ارشيف من :آراء وتحليلات
حيرة في تونس بعد استقالة قائد الجيش

الحدث في الساحة السياسية التونسية هذه الأيام هو الحديث الذي أجراه "الرجل الصامت" أو "الرجل الغامض" كما يحلو للبعض أن يسميه، أي رئيس أركان الجيوش الثلاثة وقائدها الفريق أول رشيد عمار. تكلم الرجل في برنامج "التاسعة مساء" الأكثر مشاهدة في تونس على قناة "التونسية" الأكثر مشاهدة بدورها ليقول عدداً من الحقائق والروايات عن أيام الثورة وما قبلها وما تلاها، فالرجل عاصر الجميع وعمل معهم وتغيروا جميعا إلا هو، زين العابدين بن علي المُطاح به وخلفه محمد الغنوشي ثم الباجي قائد السبسي وحمادي الجبالي وأخيرا علي العريض.
لقد خاض رشيد عمار في أغلب المسائل التي تهم البلاد وفاجأ الجميع بالإعلان عن تقديم استقالته. نعم لقد استقال الرجل اللغز أو الرجل الأقوى في تونس. لقد كان أكثر نفوذاً من زين العابدين بن علي في عنفوانه وفي قمة مجده. فحين رفع عمار غطاء الدعم عن الرئيس الأسبق الهارب إلى جدة، انهار حكمه وتقوضت أركانه.
المرشح التوافقي
لكن رغم نفي رشيد عمار رغبته في الرئاسة إلا أن عدداً من الأطراف تؤكد بأن الغاية من الإستقالة هي الترشح لاحقا للرئاسة. وحجة أصحاب هذا الرأي أن حكم "النهضة" لم يعد مرغوبا فيه، والدساترة بقيادة قائد السبسي سيمنعهم ما يسمى بـ"قانون تحصين الثورة" من الترشح للرئاسيات، وباقي المرشحين لا يحظون بتأييد شعبي واسع، ويمكن في هذه الحالة أن يكون رشيد عمار المرشح التوافقي الذي يقبل به الجميع لدوره الفعال في إنجاح الثورة ولقدرة مؤسسته وفعاليتها في محاربة إرهاب القاعدة والتنظيمات التي تتبنى نهجها سواء في عهد بن علي أو بعده.

قائد الجيش التونسي رشيد عمار الرجل الاقوى نفوذاً
ويؤكد أصحاب هذا الرأي بأن رشيد عمار ضامن لولاء المؤسسة العسكرية له، وقد غادرها بعد أن رتبها كما شاء. كما إن الجنرالين الخماسي (قائد البحرية العسكرية) والعجيمي (قائد جيش الطيران) اللذين من المرجح أن يخلف أحدهما عمار على رأس المؤسسة العسكرية وفقا للقانون، هما مقربان منه وتربطهما به علاقات جيدة ولا يمكن أن ينقلبا عليه. كما إن عمار على علاقات وطيدة بالخارج وسمحت له وظيفته بربط صداقات مع جهات عربية وغربية، وهو إلى جانب ذلك يحظى باحترام كبير من الجيران المغاربيين. وبالتالي فإن ما لم يقبله عمار بالتعيين وهو رئاسة الجمهورية سيقبله بالانتخاب نظرا لانتمائه لمؤسسة من تقاليدها عدم التدخل في الحياة السياسية، لكن حين ينزع الجنرال بدلته العسكرية فلا مانع يحول دونه والترشح للرئاسة.
أسباب عائلية
لقد تحجج رشيد عمار وهو يعلن استقالته من منصبه بضرورة التفرغ لرعاية شؤون عائلته بعد سنوات من العمل المضني بالمؤسسة العسكرية، لكن حجته لم تقنع التونسيين في عمومهم الذين يصرون على أن شيئا يطبخ وراء الكواليس. وما زاد الأمر غموضا هو أن الجنرال المتقاعد حين سئل، هل الهدف من وراء استقالته هو الترشح لرئاسة الجمهورية، أجاب بأن الرئاسة كانت متاحة أمامه حين فرّ زين العابدين بن علي من البلاد، ولكنه لم يفعل وخاصة أنها عرضت عليه خلال المجلس الأمني الذي عقد بمقر وزارة الداخلية يوم فرار بن علي، والذي ضم الوزير الأول محمد الغنوشي، الرئيس المؤقت للبلاد يومها، وبعض وزراء السيادة والقيادات الأمنية والعسكرية، وقرر هذا المجلس يومها خلع بن علي وإعطاء الأوامر لقائد الطائرة الرئاسية بالعودة من جدة دون "بن علي".
كما إن "ثوار القصبة" عرضوا على عمار ترؤس البلاد أمام مقر وزارة الدفاع في وقت كان فيه حكم محمد الغنوشي يشهد نهايته تمهيدا لقدوم الباجي قائد السبسي ولكن قائد الجيش رفض بحجة أن المدرسة العسكرية التونسية التي أرسى دعائمها الملك أحمد باي ودعمها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، تمنع على العسكريين التدخل في الحياة السياسية. وهي تقاليد موروثة عن العصر القرطاجي باعتبار أن الجيش التونسي يعتبر نفسه امتدادا لجيش قرطاج وقائده التاريخي الجنرال "هنيبعل" الذي تدرس خططه ومناوراته في كبرى المدارس الحربية في الغرب.
مفاجأة
لقد تفاجأ التونسيون بحديث "الجنرال الصامت" الذي بدا خطيباً لبقاً يدرك ما يقول، وهم الذين اعتقدوه عسكرياً يقتصر فهمه فقط للخطط الأمنية والقتال في ساحات الوغى. لقد بدا الجنرال مدركا للمعطيات الإقليمية والدولية وحذر التونسيين من "الصوملة" ملحاً على ضرورة محاربة القاعدة التي ترغب في الاستقرار بالأراضي التونسية، ومؤكدا صراحة بأن الأمور في محاربة إرهاب القاعدة كانت أفضل في عهد بن علي خصوصا في المجال الإستخباراتي، واستشهد بما يعرف في تونس بـ"عملية سليمان" وهي حرب خاضها الجيش التونسي ضد عناصر إرهابية في زمن بن علي وأبلى فيها البلاء الحسن وخرج بأخفّ الأضرار نتيجة العمل الإستخباراتي الجيد.

أما اليوم فقد أصبح بإمكان الجهاديين الإستقرار لأشهر في جبل الشعانبي من دون أن يقع التفطن إليهم. ودعا عمار في هذا المجال إلى ضرورة تأسيس وكالة للاستخبارات تضم مخابرات الداخلية والجيش والبعثات الديبلوماسية في الخارج ومصالح رئاسة الجمهورية وغيرها، تتولى مهمة الأمن القومي للبلاد التونسية لأن الوضع خطير، بحسب عمار، وتونس مستهدفة، لكن الجيش التونسي بحسب قائده المتقاعد استعد جيدا لهذه المعركة منذ نهاية التسعينيات.
الجيش والثورة
وأكد رشيد عمار في هذا الحوار الأول والأخير له وهو يعتلي أركان الجيوش، بأن مؤسسته حمت الثورة ورعتها وقادت البلاد إلى الإنتخابات لإيمانها بضرورة الإنتصار للإرادة الشعبية، وأضاف بأنه شخصيا أدرك نهاية بن علي قبل أربعة أيام من فراره حين رفض إطلاق النار على المتظاهرين، وأن بن علي اتصل به يوم فراره مساءً من الطائرة سائلا إياه عن الأوضاع في البلاد وهل تسمح له بالعودة فتردد قائد الجيش قبل أن يضيف بن علي نفسه، "لننتظر إلى الغد" وهي الإجابة التي أراحت الجنرال.
وقال رشيد عمار موجها خطابه لعموم الشعب وليس للنخبة، بأن تونس أرض الصالحين وأن الله حماها في السابق وسيحميها باستمرار لأنها أرض مباركة، والدليل أن كل شيء يتم فيها بهدوء ومن دون إراقة الكثير من الدماء مقارنة بالآخرين. ورد أيضا على المشككين فيه وفي مؤسسته ونفى جميع التهم الموجهة إليه وإلى الجيش تاركا التونسيين في حيرة من أمرهم، فإذا لم يكن عمار من أعطى الأوامر لسمير الطرهوني رئيس فرقة مكافحة الإرهاب بالقبض على أصهار بن علي في المطار يوم فرار الأخير فمن تراه أعطاها؟ جميعها أسئلة تقض مضجع الشعب التونسي الراغب في معرفة حقيقة ما حصل يوم 14 يناير 2011، يوم فرار بن علي، وكان يعتقد أن الإجابة ستكون عند رشيد عمار ولكن الأمر تبين أنه بخلاف ذلك.