ارشيف من :آراء وتحليلات

مصر في خضم مرحلة انتقالية جديدة ومستقبلها رهن بجلاء وجهتها

مصر في خضم مرحلة انتقالية جديدة ومستقبلها رهن بجلاء وجهتها
أسئلة كثيرة تطرحها الثورة على الثورة في مجرى التطورات الأخيرة التي حدثت في مصر وانتهت إلى عزل الرئيس الأخواني المنتخب محمد مرسي، لعل أبرزها اثنان:

الأول: ما الذي أفضى إلى هذه النكسة السريعة لتجربة الأخوان في الحكم؟

الثاني: مصر إلى أين في ظل تلاحق الأحداث وتسارعها وعدم استقرار المشهد السياسي حتى الآن؟

تأسست جماعة الأخوان عام 1928، وهي بالتالي انتظرت 85 عاماً لتخوض أول تجربة لها في السلطة، ما يعني أن الأخوان كانوا أمام فرصة تاريخية ليس من السهل أن تتكرر، وما يعني أيضاً انه كان عليهم أن يخوضوا غمار هذه الفرصة بمنتهى العقلانية والموضوعية، وبحسابات فائقة الدقة. كما كان عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار حجم موقع ودور مصر الإقليمي، وحجم التحديات والمشاكل والأخطار التي تتربص بمصر داخلياً وفي بيئتهم الاستراتيجية، والتي تفترض بمجموعها التسلح برؤية ومقاربة استراتيجية شاملة تخضع لميزان دقيق في ترتيب الأولويات والحاجات والتوازن في العلاقات والتحالفات، والمترجمة إلى برنامج عملي يحاكيها مجتمعة. كما تفترض أيضاً فهماً للموانع وطبيعة كل منها.

وهذا يعني بدوره أن الوصول إلى السلطة ليس نهاية الأشياء بل بداياتها المعقدة، فالجلوس على مقعد المعارضة شيء وممارسة السلطة شيء آخر. فكيف إذا كان أصل الوصول إلى السلطة ليس بالقوة الكافية لاعتبارين أساسيين: الأول، أن الأخوان ركبوا موجة الثورة الأولى متأخرين نسبياً، وإن كان حضورهم الجماهيري والمنظم ساهم في التسريع في عملية الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك. إنّ هذا الحضور المتأخر حاصر الأخوان منذ البداية بعلامات استفهام مشككة.

والثاني، أن فوز الرئيس الأخواني محمد مرسي كان ضعيفاً حيث لم يحصل إلا على 51% من مجموع أصوات الناخبين، بينما حصل منافسه أحمد شفيق على 49% من مجموع هذه الأصوات. بكلمة أخرى كان الانقسام السياسي عميقاً وواسعاً داخل المجتمع المصري منذ اللحظة الأولى. وبالتالي لا يمكن غض النظر عن هذه النسبة العالية التي صوتت بـ "لا" كبيرة للأخوان. ثم إن الذين صوتوا لمرسي لم يكن جلّهم من الأخوان حيث إن البعض صوّت لهم كتجربة جديدة، والبعض الآخر صوّت لهم لأن الاختيار كان بين من يمثل النظام السابق ومن يمثل غيره. ثم إن هناك القوى المتلكئة والتي تعرف في مصر بحزب الكنبة والتي كانت محل استهداف واستقطاب أساسي من القوى المتصارعة.

مصر في خضم مرحلة انتقالية جديدة ومستقبلها رهن بجلاء وجهتها

إن أي سياسة ناجحة كانت تقتضي أخذ هذه الوقائع بعين الاعتبار، لا التنكر لها بحسابات من نوع أن الأخوان هم الطرف الأقوى تنظيمياً وجماهيرياً بالقياس إلى باقي أطياف الثورة التي عانت وتعاني من فقدانها للزعامة التاريخية والاجتماع على برنامج سياسي موّحد.

كما فات الأخوان حجم المانع البيروقراطي المتأصل في بنية النظام القديم، والذي أظهر مقاومة قوية تجاوزت حدود التلكؤ والتسويف في تنفيذ قرارات الرئاسة إلى حدود المواجهة الفعلية. والأدهى من هذا كله عدم قراءة الأخوان لمغزى الحضور الشبابي في الصورة ولعبه دور المحرك والمحفز الأساسي لها. هذا الشباب الذي تبقى له تطلعاته وآماله الخاصة التي تحتاج إلى فهم وتقدير واستيعاب.

ثم إن الأخوان برعوا في خوض غمار أكثر من جبهة في آن واحد: مرة مع الجسم القضائي، ومرة مع الإعلام، وصولاً إلى الجيش الذي يبقى الجهة المنظمة والأقوى في أي معادلة سياسية يراد لها أن تحكم مصر.

وممّا زاد الطين بلة هو دخول الأخوان في منافسة مع الخطاب السلفي تطلبت منهم حيناً تبني هذا الخطاب أو مجاراته، والمزايدة عليه حيناً آخر.

كل ذلك وسط تفاقم المشاكل الاقتصادية والحياتية والاجتماعية، حيث لم يظهر الأخوان أي تميّز عن الحقبة السابقة لا سيما في تبنيهم لحلول صندوق النقد الدولي ونزعته الليبرالية.

مواقف الأخوان زادت من نقزة الأقليات ومخاوفهم خصوصاً الأقباط الذين لهم حساسيتهم الخاصة والتاريخية من المنحى السلفي التكفيري، والذين وجدوا في الثورة فرصة لتحسين أوضاعهم.

كما إن مجموع القرارات التي اتخذها مرسي بدءاً من الإعلان الدستوري أظهرت الأخوان بمظهر المستعجل لأخونة الدولة، وضمان استمرار حكمهم أطول فترة ممكنة.

كل هذه العوامل أفضت إلى ارتفاع نسبة خصوم الأخوان لتشمل حتى بعض حلفائهم أو من يفترض بهم أن يكونوا كذلك.

ولم يكن الأخوان في سياساتهم الخارجية أكثر توفيقاً، فهم: أولاً: بدوا أنهم يشترون الغطاء الأميركي حتى لا نقول رضا الاميركيين. ثانياً، أظهروا ودية ما تجاه الكيان الصهيوني عبر عنها الرئيس مرسي بوصفه لبيريز بالصديق العزيز، إضافة إلى دورهم المستغرب خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، ومسارعتهم إلى تبني اتفاقيات كامب ـ ديفيد وإظهار الحرص عليها. ثالثاً، لم يظهروا تميزاً يذكر بالنسبة للقضية الفلسطينية. رابعاً، ذهبوا بعيداً في مسايرة أنظمة الخليج وفي طليعتها النظامان السعودي والقطري، والتي كان أبلغ تعبير عنها إعلان مرسي في إحدى خطبه الأخيرة قطع العلاقات مع سوريا ودعوته الجيش للانخراط في الحرب فيها وعليها، إضافة إلى دعوته إلى تقديم كل أشكال الدعم للمجموعات المسلحة في سوريا، وهجومه غير المسبوق على حزب الله. وكذلك تبنيه المطلق لسياستها في العراق وغيره، وذلك ظناً منه ربما بأن هذا الطريق الأسهل لضمان تدفق المساعدات المالية لنظامه، ولضمان توفير الدعم والمظلة الخليجيتين له، إضافة إلى تقليل مخاوفهم من صعود الأخوان إلى سدة السلطة، متناسياً الدور التاريخي للنظام السعودي في مناوئة موقع ودور مصر الطليعي في المنطقة مع التجربة الناصرية، وأنه لا يمكن للرياض إلا أن تنظر إلى تجربة الأخوان كمنافس حقيقي وخطير للنموذج الوهابي، وخير شاهد على ذلك أن اول من هلل لسقوط الأخوان هو الملك السعودي عبد الله.

خامساً: تلكؤه في مد اليد إلى إيران بالرغم من حرصها على مدها إليه باستمرار، متجاوزاً في ذلك لأبسط حقائق الجيوبولتيك، وبالتالي لوزن إيران الاستراتيجي في المنطقة، وهو وزن لا يمكن إلا أخذه بعين الاعتبار.

باختصار لم يظهر الأخوان أي تميز يذكر عن النظام السابق في سياساتهم الخارجية إلا لمماً.

والأخطر في الأمر، أن كل هذه الأخطاء كانت تمارس في مرحلة انتقالية بالغة الهشاشة والسيولة، ويكفي أن نستحضر هنا أن عدد الوقفات الاحتجاجية خلال عام من حكم مرسي بلغت 7719 احتجاجاً، بينما الصدامات وصلت إلى 5821 صداماً.

ولا شك أن خصوم الأخوان استفادوا من هذه الأخطاء كثيراً لا سيما أولئك الذي كانوا ينتظرونهم على مفترق الطريق. كما إن الحملات الإعلامية على الأخوان التي خاضتها في الغالب الأعم قنوات محسوبة على دول الخليج كانت من الضراوة بمكان.

وفي المحصلة لم يوفق الأخوان في ضمان السند الداخلي لحكمهم ولا السند الخارجي، وهذا الأخير تعاطى معهم ببراغماتية فاقعة وكأمر واقع وكرهان لا بد منه، إلا أنه يسهل تجاوزه إذا تطلب الأمر ذلك.

بناءً عليه، فإن الأخوان أمام محطة ـ فرصة للقيام بمراجعة شاملة حرصاً على موقعهم ودورهم المستقبلي.

أم اليوم، فلقد أظهر المشهد المصري الحقائق التالية:

أولاً: لقد فشل الأخوان وأُفشلوا، وهم باتوا في مواجهة هذه الحقيقة والتعاطي معها كما هي بدون أي مغالطات أو مكابرات.

ثانياً: إن مصر اليوم مقسومة على نحوٍ حاد بين من هو مع الأخوان ومن وهو ضدهم، وبالتالي فإن خصوم الأخوان نجحوا في محاصرتهم، ولكن بالتأكيد لن يستطيعوا عزلهم، إذ يبقى الأخوان كجماعة وكتنظيم له ثقله الشعبي والسياسي الذي لا بد من أخذه بالاعتبار.

ثالثاً: إن الشباب المصري بتعبيره الجديد "حركة تمرد" أثبت أنه قادر على أن يلعب دور القاطرة لأي انتفاضة جديدة، وأن يجر الآخرين وراءه، وبالتالي فهو حاضر في الميدان، ومستعد للحضور كلما تطلبت الحاجة.

رابعاً: إن ما جمع المعارضين هو خصومتهم ورفضهم للأخوان، وما عدا ذلك فهو موضع بحث، ومحل تساؤل، حيث إن جبهة الإنقاذ ما تزال تعاني من نفس الخلل البنيوي، والتنافس البيني.

خامساً: إن المؤسسات البيروقراطية للنظام السابق ما زالت حاضرة بقوة وفي طليعتها القضاء والإعلام.

سادساً: إن الأطر السلفية برهنت عن حضور منظم وفاعل في نطاقه.

سابعاً: برهن الجيش والمؤسسات الأمنية، أنهما هما السلطة الفعلية التي لا يمكن تجاوزها لاعتبارات كثيرة.

ثامناً: إن الانتخابات ليست ضمانة كافية لشرعية أي حكم، ما لم تترافق مع ضمانة موازية هي استمرار رضى الناس، وبالتالي، فإن الشرعية الثورية الممثلة بانتفاضة الجماهير تبقى أقوى من أي شرعية أخرى هي في أحسن الأحوال شرعية قانونية ورسمية.

تاسعاً: إن من حسم المواجهة بين المعترضين والأخوان هو الجيش الذي أحسن إدارتها، واختار التوقيت المناسب لتحديد موقفه ووقوفه إلى جانب الناس، والبقاء خلف ستار السلطة المباشرة.

عاشراً: إن السند الخارجي لأي حكم يبقى سنداً مائعاً لا يمكن التعويل عليه.

حادي عشر: إن المعادلة التي تحكم مصر اليوم ثلاثية هي: الناس، الجيش، والرئاسة. ما يعني أن الإمساك بإحداها غير كافٍ للإمساك بسدة حكم مصر.

بناءً عليه، فإن مستقبل مصر رهن بالاحتمالات التالية:

أولاً: أن يصر الأخوان على تمسكهم بمرسي كرئيس شرعي ما يعني وضعهم تلقائياً في مواجهة مكلفة مع طرفي المعادلة الآخرين والمتحالفين موضوعياً أي الجيش وائتلاف قوى المعارضة. وإما أن يلعب الأخوان ورقة الإصرار والممانعة لتحسين شروط موقعهم ودورهم في أي معادلة لاحقة. وإما أن ينسحبوا تكتيكياً لمراجعة حساباتهم، واحتواء مضاعفات ما جرى لهم، وإعادة تنظيم صفوفهم، بانتظار معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، والانتخابات النيابية.

ثانياً: أن تعمد قوى المعارضة مدعومة من الجيش إلى التوافق على برنامج عمل موحد، وعلى مرشح للانتخابات القادمة، وأن تعمد لاحقاً إمّا إلى تشكيل حكومة لوحدها، وإما أن تحتضن الأخوان وهذا فيه مصلحة كل المصريين، لأن أي خطوة لعزل الأخوان، وإشعارهم بأنهم مهددون ستؤدي إلى ردود فعل غير محسوبة، وبالتالي نكون أمام مشهد ائتلافي عريض في السلطة.

لا شك أن المرحلة الانتقالية حساسة ومعقدة وهي ستشهد تجاذباً جديداً حول أي قانون للانتخابات سيعتمد، باعتبار أن الصيغة المتبناة من شأنها أن تحسم مسبقاً الكثير من النتائج.

وبانتظار جلاء وجهة هذه المرحلة الانتقالية فإن العين ستبقى على مصر. انتهت معركة إسقاط مرسي، إلا أن مستقبل مصر والتوازنات التي ستحكمها دونها معارك عديدة وصعبة، والأيام المقبلة كفيلة بجلاء غبارها وغبار مصير مصر.

2013-07-06