ارشيف من :آراء وتحليلات

العراق .. جدل الرواتب التقاعدية واصلاح الواقع الخاطىء

العراق .. جدل الرواتب التقاعدية واصلاح الواقع الخاطىء
لا يخرج السجال والجدل الدائر منذ عدة شهور في العراق بشأن الرواتب العالية جدا لأصحاب الدرجات الخاصة، سواء من هم في الخدمة او من احيلوا على التقاعد، عن مجمل تفاعلات المشهد العراقي بأبعادها السياسية والامنية والخدمية.

ولعل المتغير المهم في هذا الموضوع هو تعهد اعضاء كتلة "المواطن" البرلمانية التابعة للمجلس الاعلى الاسلامي العراقي بعدم استلام اي رواتب تقاعدية بعد انتهاء الدورة البرلمانية الحالية.

العراق .. جدل الرواتب التقاعدية واصلاح الواقع الخاطىء

هذه الخطوة اختلفت عن سواها من مواقف بهذا الخصوص كونها خرجت عن نطاق الدعوات والتصريحات الاعلامية الى تبني موقف واضح ومحدد. وطبيعي انها ستكون مثار اهتمام على الصعيدين السياسي والشعبي، وأول رد فعل حيالها ظهر من زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، في رسالة مفتوحة وجهها الى اعضاء كتلة "المواطن"، قال فيها : "الحمد لله الذي منّ على العراق بهذه الثلة التي قدمت تعهدا بعد استلام الرواتب التقاعدية التي اعيت كامل العراق وميزانيته..فمن هنا أوجه شكري الجزيل لاعضاء كتلة "المواطن" والوزراء السابقين وغيرهم على هذه البادرة الوطنية الخيرة التي أرى أن من الواجب أن يتأسى الآخرون بهم سواء ممن اتبعنا او غيرهم فتلك الخطوة في صالح العراق وشعبه وجياعه..."

وبعد ساعات قليلة صدر بيان رسمي من مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي، اكد ان الاخير طلب من "التحالف الوطني" (الكتلة البرلمانية الاكبر) تبني مقترح الغاء الرواتب التقاعدية لاصحاب الدرجات الخاصة(الوزراء والبرلمانيين ووكلاء الوزارات والمستشارين واعضاء مجالس المحافظات).

وقبل ذلك كررت المرجعيات الدينية دعواتها الى تخفيض رواتب ومخصصات المسؤولين وإلغاء الرواتب التقاعدية لهم، وكان امام وخطيب جمعة كربلاء المقدسة ومعتمد المرجعية الدينية الشيخ عبد المهدي الكربلائي قد تحدث آخر مرة في هذا الموضوع قبل اسبوعين بكل وضوح وصراحة.

الى جانب ذلك فإن تجمعات عديدة اطلقت حملات لالغاء الرواتب التقاعدية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال الصحف والقنوات الفضائية، وقد لقيت تلك الحملات تفاعلاً وتجاوباً كبيرين من قبل قطاعات اجتماعية مختلفة، لا سيما اصحاب الدخول المحدودة والعاطلين عن العمل، وذوي الاحتياجات الخاصة، وطلبة الجامعات.

واذا كان ملف الغاء الرواتب التقاعدية لاصحاب الدرجات الخاصة بما فيهم البرلمانيين، لا يخلو من ابعاد سياسية، الا انه ينطوي على ابعاد اقتصادية واجتماعية كبيرة ومؤثرة، وهذا ما جعل الدعوات والحملات المطالبة بالالغاء تجد صدى كبيرا وواسعا، ربما لم تحظ به قضايا اخرى.

تشير النائب في مجلس النواب العراقي عن "ائتلاف دولة القانون" حنان الفتلاوي الى ان "رواتب النواب والوزراء واعضاء الحكومات المحلية تجاوزت 117 مليار دينار سنويا، وما صرف خلال الاعوام الثمانية الماضية من رواتب ـ فعلية وتقاعدية ـ لاعضاء البرلمان ومجالس المحافظات واصحاب الدرجات الخاصة الاخرى تعدى (654.290) مليار دينار"، ناهيك عن مخصصات السكن والسفر والايفاد والعلاج والخطورة ورواتب الاعداد الهائلة لعناصر الحمايات.

ومثل هذه الارقام اذا لم تكن دقيقة بالكامل، فإنها بدون ادنى شك قريبة من الواقع الى حد كبير، ولتوضيح الصورة بدرجة اكبر، نشير الى ان راتب عضو البرلمان العراقي مع حساب مختلف المخصصات والامتيازات ربما ناهز ـ او تجاوز ـ الخمسة عشر الف دولار، دون التطرق الى رواتب عناصر الحمايات الشخصية، اذ إن لكل نائب ثلاثين عنصرا امنيا يتولون تأمين الحماية له، وعند احالته على التقاعد يتقاضى راتبا شهريا قيمته ثمانية ملايين دينار عراقي، اي ما يقارب ستة الاف وخمسمائة دولار. وبالنسبة لراتب البرلماني خلال الخدمة فإنه يعادل رواتب اكثر من عشرين موظفا، وراتبه التقاعدي يعادل رواتب ثلاثين موظفا متقاعدا.

والوزير والبرلماني ووكيل الوزير والمستشار واصحاب مختلف الدرجات الخاصة يحصلون على رواتب تقاعدية بنسبة 80% من رواتبهم الفعلية خلال الخدمة بصرف النظر عما اذا كانت خدمتهم سنة او سنتين او في افضل الاحوال اربع سنين، بينما الموظف العادي لايحصل حين يحال على التقاعد على 80% من راتبه الفعلي الا عندما يكون قد اكمل ثلاثين عاما في الوظيفة الحكومية، علما ان الفارق بين رواتب الدرجات الخاصة وعموم الدرجات الاخرى في السلم الوظيفي للدولة العراقية كبير جدا.  
العراق .. جدل الرواتب التقاعدية واصلاح الواقع الخاطىء
رسالة السيد مقتدى الصدر
والجانب الآخر في الموضوع هو ان بقاء الحال على ما هو عليه يعني ان العراق سوف يشهد بعد عدة دورات برلمانية جيوشا من اصحاب الدرجات الخاصة المتقاعدين الذين يستنزفون الكثير من الموارد المالية في بلد يعاني من بنى تحتية مهترئة، واعداد هائلة من العاطلين، لا سيما خريجي الجامعات والمعاهد، الذين تتزايد اعدادهم عاما بعد آخر، وفي ظل بيئة غير مشجعة على الاستثمار في القطاع الخاص جراء الاوضاع الامنية والسياسية غير المستقرة، بعبارة اخرى إن الارقام التي وردت على لسان النائب حنان الفتلاوي ستتضاعف بصورة فلكية بعد كل دورة برلمانية، تفرز متقاعدين جدد، واصحاب درجات خاصة جدد ايضا، مرتبطا باستشراء ثقافة التكالب على المناصب العليا ليس من اجل تقديم الخدمة للناس، وانما من اجل تحقيق مكاسب شخصية مالية كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة، وضمان استمرار الحصول على تلك المكاسب بعد مغادرة المنصب الرفيع.

وفي خضم الهوة الواسعة بين ما يتقاضاه المواطن العادي ـ موظفا كان ام غير موظف ـ من حقوق، وما يتقاضاه اصحاب الدرجات الخاصة، راحت مشاعر الغضب والاستياء تتنامى وتتسع في اوساط اجتماعية متعددة، لتخلق مع مرور الوقت مناخا رافضا لهذا الواقع، ولعل ما ساعد في ذلك مواقف ورؤى المرجعيات الدينية الداعية باستمرار الى انصاف الفئات الاجتماعية، المحرومة، ورفع المستوى الحياتي ـ الاقتصادي للفئات المحدودة الامكانيات، وتحقيق قدر معقول من المساواة في توزيع موارد البلد، ومعهاـ اي مع مواقف ورؤى المرجعيات الدينية ـ توجهات لقوى سياسية لالغاء الرواتب التقاعدية لكبار المسؤولين الى جانب زيادة رواتب المتقاعدين، وتحسين ظروف فئات اجتماعية معينة مثل ذوي الشهداء وذوي الاحتياجات الخاصة، والسجناء السياسيين في عهد النظام السابق، والطلبة الجامعيين، والارامل والاتيام.

عموم التوقعات والقراءات الاولية تذهب الى انه الى جانب مزايدات بعض الاطراف على ملف الغاء الرواتب التقاعدية لاصحاب الدرجات الخاصة، ستظهر اصوات معارضة، وستبذل بعض الاطراف جهودا حثيثة لعرقلة اقرار اي قانون بهذا الشأن، ونفس تلك القراءات تذهب الى ان استمرار الضغط من المرجعيات الدينية والقوى السياسية مثل المجلس الاعلى والتيار الصدري، وعموم التحالف الوطني، وتواصل الحملات الجماهيرية، من شأنه ان يصحح المسارات الخاطئة، ويحقق جزءا من مطالب الناس، ويقلص الهوة بين طبقة سياسية صغيرة وطبقات اجتماعية كبيرة، وهذا التقليص ربما يعد واحدا من مفاتيح اصلاح جانب من الخلل الامني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
2013-07-31