ارشيف من :آراء وتحليلات

تنامي العزلة الدولية لأميركا

تنامي العزلة الدولية لأميركا
في عام 1989، ومع سقوط جدار برلين وبداية إنهيار المنظومة السوفياتية السابقة ثم الاتحاد السوفياتي السابق ذاته، كتب احد المحافظين الجدد الاميركيين، فرنسيس فوكوياما، مقالته الشهيرة "نهاية التاريخ"، التي يعتبر فيها أن نهاية الحرب الباردة والانتصار المزعوم للفكر الليبيرالي و"الديمقراطي" الاميركي يسجل "نهاية للتاريخ" اي تاريخ الصراع السياسي والايديولوجي. ونصح فوكوياما الادارة الاميركية باللجوء الى العنف لتحطيم "الانظمة الدكتاتورية" وفرض "الديمقراطية" الاميركية المزعومة. وبسقوط القطب السوفياتي، انطلقت في جميع ارجاء العالم جوقة التطبيل والتزمير لـ"الديمقراطية الاميركية" و"القطب الاميركي الاوحد" الذي سيقود العالم الى الاستقرار والسلام والتقدم والرفاهية.

ومن اكبر المهازل ان قطاعا واسعا من الحركة الشيوعية العالمية نقل "قبلته" من موسكو الى واشنطن، وداس الأعلام الشيوعية ورفع الاعلام الاميركية. وفي البلدان العربية تحول القسم المرتد من الشيوعيين الى مواقع الخيانة الوطنية المكشوفة، ودعموا العدوان الاميركي على بلدانهم وشعوبهم باسم "الديمقراطية الاميركية".
تنامي العزلة الدولية لأميركا
سقوط جدار برلين يؤرج لسقوط السوفييت
وفي روسيا ذاتها تحول بوريس يلتسين من عضو في المكتب السياسي ومسؤول منظمة موسكو للحزب الشيوعي السوفياتي الى حليف اميركي رخيص. وباسم "الديمقراطية الاميركية" قام يلتسين بقصف مقر البرلمان الروسي في تشرين الثاني 1993، وفتح البلاد على مصاريعها للاحتكارات والمافيات والمخابرات الاميركية والغربية والصهيونية التي عملت على نهب وافقار واذلال الشعب الروسي بقصد مفضوح هو تحويل روسيا الى مستعمرة جديدة اميركية ـ صهيونية. وبنتيجة هذه السياسة الرعناء الموالية لاميركا واليهودية العالمية والغرب، ظهرت مقاومة قومية شديدة من قبل الكنيسة الروسية وجماهير الشعب الروسي، وتأسس "الحزب الليبيرالي الديمقراطي الروسي" بزعامة فلاديمير جيرينوفسكي، وهو حزب قومي متشدد هدد بتطهير روسيا من اليهود ومن العصابات الغربية والموالية للغرب بما فيها العصابات الارهابية الاسلامية المرتبطة بالسعودية والمخابرات الاميركية. ولكن الشعب الروسي اختار اخيرا الطريق القومي المعتدل الذي يقوده فلاديمير بوتين. وأزيح يلتسين عن السلطة في نهاية عام 1999، وكان مجيء بوتين الى السلطة أول خرق جدي للهيمنة الاميركية الاحادية على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

وبمراجعة الاحداث العالمية منذ العقد الأخير في القرن الماضي، نجد ان نصيحة فوكوياما للادارة الاميركية باستخدام العنف لأجل "فرض الديمقراطية" لم تكن مجرد اضغاث احلام لمثقف فاشستي مهووس، بل كانت "روشتة فعلية" و"خطة عمل" قدمها المحافظون الجدد (او: اعداء الانسانية النازيون الجدد) للادارة الاميركية، الديمقراطية والجمهورية على السواء. وعملا بهذه "الروشتة" رفضت الادارة الاميركية كل الدعوات لحل "حلف الناتو" بعد ان زال "حلف فرصوفيا" السابق المناوئ له. بل على العكس تماما عملت الادارة الاميركية والصهيونية العالمية لاستخدام كل نفوذهما وكل وسائل الضغط والاغراء الممكنة لأجل توسيع حلف الناتو نحو الشرق لتضييق الطوق حول روسيا. ونظمت "الثورات الملونة" مدفوعة التكاليف في بعض بلدان اوروبا الشرقية، وجاء الى السلطة عملاء اميركيون في جورجيا واوكرانيا كانوا يزمعون ضم البلدين الى الناتو وتحويلهما الى قاعدتين عسكريتين على الحدود مع روسيا. ولكن في الأزمة الروسية ـ الجورجية والازمة الروسية ـ الاوكرانية سنة 2008 و2009 قطعت روسيا الغاز عن اوكرانيا وبعض البلدان الاوروبية وحلقت القلاع الطائرة الروسية فوق تفليس عاصمة جورجيا (دون ان تلقي حمولتها) فاضطر حلف الناتو الى التخلي عن ضم اوكرانيا وجورجيا الى صفوفه.
تنامي العزلة الدولية لأميركا
يلتسين بات حليفا للولايات المتحدة الاميركية!

وعملا بالروشتة الفوكويامية ذاتها شنت اميركا الحرب على العراق في 1991، بحجة "تحرير!!!" الكويت. وفي 1999 تمت مهاجمة وتدمير صربيا وفصل اقليم كوسوفو الذي تم فيه تأسيس "جمهورية مستقلة!!!" تحكمها مافيا اللصوص وتجار المخدرات وتجار الاعضاء البشرية، الذين يعملون بأمرة المخابرات الاميركية وبالتعاون الوثيق مع الجيش الاميركي الذي أنشأ في كوسوفو قاعدة بوندستيل التي هي اكبر قاعدة عسكرية في اوروبا. وفي 2001، وفي اعقاب احداث ايلول/سبتمبر 2001 التي هي من نظم وتلحين المخابرات الاميركية والموساد، قام الجيش الاميركي باجتياح افغانستان واحتلالها وتحويلها الى أكبر مزرعة خشخاش وتصنيع مخدرات في العالم باسم "الديمقراطية" طبعا. وفي 2003 قام الجيش الاميركي رسول وناشر "الديمقراطية" بمهاجمة العراق بحجة ضرب نظام صدام حسين، وقصف وسمم الارض العراقية بمئات الاف اطنان اليورانيوم المنضب، وارتكب مجزرة ضد المدنيين العراقيين، نساء ورجالا وشيوخا واطفالا، اكبر من مجزرة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي سنة 2006 حرضت اميركا "اسرائيل" ودعمتها دعما سياسيا وعسكريا لشن الحرب على لبنان وتدمير البنى التحتية ومحاولة إلغاء شروط الحياة العادية لجميع المواطنين اللبنانيين من اجل اجبارهم على النزوح ومغادرة بلادهم، بحجة محاربة حزب الله. والآن يأتي عدوان الجيش "التكفيري"العالمي الممول سعوديا وقطريا والمدعوم اميركيا، على سوريا، والتهديدات الاميركية بضرب سوريا، بحجة إلصاق تهمة الاسلحة الكيماوية التي يستخدمها الجيش "التكفيري"العالمي بالجيش الوطني السوري، يأتي ذلك تماما في سياق التطبيق الاميركي لـ"روشتة" فوكوياما باستخدام العنف لأجل فرض "الديمقراطية الاميركية".  

ولكن بعد مرور حوالي 25 سنة على صدور "روشتة" فوكوياما، هل نجحت الادارة الاميركية، الديمقراطية والجمهورية معا، في فرض الهيمنة الاحادية القطبية الاميركية ـ الصهيونية على العالم؟

هناك مقولة مأثورة تقول: "كل شيء يولد صغيرا فيكبر، الا المصيبة تولد كبيرة فتصغر". وبنظرة على التطورات العالمية نرى ان النفوذ الاميركي في العالم يتضاءل، وبسرعة غير متوقعة:

فقد بادرت روسيا الى تأسيس "اتحاد الدول المستقلة" الذي يضم عددا من الجمهوريات السوفياتية السابقة هي: روسيا، بيلوروسيا، اوكرانيا، مولدافيا، جورجيا، ارمينيا، اذربيجان، تركمانستان، اوزبكستان، كازاخستان، طاجيكستان وقرغيزيا. وتتعاون هذه الدول في مجالات التجارة والتمويل والقوانين والامن.

وبالتعاون بين روسيا والصين تأسست "منظمة شانغهاي للتعاون". وهي  تضم كل من الصين، روسيا، كازاخستان، اوزبكستان، طاجيكستان وقرغيزيا. والاهداف المعلنة للمنظمة هي مكافحة الارهاب والتصدي لتجارة الاسلحة والمخدرات. الا ان الكثير من المحللين يرى ان هذه المنظمة هي اشبه بحلف عسكري جديد يهدف الى مواجهة حلف الناتو.

ولكن اهم خطوة نجحت روسيا والصين في القيام بها هو تشكيل منظمة (بريك) في 2009 والتي تغير اسمها الى (بريكس) في 2010 بعد انضمام افريقيا الجنوبية اليها. وتضم المجموعة الان: البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا. وتشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الارض. وتتميز بأن اقتصادها هو الاسرع نموا في العالم، ويتوقع الخبراء ان تصبح الكتلة الاقتصادية الاكبر في العالم بحلول عام 2050. وتنتهج منظمة (بريكس) سياسة معارضة جذريا لسياسة الهيمنة والاحادية القطبية لاميركا، وهي تمتلك صوتين (روسيا والصين) من اصل الدول الخمس الكبار التي يحق لها استخدام حق الفيتو في مجلس الامن.
تنامي العزلة الدولية لأميركا
مجموعة البريكس تناهض السياسة الاميركية
وهذا ما يمنع الولايات المتحدة الاميركية من تطويع مجلس الامن لسياستها العالمية العدوانية. وقد ظهر ذلك بشكل واضح مؤخرا لدى طرح المسألة السورية في مجلس الامن، اذ ان الفيتو الروسي ـ الصيني المشترك عطل كل محاولة لاتخاذ قرارات معادية للدولة والشعب السوريين، وقد جرت محاولات لاتخاذ قرارات منفردة خارج مجلس الامن للعدوان على سوريا، كما جرى في صربيا سنة 1999 وفي العراق سنة 2003، ولكن الموقف الروسي الحازم، والى جانبه دول (البريكس) افهم اميركا وجميع دول الناتو انها ستدفع ثمنا غاليا، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، اذا تجرأت ونفذت اي قرارات عدوانية منفردة ضد سوريا، فاضطرت بريطانيا وحلف الناتو واخيرا اميركا ذاتها للتراجع.

وهناك منظمة "الاتحاد الافريقي" التي تضم 52 دولة افريقية. وبالرغم من فقر وهشاشة الدول الافريقية مما يجعلها لقمة سائغة لمؤامرات المخابرات الاميركية والاسرائيلية، فإن منظمة "الاتحاد الافريقي" تحاول جاهدة ان تنأى بنفسها عن السياسة العدوانية الاميركية والتقرب من "الاتحاد الاوروبي" ومجموعة (البريكس) وخصوصا الصين التي تقوم بنشاط اقتصادي (تجاري واستثماري) واسع في القارة الافريقية.

وهناك "منظمة الدول الاميركية" التي تضم 35 دولة اميركية، وهي تعمل للتخلص من هيمنة الولايات المتحدة الاميركية، وللتخلص من التعامل مع اميركا اللاتينية بوصفها منطقة نفوذ وحوش خلفي للولايات المتحدة الاميركية.

وضمن هذه المنظمة هناك "مجموعة دول اميركا اللاتينية والكاريبي" وقد نشأت سنة 2010، وتضطلع فيها فينزويلا بدور رئيسي، وتضم 33 دولة بما فيها كوبا. والمهمة الرئيسية امام هذه المجموعة هي مواجهة النفوذ الاميركي والتحرر منه. وتقيم المجموعة علاقات وثيقة مع روسيا.

وبالاضافة الى ذلك علينا ان نشير الى بعض العوامل الاقتصادية:

1ـ ان "الاتحاد الاوروبي" ذاته، الحليف الرئيسي لاميركا، يسعى للتخلص من هيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وفي 1999 اصدر "الاتحاد الاوروبي" عملة "اليورو" كاسرا مرة والى الابد احتكار الدولار بوصفه العملة العالمية الوحيدة.

2ـ عمدت روسيا الى مد انابيب الغاز القارية لتزويد اوروبا بالغاز الطبيعي مما يجعل قراراتها السياسية اكثر استقلالية عن المواقف العدوانية المتفردة لاميركا.

3ـ حتى اليوم تتمسك الصين بالمحافظة على سعر لليوان الصيني ادنى من سعره الحقيقي، وذلك من اجل استمرار القدرة التنافسية الكبيرة للسلع الصينية التي تغزو العالم بأسعارها الرخيصة. ولكن مع تطور التكنولوجيا التي تكفل انتاج السلع الرخيصة بقوة عمل اقل، من المحتم ان تعوّم الصين سعر اليوان وتنتقل من استراتيجية "تصدير السلع" الى استراتيجية "تصدير الرساميل"، ومن ثم ان توجه ضربة قاضية للدولار الاميركي وهيمنته على الاسواق المالية العالمية. 
تنامي العزلة الدولية لأميركا
مواقف روسيا الثابتة .. العالم بدأ يتغير
لقد بلغت اميركا أوج هيمنتها في نهاية القرن العشرين. ولكن مع ازاحة بوريس يلتسين من الكرملين وبداية النهضة الجديدة للعملاق القومي ـ الارثوذكسي الروسي بدأت مرحلة الانحدار والعد العكسي للآحادية القطبية والهيمنة الاميركية على العالم.

وكان من اهم علامات بداية الانحدار الاميركي اضطرار "اسرائيل"، الربيب المدلل لاميركا، للانسحاب من جنوب لبنان بشكل غير مشروط وانهزامي امام ضغط المقاومة الاسلامية الوطنية بقيادة حزب الله.

ولقد حاولت اميركا كسر مسارها الانحداري بمحاولة فرض الدرع الصاروخية ونشرها في اوروبا بمواجهة روسيا وايران. ولكنها فشلت فشلا ذريعا امام حزم القيادتين الروسية والايرانية وتعاونهما.

كما حاولت "اسرائيل" في الوقت ذاته كسر مسارها الانحداري في محاولة تحطيم حزب الله في عدوان تموز 2006، ولكنها ايضا فشلت فشلا ذريعا بفضل بطولات رجال المقاومة والتفاف جماهير الشعب اللبناني حول المقاومة، وبفضل التعاون العسكري والسياسي الوثيق بين المقاومة في لبنان وايران وروسيا.  

ان اميركا، بنزعتها الامبريالية ـ الصهيونية، للهيمنة الاحادية على العالم، هي مصيبة العالم الحضاري المعاصر.

ولكنها ـ ككل مصيبة ـ ولدت كبيرة وتصغر، وستصغر اكثر فأكثر. وسيأتي اليوم الذي لن تفقد اميركا فيه نفوذها فقط، بل وستصبح معزولة ومكروهة وضعيفة الى درجة ان كل شعوب العالم ستنصب لها "محكمة عالمية تاريخية" كي تحاسبها على كل ما ارتكبت من جرائم ضد الانسانية، منذ تأسيسها الى اليوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2013-09-16