ارشيف من :آراء وتحليلات

المستقبل و14 آذار ومن وراءهما: الفراغ، الفوضى، الغليان الأمنيّ... أيّة أهداف؟

المستقبل و14 آذار ومن وراءهما: الفراغ، الفوضى، الغليان الأمنيّ... أيّة أهداف؟


صحيح أنّ المجلس النّيابيّ هو المؤسّسة الدّستوريّة الّتي جرى استنقاذها بالتّمديد، إلاّ أنّ عمليّة الاستنقاذ هذه تمّت بولادة قيصريّة، وخضعت لتشكيكات سياسيّة ودستوريّة أيضاً، ما أدّى إلى ولادة ضعيفة ومشوّهة للمجلس. ومن جهة أخرى سرعان ما تمّ وضع حدّ لها من خلال قرار تعطيل عمل المجلس، ما أوقعه في حال من الشّلل والفراغ، الأمر الّذي عنى عمليّاً أنّ التّمديد كأنّه لم يكن، على الأقلّ حتّى الآن.

وأمّا السّلطة التّنفيذيّة، فليست بأفضل حالاً، فهي عالقة بين حكومة تصريف أعمال مقيّدة الصّلاحيّات وحكومة قيد التّأليف، ولا تبدو ولادتها سهلة بفعل الشّروط المتقابلة والمتضادّة الّتي تأسرها. والخلاصة لا تختلف هنا عن تلك الخاصّة بالمجلس النّيابيّ، أي نحن في حال شلل وفراغ حكوميّ أيضاً.

الأمر عينه على وشك الانسحاب على المؤسّسات الأمنيّة، وفي طليعتها المؤسّسة الأبرز أي الجيش، فبعدما بدا أنّ التّمديد لقائد الجيش سيكون سلساً بفعل التّأييد العلنيّ الّذي صدر عن رئيس حزب المستقبل سعد الحريري، سرعان ما تمّ ابتلاعه لمصلحة وضع شروط تعجيزيّة، تراوحت بين ما هو إداريّ وما هو سياسيّ من قبل هذا الحزب وفريق الرّابع عشر من آذار. وما زاد الطيّن بلّة، هنا، هو انعدام المخارج القانونيّة الّتي من شأنها أن تحول دون حدوث فراغ خطير في رأس مؤسّسة الجيش، وخصوصاً أنّ الوقت يكاد يدهم الجميع، حيث تنتهي ولاية قائد الجيش في شهر أيلول المقبل، في حين تنتهي ولاية رئيس الأركان في شهر آب، الأمر الّذي يعني حدوث فراغ وشلل خطيرين في المجلس العسكريّ.

وكلّ ذلك يحدث في ظلّ اضطراب حبل الأمن بشدّة على امتداد الأراضي اللّبنانيّة، يخضع فيها الجيش كلّ يوم لامتحان صعب ويتعرّض لضغوط شديدة، يضاف إليها التّداعيات الأمنيّة الثّقيلة الّتي بات يحملها التّزايد المفرط في عدد اللاّجئين السّوريّين إلى لبنان، حيث ناهز عددهم المليون والمئتي ألف نازح، إلى جانب التّداعيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والضّغوط الهائلة على التّركيبة اللّبنانيّة الطّوائفيّة البالغة الحساسيّة والدّقّة، وفي لحظة سياسيّة حرجة جرّاء التّداخل والتّفاعل الكبير بين مسار الأزمة السّوريّة وتطوّراتها ومسار الأزمة اللّبنانيّة وتطوّراتها أيضاً.

يفاقم من حال الفراغ السّياسيّ والأمنيّ هذا مجموعة من الأمور، يبقى أبرزها الآتي:

أوّلاً؛ حال الانقسام السّياسيّ العموديّ والأفقيّ الّذي يتغذّى ويغذّي حالاً من التّعبئة المذهبيّة غير مسبوقة، تكاد تضع اللّبنانيّين على شفا حرب أهليّة بأبعاد مذهبيّة.

ثانياً؛ حال الانكشاف الأمنيّ الّذي جرى ويجري التّعبير عنه، مرّة بعمليّات إطلاق صواريخ على مناطق مأهولة وتنتمي إلى بيئة طائفيّة وسياسيّة بعينها، ومرّة بعمليّات زرع عبوات تستهدف مواكب أو سيّارات وحتّى مناطق محسوبة على أطراف بعينها أيضاً.

هذا الواقع المعقّد والصّعب يفرض أسئلة جوهريّة من قبيل: هل القرار السّياسيّ الدّوليّ والإقليميّ القاضي بالمحافظة على الاستقرار في لبنان، ولو في حدّه الأدنى، بدأنا نشهد نوعاً من التّخلّي عنه لمصلحة تعميم الفوضى بكلّ فصولها، أم أنّ هذا القرار ما زال معمولاً به من قبل أطراف، بينما ترى أطراف أخرى لا سيّما إقليميّة معيّنة، وتحديداً سعوديّة، أنّ الفوضى هي آخر الأوراق المتاحة للتّأثير في مجرى الأمور لبنانيّاً فحسب، وإنّما للتّأثير على مسار الأمور في سوريّا؟

من نافل القول، إنّ دخول حزب اللّه على خطّ الأزمة السّوريّة، انطلاقاً من الدّور الّذي لعبه في تحرير مدينة القصير من المجموعات الإرهابيّة المسلّحة، أزعج كلّ أطراف المتآمرين على موقع سوريّا ودورها في محور المقاومة، بدءاً من الولايات المتّحدة الأميريكيّة والكيان الصّهيونيّ، ومروراً بالنّظام السّعوديّ والتّركيّ والقطريّ، وليس انتهاءً بأطراف الإسلام السّياسيّ الّذين كانوا يمنّون النّفس بوراثة النّظام السّوريّ، استناداً إلى تحالفهم الموضوعيّ مع تركيّا الإخوانيّة بمعنىً من المعاني.

إنّ قلب التّوازنات الّذي حدث في سوريّا لمصلحة محور ومشروع المقاومة في المنطقة، أصاب محور المشروع الأميركيّ بخيبات كبيرة وهلع أكبر، لما كان سيترتّب على فشل هذا المشروع مجدّداً من تداعيات استراتيجيّة كبيرة على أطراف وحلقات هذا المشروع في المنطقة.

استدعى هذا الهلع، وتلك الخيبات استنفاراً على أكثر من صعيد خارجيّاً وداخليّاً، متّخذاً أشكالاً متنوّعة ومتعدّدة، أبرزها:

أوّلاً؛ ضغوط أميريكيّة وبريطانيّة وفرنسيّة وإسرائيليّة كبيرة على دول الاتّحاد الأوروبيّ، لوضع اسم حزب اللّه على لوائح الإرهاب.

ثانياً؛ مواكبة منظومة الإمارات والمشيخات الخليجيّة لهذه الخطوة الأوروبيّة، لوضع اسم حزب اللّه أيضاً على لوائح إرهاب خاصّة بها، إلاّ أنّ تعثّر هذه الخطوة أوروبيّاً، فَرْمَلَ -كما يبدو- اتّخاذها خليجيّاً، نظراً للحرج الّذي كانوا سيقعون فيه.

ثالثاً؛ شنّ حملة ضغوط كبيرة على العمالة الشّيعيّة وبعض المسيحيّة، من خلال تسفيرها على عجل أو التّهديد بتسفير آخرين، للضّغط على البيئة الشّيعيّة بنحوٍ خاصّ، وبعض المسيحيّة بشكل عامّ، وذلك لدفعها إلى اتّخاذ مسافة عن حزب اللّه، بما يؤدّي إلى إضعاف تأييدها لما يقوم به، وبما يظهر حزب اللّه مكشوفاً لبنانيّاً على الصّعيد السّياسيّ.

رابعاً؛ إعلان وزير الخارجيّة السّعوديّ، ومن بعده سفيره في لبنان، مواقف ضدّ حزب اللّه، أقلّ ما يقال فيها إنّها بمثابة إعلان حرب صريحة، ولو بالمعنى السّياسيّ.

خامساً؛ شنّ أوراق الوهّابيّة السّياسيّة في لبنان حملة تكفير سياسيّة لحزب اللّه، تنتهي على تعبئة مذهبيّة وفتنويّة غير مسبوقة.

سادساً؛ شنّ أوراق الوهّابيّة السّياسيّة في لبنان حملة تشويه للوقائع والحقائق، بما يظهر حزب اللّه بمظهر العدوّ الأوّل لمصالح لبنان واللّبنانيّين.

سابعاً؛ رفع شعار عزل حزب اللّه سياسيّاً، من خلال الضّغط لعدم إشراكه في أيّ تشكيل حكوميّ جديد بذريعة أنّ مشاركته مباشرةً ستعني منح تدخّله في سوريّا غطاءً رسميّاً وشرعيّاً.

ثامناً؛ إطلاق مسار من العمليّات الأمنيّة المستهدفة لخطوط تحرّك حزب اللّه وبيئته الشّعبيّة.

تاسعاً؛ وضع كلّ ما يمكن من عراقيل لفرض واقعٍ من الشّلل والفراغ العامّين، بما يوفّر البيئة الملائمة لإطلاق عمليّة الفوضى.

خلاصة القول هنا، قد يكون لبعض مواقف وسياسات حزب المستقبل وتجمّع أطراف الرّابع عشر من آذار، بعض الحسابات المباشرة لما يقومون به، إلاّ أنّ الدّوافع الحقيقيّة تتجاوزها إلى ما هو أعمق بكثير، فهؤلاء إنّما يمارسون استراتيجيّة الرّقص على حافّة الهاوية، ويعملون على إشاعة الفوضى الشّاملة، ويبذلون جهوداً كبيرة لهدفين رئيسين: الأوّل، وضع حزب اللّه بين خيارين: إمّا الفوضى وإمّا التّراجع عن قراره بحماية ظهر المقاومة في سوريّا. والثّاني، استدراج حزب اللّه إلى معارك زواريب داخليّة تكون على حساب قراره الاستراتيجيّ بحماية ظهر المقاومة.

لكن مرّة أخرى، يخطئ هؤلاء الحساب، ولن يجنوا إلاّ الخيبات، لأنّه محال على المقاومة أن تختار بين بقائها وحفظ موقعها ودورها الاستراتيجيّ، وبين أيّة أثمان أخرى تعرف سلفاً أنّها قد تدفعها، وهي حاضرة للتّعامل معها.
2013-07-19