ارشيف من :آراء وتحليلات

فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية

فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية
أميركا التي تملأ الدنيا زعيقا حول الديمقراطية وحقوق الانسان، والتي تشن اليوم (بواسطة دعم التكفيريين) حرب ابادة ضد الشعب السوري، وتهدد بأنها ستمدها الى باقي دول الجوار لاجل "الديمقراطية!"، ـ اميركا هذه انفجرت فيها مؤخراً فضيحة مدوية حول التنصت التام على جميع المخابرات والاتصالات التلفونية والانترنتية لجميع المواطنين وجميع المقيمين في اميركا وكل من يتصل من الخارج بمواطن او بمقيم في اميركا.

وخلال اسبوع واحد كتبت جريدة "الغارديان" البريطانية و"الواشنطن بوست" الأميركية حول الفضيحة وألهبتا مشاعر المواطنين على ضفتي المحيط . عشرات ملايين المشتركين في أحد الهواتف النقالة الكبرى كان يتم التجسس عليهم من دون علمهم. وتبين لاحقا ان الجواسيس الاميركيين "ينقبون" في الانترنت في حياة عشرات ملايين الناس في العالم بواسطة نظام مخصوص سري للغاية يسمى "الموشور" (prism). وكان هناك تعاون بين المخابرات الاميركية والانكليزية، وكان يتم استخدام المعلومات في بريطانيا أيضا. ولم تنف السلطات في البلدين الواقعة، ولكنها سعت لاكتشاف من هو المسؤول عن فضح هذه المعلومات في وسائل الاعلام.

فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية
ادوارد سنوودون
وتقول "الغارديان" ان شرارة الفضيحة انطلقت بواسطة تكنولوجي متعاون مع المخابرات عمره 29 سنة ويدعى Edward Snowdon. وقد اعترف أنه هو مصدر المعلومات التي تسربت الى الصحافة، وكشف ان المخابرات الاميركية تتجسس على التلفونات والاتصالات الانترنتية عبر الاتصال مباشرة مع "مخاديم" (servers) تسع من اكبر شركات الانترنت مثل "غوغل"، "فايسبوك"، "سكايب" و"يوتيوب".

وفي مقالة له مع "الغارديان" قال سنوودون انه كان يعمل في هاواي لشركة الاستشارات Booz Allen Hamilton بصفة محلل للبنية التحتية لصالح "وكالة الامن القومي". وانه قرر ان يفضح أمام وسائل الاعلام المعلومات عن التجسس على الاتصالات، لان رؤساءه لم يعيروا اهتماما لتحذيراته حول التعسف والانتهاكات التي تقوم بها "وكالة الامن القومي" لدى مراقبة اتصالات الاشخاص. والان فإن هذا المستخدم التكنيكي السابق في "السي آي ايه" يقيم في فندق في هونغ كونغ. واعلن امام جريدة "واشنطن بوست" انه لا يعتزم العودة الى الولايات المتحدة الاميركية، وانه سيطلب "اللجوء الى اي بلد يؤمن بحرية الكلمة".

وتقارير وسائل الاعلام التي يؤكد فيها هذا الشخص انه كشف معلومات سرية تمثل صدمة. اذا كان ذلك صحيحا فإن اعماله تمثل انتهاكا لقواعد السلوك ولقيم شركتنا"، حسبما اعلنت شركة Booz Allen Hamilton. وعلقت جريدة "واشنطن بوست" ان التسريب غير المسبوق لاسرار "وكالة الامن القومي" من قبل شخص منفذ لعمليات التجسس، بما في ذلك "قنابل" السري للغاية المتعلقة بجمع المعلومات عن المحادثات التلفونية، والايميلات وغيرها من المعلومات الشخصية، كان على الارجح نتيجة حتمية للنمو الهائل للمجمع التجسسي ـ الصناعي للولايات المتحدة الاميركية. وخلافا لـ برادلي مانينغ، الذي سلم ويكيليكس اكثر من 700000 وثيقة سرية من الشبكات الامنية العسكرية، فإن الوثائق التي كشفها سنوودون هي اقل عددا، الا انها اكثر حساسية، بما في ذلك مواد سرية للغاية. ولم يكن يوجد في ما كشفه مانينغ وثائق سرية للغاية، كما تقول الجريدة.

لا يملك ادوارد سنوودون تعليما جامعيا، ولكن وكالة المخابرات المركزية قدرت امكانياته وفي سنة 2007 ارسلته الى جنيف تحت تغطية دبلوماسية. ويقول سنوودون "ان ما رأيته في جنيف حطم كل الاوهام التي كانت لدي كيف ان حكومتي تعمل، وكيف ينعكس هذا العمل على العالم. لقد ادركت انني كنت جزءا من شيء يعمل الكثير من الامور السيئة اكثر بكثير من الامور الحسنة".

كما يقول ان "العم سام" يبحث في كل زاوية في الانترنت، وان اوباما يتابع عمليات التجسس التي بدأها بوش، وهو يدوس الحرية اكثر من بوش. وقد كشف النطاق الواسع للجاسوسية الاميركية داخل اميركا وفي كل انحاء العالم. وخلال شهر اذار فقط من هذا العام "امسكت" وكالة الامن القومي 97 مليار اتصال هاتفي وبالانترنت في كل انحاء العالم، منها 3 مليارات في الولايات المتحدة وحدها.

ويعيش سنوودون حاليا في غرفة في فندق في هونغ كونغ منذ 20 ايار. ووصل الى هناك من هاواي، حيث كان يعمل في شركة "بووز ألن هاملتون"، التي هي احدى ادوات التنفيذ لـ"وكالة الامن القومي". وسبق ان عمل فيها عدد من مسؤولي الاستخبارات الاميركية البارزين، منهم جايمس كلابر، جايمس اوسلي ومايك ماكونيل.
فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية
يعيش سنوودون حاليا في غرفة في فندق في هونغ كونغ

ويقول سنوودون انه فكر لاول مرة ان يكشف الاسرار حينما كان يعمل في السي آي ايه سنة 2008، ولكنه خشي ان يغامر بحياة بعض العملاء. كما ان باراك اوباما كسب حينئذ الانتخابات تحت شعار الشفافية، وهو قد صدقه. ولكنه سرعان ما خيب امله. ويقول "رأيت بأم عيني كيف انه (اي اوباما) يتابع سياسة جورج بوش"، وان "وكالة الامن القومي" تصبح اكثر قوة، "ان هذا الذي يفعلونه هو تهديد وجودي للديمقراطية، انهم يعلمون في كل وقت اين انتم وماذا تفعلون، لا يمكنكم الاختباء". "انني لم افعل شيئا سيئا"، "ان حافزي الوحيد هو الشفافية ـ ان المجتمع ينبغي ان يعرف ماذا يفعلون وباسمه ضده هو نفسه، انني لا اريد ان اعيش تحت مراقبة دائمة". "لقد ضحيت بكل شيء ـ 200000 دولار معاشا سنويا، وعائلتي وصديقتي، لانه لا يمكنني ان اسمح لحكومة الولايات المتحدة الاميركية ان تستولي على خصوصيات الناس"، كما يقول سنوودون. "يوجد اشياء اهم من المال، لو كان المال هو هدفي، لكنت بعت كل شيء للعدو وكنت اصبحت غنيا جدا".

وقد اختار سنوودون الهرب الى هونغ كونغ، لانها وان كانت تحت الولاية القضائية للصين، فإنها مشهورة بمحافظتها الحازمة على حقوق الانسان. ويعترف سنوودون "انني على معرفة تامة انه من الان فصاعدا لا ينتظرني اي شيء جميل". وبرهان على ذلك انه بعد اول مقابلة له مع جريدة "الغارديان" تم استجواب صديقته في هاواي من قبل عملاء حكوميين.ومن المتوقع ان يكون ذلك عملية طويلة، يمكن خلالها ان يتم تسليمه الى بكين، بوصفه مصدرا ثمينا للمعلومات. "ولهذا يمكن للمخابرات الاميركية ان تقتلني او تخطفني، حتى بمساعدة "التريادا" ـ المافيا الهونغكونغية". كما يتخوف سنوودون.

فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية
القنصلية الاميركية في هونغ كونغ


ويقول "انني من انصار مانينغ، ولكن هناك فارقا كبيرا بين ما قمت به انا وما قام به هو، فأنا دققت بانتباه ما انشره، حتى لا اهدد امن اي شخص محدد". ولكنه اضاف انه لا يتوقع لنفسه مصيرا مختلفا عن مصير مانينغ، نظرا لاصرار ادارة اوباما في ما يتعلق بقضيته.

ويأمل سنوودون حاليا ان يحصل على اللجوء في ايسلندا ولكن هذا لن يكون سهلا. لان ايسلندا تشترط اولا ان يتواجد شخصيا على اراضيها.

وسنوودون هو مهدد ان يقضي في السجن سنوات طويلة فيما لو تم القبض عليه، ولكن اولا ينبغي لهونغ كونغ ان توافق على تسليمه للولايات المتحدة الاميركية، علما ان واشنطن لديها اتفاقية لتسليم المجرمين منذ سنة 1996، اي سنة واحدة قبل اعادة هونغ كونغ الى الصين. ولا يزال يسري في شبه الجزيرة قانون على الطراز الغربي، ويمكن الاعتراض على التسليم فيما اذا لم يكن يوجد ضمان لمحاكمة عادلة. كما ان الصين يمكن ان تتدخل وتضع فيتو على تسليم سنوودون، فيما اذا قررت بكين ان التسليم يهدد امنها القومي. ويؤكد بعض المحامين لرويترز ان سنوودون يمكن ان يبقى في هونغ اشهرا وربما سنوات.

"انا لن اختبئ" قال سنوودون امام "واشنطن بوست" "ان حق الولايات المتحدة الاميركية ان تهدد الناس باجراءاتها القمعية يتناقض مع مصلحة المجتمع. لا اريد ان اعيش في مجتمع يسمح بحصول امور مشابهة. لا اريد ان اعيش في عالم حيث كل ما اقوله او افعله يتم تسجيله". وجوابا على سؤال ماذا يتوقع ان يحصل له الان، اجاب سنوودون"لا شيء جيد".

ولكن بعد تسرب المعلومات الفضائحية لم يتوان الرئيس الاميركي باراك اوباما عن التصريح بأنه لم يتم التنصت على المواطنين الاميركيين، وان الاجهزة الامنية انما تعمل بموجب القواعد القانونية المعمول بها في البلاد.

فضيحة التجسس على المواطنين تعرِّي ’الديمقراطية’ الأميركية
موسكو ابدت رغبتها منح سنودون حق اللجوء السياسي

وأدلى الناطق الرسمي باسم الرئيس الروسي دميتريي بسكوف بتصريح نقلته وكالة ايتار ـ تاس، بأن موسكو على استعداد للنظر في امكانية طلب سنوودون اللجوء الى روسيا.

ودعا جوليان اسانج مؤسس "ويكيليكس" بلدان العالم لتأمين اللجوء لسنوودون.

هذا وتدور الان في الولايات المتحدة مناقشة عامة عما اذا كان من المبرر، بحجة مكافحة الارهاب، انتهاك حقوق المواطنين الى هذا الحد. وعلق السيناتور الجمهوري ذو القناعات الليبيرالية راند بول بالقول ان الوضع هو "انتهاك غير معقول للدستور". ويقول السيناتور المستقل برني ساندرز "لا يجب على الولايات المتحدة ان تجمع تسجيلات لأحاديث عشرات ملايين الاميركيين الابرياء. لا شيء يجمع هذا التصرف مع الديمقراطية والحرية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2013-06-12