ارشيف من :آراء وتحليلات
رابحون.. وخاسرون
بقدر ما حبست طبول الحرب الأميركية الأنفاس، أدى المخرج الكيميائي الروسي إلى تنفس العالم الصعداء، خصوصاً مع الإمكان الموضوعي لتدحرج الأمور إلى حربٍ شاملة لن تقف عند حدود المنطقة.
إن تقويم وقراءة ما جرى يستدعي التوقف عند الآتي:
أولاً: إن المبادرة الروسية ما كانت لتكون لولا وجود قناعة قوية في موسكو بأن واشنطن جدية في قرار خوض مغامرة كارثية حفزها عليها المحور السعودي ـ التركي ـ الإسرائيلي، وأن هذه المغامرة ستكون بمثابة عدوان شامل وغير محدود في الزمان والمكان والأهداف، ولن يقف إلا إذا أدى إلى تدمير سوريا، وإسقاط النظام مباشرة، أو من خلال فتح الطريق أمام المجموعات المسلحة لإنجاز هذا الهدف الرئيسي والمعلن منذ بداية الأزمة السورية، ولاعتبار استراتيجي كونه يشكل جزءاً لا يتجزأ من الصراع الدائر مع محور المقاومة في المنطقة بقاعدته المركزية إيران وحزب الله.
ثانياً: إن اختيار موسكو للسلاح الكيميائي كمخرج هو لاعتبارات عدة، أبرزها:
أ ـ أن هذا السلاح هو الذريعة المباشرة لإعلان واشنطن الحرب على سوريا، وهو أيضاً ذريعة عمل على التحضير لها منذ 28 أيار لعام 2012 حيث جاء الكلام عن هذا السلاح في صحيفة "هآرتس"، لتعود صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى تناوله مجدداً في 13 حزيران 2012 حيث ذكرت أن الإدارة الأميركية أعدت خطة طوارئ لاستخدام قوات خاصة للسيطرة على مخازن الأسلحة الكيميائية في الأراضي السورية. ثم لم يلبث أن تحول هذا السلاح إلى هاجس أميركي ـ إسرائيلي مشترك، حيث ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 19 تموز 2012 أن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين أجروا محادثات حول مخزون سوري من السلاح الكيميائي، وإمكانيات أن يوجه له الكيان الصهيوني ضربات عسكرية. ليعقب ذلك لاحقاً إعلان أوباما عن خطه الأحمر الكيميائي في سوريا، وذلك في العشرين من آب لعام 2012.
الكلام الإسرائيلي والأميركي عن السلاح الكيميائي جرى ربطه هذه المرة بمخاوف من أن يؤدي مسار التطورات في سوريا إلى وقوعه مرة في أيدي حزب الله وتحوله بالتالي إلى جزء من معادلة الردع مع الكيان الإسرائيلي، ومرة أخرى إثارة الخوف من وقوعه بأيدي المجموعات التكفيرية في ما يعني الأمن القومي للغرب.
باختصار، إن السلاح الكيميائي السوري يحتل محلاً حساساً في الحسابات الغربية عموماً والأميركية تحديداً، وكذلك في الحسابات الإسرائيلية، والتي من شأنها أن تربك العديد من هذه الحسابات نظراً لاصطدامها بمخاوف موضوعية من إمكان انتقال هذا السلاح إلى خصوم واشنطن والصهاينة.
بناءً عليه، فإن تخيير واشنطن بين مغامرة حربية كارثية بكل ما في الكلمة من معنى، وإبطال عقدة بمستوى السلاح الكيميائي، فإنها ستختار الثاني ولا شك.
ثالثاً: ما رجح اختيار أوباما للمخرج الروسي مجموعة اعتبارات لا يمكن له تجاوزها، وكشفت عنها تطورات الأيام الأخيرة التي أريد لها أن تحضر للحرب:
أ ـ إن إعلان المحور الروسي ـ الإيراني ـ السوري وبقية حلفائهم عن استعدادهم لمجاراة أميركا في مغامراتها، اشعر أوباما بأن عدوانه على سوريا سيشكل منزلقاً نحو وضع إقليمي ودولي لا تحمد عقباه بالنسبة لأميركا وأوروبا.
ب ـ فشل عملية تعبئة الرأي العام الغربي والدولي وراء الحرب، بل عكس ذلك ظهر رأي عام واسع رفضاً لها.
ج ـ وقوف الكنيسة الكاثوليكية في روما وأميركا بقوة ضد الحرب.
د ـ فشل إدارة اوباما في بناء تشكيل دولي قوي ومتماسك وراء الحرب.
هـ ـ اصطدام إدارة أوباما بمناخ صعب ومعقد في الكونغرس الأميركي بمجلسيه.
رابعاً: في العموم، قدمت المبادرة الروسية مخرجاً لائقاً لطرفين أساسيين: أوباما المتردد في الذهاب للحرب، والمدرك لآفاقها الكارثية، والمحور الروسي ـ الإيراني ـ السوري الراغب أساساً في الحل السياسي، والمدرك أيضاً لأبعاد هذه الحرب. وأما المحرض الأساسي على الحرب فهو لا شك المحور الإسرائيلي ـ السعودي ـ التركي: الإسرائيلي ـ السعودي من موقع رغبته في توجيه ضربة كبيرة لمحور المقاومة ممثلة بإيران وحزب الله، والتركي لاعتبارات لها علاقة باستثماراته الكبيرة والفاشلة حتى الآن في سوريا والمنطقة.
وبناءً عليه، يمكن القول، إن هناك رابحين وخاسرين بنسب متفاوتة من المخرج الروسي:
أ ـ روسيا هي رابح كبير لكونها قطعت الطريق على حرب لا تريدها، وحمت مواقع حليفها في سوريا وبالتالي مصالحها في سوريا. ولكونها ثبتت موقعها كشريك أساسي في المعادلة الدولية، كما ربحت معركة مهمة على صعيد الرأي العام الدولي حيث ظهرت بمظهر الحريص على السلام، والعمل الديبلوماسي لحل المشاكل الخلافية.
ب ـ واشنطن ربحت أمرين أساسيين: الأول هو السلاح الكيميائي الذي طالما شكل أحد أهدافها في سوريا. والثاني، مخرجاً لائقاً من ورطة خيار الحرب. كما يمكن القول، إنها استعادت جزءاً من هيبتها الدولية.
لكنها في المقابل خسرت أموراً كثيرة، أبرزها أنها لم تحقق هدفها الاستراتيجي في سوريا والمتمثل بإسقاط النظام، كما أنها استعادت صورتها الساقطة أصلاً دولياً وعربياً، وإن حاولت جاهدة ترميمها منذ استلام أوباما سدة الرئاسة.
وعلى صعيد آخر، لم تظهر واشنطن بمظهر الدولة الكبرى القادرة على فرض ما تريد، وإنما ظهرت على حقيقتها كدولة شبه معزولة وشبه عاجزة، وأنها لم تعد أميركا القادرة على الاستفراد بالعالم.
ج ـ إيران خرجت رابحة لمجرد تجنب خيار الحرب في وقت تراه يعمل لمصلحتها، ولمجرد تجنيب حليفها عملا عسكريا مكلفا، إضافة إلى تمكنها من إثبات موقعها ودورها في التوازن الإقليمي ـ الدولي القائم حالياً، كما إن لها مكاسب إضافية مردها فشل خصومها في تحقيق أهدافهم.
د ـ الكيان الإسرائيلي ربح ورقة الكيميائي، إلا أنه ولا شك خاسر كبير، لأن تعطيل الحرب سيعني عملياً تعطيل الوسيلة الوحيدة لإنجاز أهدافه الاستراتيجية في سوريا: إسقاط النظام وتدمير سوريا ـ توجيه ضربات استراتيجية لإيران وحزب الله.
هـ ـ النظام السعودي هو خاسر كبير لأنه ـ كما الإسرائيلي ـ يرى أن الحرب هي الطريق الوحيد لإسقاط النظام، وتوجيه ضربة استراتيجية لإيران وحزب الله.
و ـ تركيا أيضاً خاسر كبير، لأن الحرب كانت تشكل تقريباً آخر رهاناتها على احتمال أن تحقق إنجازها.
ز ـ أخيراً، النظام في سوريا صحيح أنه خسر ورقة الكيميائي، لكنه عملياً خسر ورقة باتت عبئاً عليه من جهة، وفقدت في ظل الأزمة السورية مردودها الإيجابي من جهة أخرى، كما أنها ورقة توازن قابلة للتعويض. وفي المقابل ربح النظام مجرد تجنب حرب، واضطراره لخوض صراع مفتوح على آفاق كثيرة. كما ربح داخلياً وخارجياً حيث ظهرت حقيقة الصراع في سوريا وعليها بعد الإلتباس الكبير الذي أحيط به. ويكفي للنظام أن يعود الصراع محكوماً بوضعيته الحالية ليكون لمصلحته.
لا شك، أن المنطقة نفذت من براثن الكيميائي في أول اختبار صعب ومعقد لتوازن القوة والرعب الحاكم لها إقليمياً ودولياً، ويبقى السؤال: هل ستفتح تسوية الكيميائي، وتقويمات الاختبار الذي جرى، الأزمة السورية على آفاق تسريع التسوية، أم ستترك لتراوح مكانها حتى تستنفد كامل دوافعها وأهدافها؟ الفترة المقبلة من شأنها أن تحمل إجابات أو بعض إجابات عن هذه الأسئلة.