ارشيف من :آراء وتحليلات
من ستختار اوكرانيا كشريك تجاري: الاتحاد الاوروبي ام روسيا؟
في الاشهر الاخيرة وُجدت اوكرانيا في وضع تجاري لا تحسد عليه. فروسيا التي لا تتحمل التوجه الغربي لاوكرانيا، لا تتوانى عن ممارسة الضغط التجاري على كييف.
وفي شهر تموز الماضي منعت روسيا استيراد الشوكولاته الاوكرانية. وفي اواسط شهر اب بدأ موظفو الجمارك الروس يطبقون اجراءات تدقيق اكثر صرامة فيما يخص البضائع الاوكرانية، التي كانت قبل ايام فقط يتم التدقيق فيها فقط بواسطة الوثائق الخاصة بها. وصارت الشاحنات التي تنقل تلك البضائع ملزمة بأن تفرغ كليا حمولتها، التي يتم تفتيشها بدقة، ثم يعاد تحميلها مجددا على الحدود. وتكدست على نقاط الحدود بين البلدين ارتال من الشاحنات بطول كيلومترات. وادى ذلك عمليا الى شل التصدير الاوكراني الى روسيا. واستمر هذا الحصار الصغير الفريد من نوعه مدة اسبوع فقط، وفي 20 اب تم الغاء هذه الاجراءات المشددة. وفي الوقت ذاته اوضح سيرغيي غلازيف، المستشار الاقتصادي الرئيسي للرئيس بوتين، ان هذه الاجراءات الجمركية المشددة انما هي تحذير لكييف عما يمكن ان يجري، فيما اذا اتخذت اوكرانيا قرارا "انتحاريا" بتوقيع اتفاق للتكامل والتجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي. ونذكر هنا ان روسيا حينما دب الخلاف بينها وبين جورجيا عمدت اولا الى منع استيراد بعض السلع الجورجية. ثم ان حوالى ربع الصادرات البلغارية تذهب الى روسيا. وعلى خلفية الكساد المتواصل، وتضاؤل احتياطات العملات الاجنبية، والاقساط المتوجبة للدين الخارجي، وعدم كفاية المخزون من الغاز الطبيعي لاجل اشهر الشتاء، فإن اوكرانيا على غير استعداد لخوض حرب تجارية متواصلة جديدة مع جارتها الشرقية. وفي الوقت ذاته فإنه بتطبيق تكتيك لي الذراع فإن روسيا تغامر بتقوية الميول الشوفينية الاوكرانية المعادية لروسيا وبزيادة التشاؤم لدى قسم كبير من النخبة الاقتصادية الاوكرانية من فكرة تعميق العلاقات مع روسيا.
ومع اقتراب موعد لقاء فيلنيوس في نهاية تشرين الثاني القادم، الهادف الى توقيع اتفاق التعاون بين اوكرانيا والاتحاد الاوروبي، سيشتد الضغط على كييف لكي تتوقف عن توجيه انظارها نحو بروكسل ولان تنضم الى الاتحاد الجمركي الاوراسي الذي تقوده موسكو. فبعد عشرين سنة من التأرجح بين الشرق والغرب على اوكرانيا ان تختار من جديد الى جانب اي طرف ستقف. ان الرهانات عالية، ولكن لسخرية القدر فإن كل شيء الان يتوقف على الشخص الذي كان حتى وقت قريب ينظر اليه على أنه دمية روسية، اما الان فهو غير مرغوب به لا من موسكو ولا من بروكسل، ونعني به الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش.
ساعة الاختيار
"حتى وقت قريب لم تكن اوكرانيا موضوعة امام مثل هذا الخيار" حسب تعبير رومان روكوميدا من المؤسسة الاوكرانية لاجل الديمقراطية المسماة "سبوتشاتكو ليودي". وهو يتابع "ان البلاد كانت دائما تتأرجح بين المعسكرين، ولكن بالرغم من تطور الاحداث العاصف والتناقضات السياسية الداخلية الحادة، فاوكرانيا في الحساب الاخير بقيت غير مرتبطة نسبيا وبعيدة عن كلا المعسكرين". ويقول هذا الباحث ان اوكرانيا ، من جهة، كان لديها ما تربحه من روسيا، وكذلك من اوروبا، ومن جهة ثانية فإن هذا السلوك كان يعبر عن الميول في صفوف الاوكرانيين انفسهم، الذين هم منقسمون الى فريقين متساويين تقريبا: فريق يؤيد الاندماج مع اوروبا، وفريق يؤيد التقارب مع روسيا. ويتابع روكوميدا "ان المشكلة هي ان التأرجح لا يمكن ان يستمر الى الابد، لان الاتجاهات العالمية تدل بوضوح ان المستقبل هو للكتل الاقتصادية الكبرى، واوكرانيا ببساطة لا يمكنها ان تحافظ على وضع حيادي، لانها بذلك تغامر في الوقوع في العزلة وان تتخلف عن بقية بلدان الاقليم".
ويشارك في هذا الرأي ايضا ستيفن بايفر من مؤسسة Brookings في واشنطن. وهو يقول "ان اوكرانيا اليوم كانت تفضل ان لا تضطر كليا لان تختار بين اوروبا وروسيا، ولكن اذا كان ذلك حتميا فإن غالبية الاوكرانيين، على ما يبدو، يفضلون التقارب مع اوروبا، وفي الوقت ذاته ان يحتفظوا بعلاقات جيدة مع روسيا".
للوهلة الاولى يبدو ان عقد اتفاق التجارة الحرة مع الاتحاد الاوروبي لا يمثل اي عائق. فبموجب هذا الاتفاق يتوقع رفع الرسوم الجمركية عن 95% من السلع المتبادلة بين اوكرانيا والاتحاد الاوروبي، وكذلك ادخال بعض التعديلات في القوانين التجارية والنظام القضائي في اوكرانيا. وهذا قد يعني ان الرسوم الجمركية بين روسيا واوكرانيا ينبغي ان تدخل عليها زيادات، حتى تصبح معادلة للرسوم التي تطبق في التجارة بين روسيا والاتحاد الاوروبي، وحتى يتم تجنب اغراق السوقين بسلع غير مجمركة. ويقول الباحث الاميركي "ولكن زيادة الرسوم الجمركية هي شيء، والتجميد المقصود للتبادل التجاري هو شيء اخر، وتوجيه التهديدات هو شيء ثالث تماما". وهو يرى ان سبب هذا الرد العاصف من قبل روسيا انما يعود الى التكتل الاقتصادي الذي شكلته روسيا، والذي ترى ان اوكرانيا ينبغي ان تكون جزءا هاما منه.
بدون اوكرانيا فإن الجانب "الاوروبي" في مشروع التكتل التجاري "الاوراسي" لبوتين سيكون ضعيفا، وسيقتصر على الاتحاد بين روسيا وكازاخستان، الى جانب بعض الاقتصادات الضعيفة مثل بيلوروسيا ويمكن مستقبلا مولدوفا، ارمينيا وطاجيكستان. واوكرانيا لا تستطيع ان تتأرجح بين الاتحادين، لان التكتل الاوراسي قد وجد كبديل ومزاحم للاتحاد الاوروبي.
وتقول ماريا ليبمان، من مكتب موسكو لمؤسسة Carnegie Center الاميركية، "في السنوات الاخيرة برهن بوتين اكثر من مرة انه يفضل استخدام القبضة الشديدة بدل القوة الناعمة. ويبدو ان هذا ليس تكتيكا، بقدر ما هو موقف قائم على مبدأ: من ليس معنا، فهو ضدنا".
وفي الحديث عن انقسام الاوكرانيين حول الخيار بين روسيا والاتحاد الاوروبي يقول ان الاوليغارشيين الاوكرانيين يخشون من ان تغلغل الشركات الروسية في السوق الاوكرانية، يمكن ان يحرمهم من التأثير الذي يتمتعون به حاليا على الحكومة الاوكرانية.
وتبدو الامور الان غامضة جدا. فبالرغم من ان الكثير من الاوكرانيين وخصوصا الاوساط التجارية والاوليغارشيين، يؤيدون الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي، الا ان احتمالات الحرب التجارية مع روسيا والعقوبات الروسية يمكن ان توجه ضربة شديدة الى الاقتصاد الاوكراني. واي خطوة تتخذها الان الحكومة الاوكرانية ستنعكس بشدة على الحياة السياسية في البلاد.
*كاتب لبناني مستقل