ارشيف من :آراء وتحليلات

إنهاء الجيش لظاهرة الأسير في صيدا إبعاداً للفتنة على طريق إسقاطها النهائي

إنهاء الجيش لظاهرة الأسير في صيدا إبعاداً للفتنة على طريق إسقاطها النهائي


لم يكن اختيار رعاة مجموعة الأسير الإرهابية عرباً ومحليين لمدينة صيدا كقاعدة أمنية ـ عسكرية متقدمة لإشعال فتيل الفتنة في لبنان عشوائياً أو محض صدفة، بل عن دراية وتخطيط مسبقين، وذلك للآتي:

أولاً: إن لمدينة صيدا قيمة إستراتيجية بالنسبة للمقاومة في لبنان، فهي تشكل عقدة وصل وفصل بين خزان المقاومة في العاصمة ومنطقة الجنوب التي تشكل بدورها الجبهة المركزية في مواجهة العدو الإسرائيلي، كما تشكل مدخلاً رئيسياً للمقاومة من المدخل الشرقي لمدينة صيدا ومنطقة إقليم التفاح الإستراتيجية، ما يعني أن تحويل هذه المدينة إلى بيئة معادية للمقاومة سيؤدي إلى تحويلها إلى خط تماس مشتعل مع محيطه الجنوبي، وبالتالي إلى خنجر مسموم في ظهر المقاومة، وإلى جبهة إشغال لها، وإلى نقطة إعاقة لوجستية لها أيضاً.

ثانياً: ما يساعد على تنفيذ هذا المخطط هو الواقع المتنوع سياسياً ومذهبياً لمدينة صيدا، ووجود بقايا من المجموعات التكفيرية من "فتح الإسلام" و"جند الشام" المرتبطتين بتنظيم القاعدة، والتي سبق لأحد الأجهزة الأمنية أن سهل عملية وصولها إلى مخيم عين الحلوة عقب معركة نهر البارد مع الجيش اللبناني.

ثالثاً: لا يمكن فهم دور فتنة الأسير في صيدا، وبالتالي فتنة رعاته من عرب ومحليين، بمعزل عن رؤية كامل مخطط الحصار والعزل والإشغال والإرباك للمقاومة على كامل المشهد اللبناني ـ السوري. فمن نافل القول إن عملية انتشار الجماعات التكفيرية في المحيط السوري المتاخم لخزان المقاومة وبعدها اللوجستي الاستراتيجي في سوريا والبقاع معاً، كان يراد منها انجاز الهدف المركزي من المؤامرة في سوريا وعلى سوريا والمتمثل بفصلها كمدى حيوي إسنادي ولوجستي للمقاومة، وكجبهة إشغال مركزية لها.

أما لبنانياً فليست محاولات قطع الطريق الذي يربط الجنوب بالعاصمة، والزرع المتنقل للعبوات على الطريق الذي يربط البقاع بالعاصمة، أو يربط العاصمة بطريق المصنع، وبروفات قطعها من خلال انتشار مجموعات مسلحة من حين إلى آخر إلا جزءاً أساسياً من المخطط الشامل لتقطيع أوصال مناطق تواجد المقاومة وبيئتها الحاضنة، ولإرباك خطوط تواصلها اللوجستية، وإدخالها في معمعة من الإشغال الأمني، والاستنزاف والإنهاك. أما بلدة عرسال البقاعية فأريد لها أن تتحول إلى دفرسوار أمني وعسكري يعمل بالاتجاهين السوري واللبناني.

إلا أن نجاح هذا المخطط الشامل كان يتطلب التالي:

أولاً: تصعيد عملية التعبئة والتحريض المذهبيين إلى أعلى الدرجات. هنا لم يعد التصعيد السياسي - المذهبي الذي يقوم به تيار المستقبل كافياً لرفعه إلى هذه الدرجات غير المسبوقة، لأنه لا يشكل - بخلفيته السياسية - شرطاً كافياً لإنتاج عصبية مقاتلة، كما ظهر بوضوح في تجربة عام 2007، فكانت الحاجة ماسة إلى تطعيمه إيديولوجياً، وهنا تحديداً يكمن مغزى التحالف الموضوعي بين تيار المستقبل والتيارات السلفية القتالية التي أثبتت قدرتها على إنتاج مجموعات لديها العزيمة على القتال، فثمة حاجة متبادلة بين الطرفين، وهي حاجة استخدام ذرائعية. فالتيارات السلفية القتالية ملأت الفراغ الإيديولوجي لتيار المستقبل، في حين وفر هو لها المناخ السياسي والإعلامي والنفسي المطلوب. ولكي تتخذ عملية التعبئة والتحريض المذهبيين كامل أبعادها، لا بد من توفير القضية اللازمة لها، والعدو المطلوب. هنا، تمت صياغة قضية وهمية اسمها حقوق أهل السنة المهدورة، وأما العدو الوهمي فهو المقابل المذهبي وإن بمسمى خاص هو حزب الله والمقاومة. إن صناعة مخيال سني منسوج من وهم أن أهل السنة مهددون من الشيعة وبتركيز خاص على حزب الله، وأن سلاح المقاومة هو مصدر هذا التهديد، هو شرط ضروري لصرف أهل السنة عن العدو المشترك الحقيقي أي العدو الإسرائيلي، ولإشغال أهل السنة عن التحديات والأخطار المشتركة الفعلية، ولصناعة عصبية مدمرة، والأخطر من ذلك لضرب أستار من الحجب السميكة على العقل حتى لا يبقى هناك من لغة مسموعة إلا لغة الغرائز التي تكفل إقامة جدار عالٍ يحول دون الوصول إلى حقيقة الأمور كما هي، وبذلك تتم شرنقة المجموعة المذهبية على نفسها وبما يحول دون أي عملية تواصل حقيقية مفتوحة على ما هو مصلحة عامة، الأمر الذي يفضي بدوره إلى القضاء التام على فضاء الحياة السياسية والممارسة والفعل السياسيين بالمعنى الدقيق والحقيقي للعمل والممارسة السياسيين، واستبدالها بآلية اتصال وحيدة تنهض على العنف بكل أشكاله ومستوياته من خطاب سياسي وإعلامي وثقافي واجتماعي واقتصادي وأمني وعسكري. وبذلك يتم دمج لبنان بالكامل في مخطط التعبئة والتحريض المذهبيين القائم في المنطقة اليوم، والذي يقوده النظامان السعودي والقطري، ولأغراض أكبر تستهدف باقي جغرافية محور المقاومة في المنطقة بدءاً من إيران ومروراً بالعراق فسوريا. فإذا كان لبنانياً مطلوب شيطنة حزب الله والمقاومة والشيعة وتحويلهم إلى عدو مركزي، فإقليمياً مطلوب شيطنة إيران وحكومة المالكي والنظام السوري وعلى رأسه الرئيس الأسد، وتحويلهم إلى العدو المركزي. وهكذا يتم إسقاط العدو الإسرائيلي من لائحة الأعداء نهائياً. كل هذا يكشف زيف دعوى تحييد لبنان، وزيف خطاب الحرص على الدولة والكيان والشرعية إلى ما هنالك من معزوفة، حيث تصبح مفردات هذا الخطاب بمثابة ذر للرماد في العيون، وحجب للخلفيات والأهداف الحقيقية. إن آلية التفتيت الفتنوي ـ المذهبي هي المقتل الفعلي للسلطة ولإنتاجيتها، لأن من شأنها أن تحوّل إطار السلطة إلى تجمع من المتاريس والجبهات المتصارعة، بدلاً من انصهارها في بوتقة التعاون والتكامل والفاعلية الوطنية الجامعة. ونظرة بسيطة إلى أرباب العصبيات هذه من تيار مستقبل وباقي أدواته تكشف عن أنه لم يكن لها من عمل سوى إصابة السلطة وعملها بعطل بنيوي يجعلها مجرد هيكل فارغ خاوٍ من أي مضمون فعلي.

كما إنه وبنظرة شاملة إلى جغرافية لبنان الديموغرافية، نجد مدى إصرار هؤلاء على تفتيت كل منطقة تتألف من خليط مذهبي، وصناعة متاريس عدوانية لا تنتج إلا عنفا وعنفا مضادا، وليست طرابلس هنا ببعيدة عنا، وكذلك عرسال، وطريق الجديدة، والبقاع الأوسط، وأخيراً وليس آخراً صيدا.

ثانياً: تعميم حال الفوضى بما هي نقيض للنظام الرابط والجامع، وبما هي آلية مثالية لتقويض كل عناصر الالتزام الأخلاقية والقيمية والقانونية والاجتماعية والسياسية والسلطوية. إن حال الفوضى هي البيئة الأكثر ملاءمة لخطاب الفتنة بأعلى أشكاله المدمرة، أي الخطاب الديني - المذهبي، الذي يرفع الخطاب إلى درجة المقدس الذي لا يمس، ويجعل كل شيء مباحاً باسم الله، والله منه بريء.

ثالثاً: إن تكريس حال الفوضى بقدر ما يتطلب تقويض الضوابط وعناصر الالتزام الداخلية لدى الإنسان فرداً كان أو جماعة، فهو يتطلب تقويض موانعها الخارجية الرادعة والمتمثلة على نحو رئيسي بالمؤسسات الأمنية من قوى أمن وجيش، ومؤسسة القضاء. ومن نافل القول، إن مؤسسة قوى الأمن في لبنان جرت مصادرتها منذ مدة لمصلحة تيار المستقبل، وتم تحويلها بالتالي من مؤسسة وطنية إلى مؤسسة فئوية، ما أبطل دورها الرادع والناظم والحريص على أمن كل اللبنانيين. والأمر عينه ينطبق على مؤسسة القضاء التي لم تسلم بدورها من العبث الطائفي والمذهبي. وحدها مؤسسة الجيش بقيت صامدة حتى الآن، الأمر الذي يفسر الحملات الشرسة عليها تارة من خلال اتهامها زوراً بأنها لفئة دون فئة، وطوراً من خلال الدعوة إلى تفتيتها من خلال عضها بالناب المذهبي، ودعوة السنة إلى العصيان والخروج منها من جهة، ومن جهة أخرى من خلال إنهاكها بمعارك متنقلة، والتشكيك بولاء عناصرها وضباطها، والكمن لهم والنيل منهم بالقتل بدم بارد، وكل ذلك لتحويل هذه المؤسسة إلى بطة مشلولة مكبلة موؤودة الروح ومحاصرة بين خيارين لا ثاني لهما: إما أن تكون مجرد شاهد زور، وإما تهديدها بالانفراط المذهبي. طبعاً لا يمانع هؤلاء، بل يشتهون لو تؤدي حملتهم على مؤسسة الجيش إلى جعلها تخضع لمتطلبات وأهداف مشروعهم. إن مراجعة شاملة لمسلسل النيل من الجيش موقفاً وخطاباً سياسياً وإعلامياً، ولمسلسل النيل منها أمنياً وعسكرياً، وفق سيناريو خاص به ينفذه تيار المستقبل وبعض التيارات السلفية، خير شاهدٍ على النوايا الخبيثة المبيتة من قبل هؤلاء للجيش.

يدرك هؤلاء أن إسقاط مؤسسة الجيش من خلال وأد روحها المعنوية، وإزهاق هيبتها، وتحويلها إلى مجرد هيكل لا حياة فيه، هو بمثابة إسقاط لآخر حصن من حصون الدولة، ولآخر خط دفاع يحول دون سقوط لبنان نهائياً في فخ الفتنة المذهبية وحروبها الضروس التي تأكل الأخضر واليابس. لا يهم تيار المستقبل، ولا حتى حلفاءه من مسيحيي الرابع عشر من آذار ما يعني بقاء الجيش بالنسبة للمسيحيين وحتى للدروز ولزعيمهم جنبلاط، كشرط ضروري لبقاء الشعور بالأمن ولو بقدر ما، ما دام إسقاط الجيش سيؤدي إلى إسقاط ما تبقى من قوة مانعة للفتنة وبالتالي للنيل من حزب الله والمقاومة وسلاحها. ويدرك المسيحيون العاملون والحريصون بالفعل على الوجود المسيحي في لبنان، كما يدرك جنبلاط أيضاً، أن الفتنة السنية ـ الشيعية لن توفرهما، بل قد يدفعان ثمناً باهظاً جراءها وهذا ما يفسر مواقف البطريرك الماروني، ومواقف وليد جنبلاط من الاستهداف القاتل والدموي الذي جرى للجيش في صيدا.

استناداً إلى ما تقدم، لم يكن الاستهداف الإرهابي من قبل جماعة الأسير للجيش في صيدا خطأ، أو فخاً جرى استدراجه إليه، كما حاول السنيورة ومن لف لفه تصوير الأمر، بل كان مخططاً له ومحسوباً بدقة، لأنه ينسجم تماماً مع مخطط وأد معنويات وهيبة الجيش وتحويله إلى بطة مشلولة، وبالتالي تحييده بما هو الحياد الاسم الحركي لإسقاط دوره نهائياً، حيث بدون هذا الإسقاط لم تكن لتكتمل خطة الأسير ومن يقف وراءه لتفجير الفتنة في صيدا من خلال افتعال معركة مسلحة مع المقاومة أو محيط صيدا، والذي سبق له وضرب لها موعداً علنياً هو يوم الاثنين الفائت. نعم، خطأ الأسير ومن يقف وراءه يكمن في عدم توقعه رد الفعل الذي قام به الجيش، وهو رد فعل استند فيه الجيش إلى إدراكه أنه بات مخيراً بين أن يلعب دوراً وطنياً ويمنع الفتنة فيبقى ويحفظ موقعه ودوره الوطنيين، ويمنع بالتالي الانهيار والسقوط الشامل لكل لبنان مجدداً في حرب داخلية ضروس، أو أن يستقيل من دوره ويستسلم للسقوط، ويكتب النهاية لنفسه بيده هذه المرة، فآثر الأول على الثاني مع علمه بأن قلة هي الأطراف السياسية التي تدعمه وتقف إلى جانبه، وهي نفس القلة الحريصة على منع الفتنة، ووأد الحرب الأهلية في مهدها، مع كل أولئك المتضررين بعمق منها.

وعندما رأى تيار المستقبل ومن لف لفه خيبة تقديراته، وأن الأمور متجهة إلى استئصال مسجد ضِرار الأسيراوي في عبرا لجأ مجدداً إلى الحيلة وفق الآتي:

أولاً: الإسراع في طرح صيغ تسووية خلاصتها تحقق الأهداف نفسها، أي وأد وضرب الجيش، وذلك من خلال الحفاظ على الأسير مع تحقيق بعض مطالب الجيش. باختصار المطلوب إنقاذ الأسير بما يحفظ حالته ودوره الفتنوي لأوقات لاحقة وبالتالي تحويله إلى واقع صعب محصن بكل أشكال الحماية المطلوبة، في مقابل حفظ بعض ماء وجه الجيش. إلا أن إصرار الجيش على استئصال الحال الأسيرية الشاذة أحبط هذا المخطط أيضاً.

ثانياً: اللجوء مجدداً إلى أسلوب ذر الرماد في العيون من خلال تبرئة الأسير، أو على الأقل إيجاد أسباب تخفيفية لجريمته، من خلال تحميل مسؤولية ظاهرته الى سلاح المقاومة وحزب الله، وللقول بأنه إذا كان لا بد من معالجة هذه الظاهرة فلا بد من معالجة أسبابها، وبالتالي لا بد من نزع سلاح المقاومة، مع إدراك هؤلاء للفارق النوعي والكبير بين الاثنين.

ثالثاً: العمل على تدارك موقفهم الأولي المفضوح والمتلكئ من الجريمة التي قام بها الأسير من خلال التنديد به مع الحفاظ على مواقف تحرض الجيش وتحثه على النيل من سلاح المقاومة بذريعة المعاملة بالمثل، ما يعني ضمناً الاحتفاظ بهامش التشكيك مجدداً بمصداقية الجيش الوطنية في ما لو لم يستجب لهذا التحريض.

رابعاً: المسارعة مجدداً إلى وضع قضية سلاح المقاومة في الواجهة وتركيز الأنظار باتجاهها لصرف الانتباه عن جريمة الأسير وطيها سريعاً نظراً لما رتبته من خسارة فادحة لهذا التيار وحلفائه وأدواته ورعاته، لا سيما لمشروعهم الفتنوي المستهدف في آن معاً للمقاومة كخيار سياسي وطني وللبنان كدولة وكيان.

خامساً: الإسراع أيضاً في إثارة قضية سياسية لها علاقة بالتمديد لقائد الجيش لتحويلها إلى مادة ساخنة تستقطب الانتباه، وللإيحاء باحتضان المستقبل لقائد الجيش ورضاه عن دوره، تغطية عن ضلوعه في فتنة الأسير.

إن نجاح الجيش السوري في ضرب الحالة التكفيرية الفتنوية في القصير، ونجاح الجيش اللبنلني في ضرب امتدادها في صيدا، وإحباط المقاومة وجمهورها لمحاولات إذكائها في بلدة عرسال، ولجوءها إلى إستراتيجية الصبر العاقل والواعي، والإرادة الحازمة في رفض التجاوب مع رقصة الفتنة التي يديرها المستقبل وحلفاؤه على أنواعهم، أفضت مجتمعة إلى توجيه ضربات قاصمة وكبيرة لمخطط الفتنة هذا، ما أوقع في يد هؤلاء، وجعلهم يتجرعون مرارة هذا الكم الهائل من فشل الرهانات. لا يعني ذلك أن كل المخطط سقط، فما تبقى منه يحتاج إلى المزيد من الوعي والصبر واليقظة وحسن التدبير والتصدي، ولا سيما أن هؤلاء باتوا في صراع مرير مع الوقت هم وأسيادهم، ولذا فإن حجم خسارتهم ومبلغ التوتر والانفعال الذي يعانون منه قد يدفعهم إلى خطوات مجنونة. الفتنة أبعدت إلا أنها لم تسقط بعد بالكامل.

2013-06-28