازي مع تطور الأزمة، يفسر السرعة القياسية في الانتقال من اعتصام نفذه بضع مئات من الأشخاص في "حديقة غازي" إلى هذه الثورة العارمة التي شملت جميع أنحاء تركيا.

"متطرفون" و"رعاع" و"زعران". تلك هي الأوصاف التي أطلقها أردوغان على المشاركين في 250 تظاهرة خرجت في المدن التركية خلال اليومين الأولين من الانتفاضة. وإصرار على المضي قدماً في تنفيذ مشروعه العمراني، وتهديدات بإنزال مناصريه الذين يشكلون، على حد قوله، 50 بالمئة من الشعب التركي إلى الشوارع.

مع كل ما في هذه التهديدات من لا مسؤولية. إذ على فرض أن الـ 47 بالمئة من الأتراك الذين  صوتوا لمصلحة تعديلاته الأخيرة على الدستور ما زالوا على ولائهم له، ولم ينتقل قسم مهم منهم إلى صفوف المعارضة، فإنه من غير اللائق أن يلجأ حاكم إلى تهديد نصف المجتمع الذي يحكمه بنصفه الآخر. اللهم إلا إذا كان يخدم أجندة تهدف  إلى تخريب تركيا.

صيف تركي حار وحار جداً...

لكنه اكتفى حتى الآن بإنزال الشرطة. وبالنتيجة تحولت اسطنبول وأنقرة وأزمير وغيرها من المدن التركية إلى ساحات حرب. متاريس وحرائق واشتباكات ودمار وآلاف المعتقلين ومئات الجرحى وسقوط قتيلين وفق مصادر منظمة العفو الدولية. وبالطبع لم تعترف السلطات بسقوط قتلى، كعادتها عندما لم تعترف إلا بربع القتلى الـ 177 الذي سقطوا في تفجيري الريحانية.

وسواء توقفنا أم لا أمام الهجوم الذي قام به المتظاهرون الأتراك على الفندق الكائن في مدينة أضنة والذي يقيم فيه أعضاء ما يسمى بالائتلاف السوري المعارض، فإن مواقف الحكومة التركية مما يعتبره 75 بالمئة من الشعب التركي مؤامرة على سوريا هي ما يفسر تصاعد النقمة على حكم أردوغان، خصوصاً في ظل المودة المتبادلة بينه وبين أنظمة الربيع العربي بإفرازاتها المخيفة.

ومع تصاعد الانتفاضة في تركيا، فإن مراقبين كثيرين بدأوا باستشراف ربيع تركي. والأصح أن ما بدأ في تركيا نتيجة للرعونة الانكشارية الجديدة هو صيف تركي حار وحار جداً.
2013-06-05