ارشيف من :آراء وتحليلات

انقرة.. وترميم العلاقات مع بغداد

انقرة.. وترميم العلاقات مع بغداد
مؤشرات عديدة تذهب الى ان اتجاه بوصلة العلاقات العراقية ـ التركية راح يتغير شيئا فشيئا نحو تصحيح المسارات الخاطئة، وترشيد المواقف المتسرعة، وترجيح الرؤى الواقعية. وعندما نقول مؤشرات، فهذا لا يعني بالضرورة حدوث معطيات على ارض الواقع تؤكد ان علاقات بغداد ـ انقرة، سوف تشهد تحولات كبيرة في هذه المرحلة وفي المرحلة المقبلة، بقدر ما نعني ان صورة تلك العلاقات ما زالت غامضة رغم بروز ملامح رغبة في إعادة النظر والمراجعة.

زيارة رئيس مجلس النواب العراقي اسامة النجيفي الأخيرة لتركيا، حملت بين طياتها وثناياها الشيء الكثير، وهي جاءت مختلفة الى حد كبير عن جولات وزيارات سابقة للنجيفي سواء لتركيا او لدول اخرى، فمن جانب اقترنت بزيارة مماثلة لإيران، ومن جانب اخر تمت بتنسيق بينه وبين "خصمه" التقليدي نوري المالكي، ومن جانب ثالث حصلت في وقت تقف المنطقة برمتها على "كف عفريت" وهي تترقب بحذر وقلق شديدين ما يمكن ان تؤول اليه الازمة السورية.   

واذا عرفنا حجم الاختلاف في المواقف والتوجهات بين كل من طهران وانقرة، وكذلك طبيعة ومدى التقاطعات بين المالكي والنجيفي، والتي تتداخل فيها ما يمكن ان نطلق عليه "الاصطفافات"، فالنجيفي ذهب الى تركيا التي يرتبط معها ـ انطلاقا من اعتبارات سياسية وطائفية ـ بعلاقات جيدة حاملا رسالة شفوية من المالكي الى نظيره التركي رجب طيب اردوغان، وذهب الى ايران، التي يرى فيها الكثير من قيادات "القائمة العراقية"، ورموز المكوّن السني، عنصر معوق للاستقرار في العراق، وداعم ومساند للحكومة العراقية الحالية في سياساتها غير المتوازنة.

انقرة.. وترميم العلاقات مع بغداد
النجيفي مع لاريجاني
رسالة المالكي لاردوغان، ومعها ذهاب النجيفي لطهران ولقاءاته بكبار القادة الايرانيين، وهي تمثل بحد ذاتها رسالة مهمة، تشيران بوضوح الى ان هناك قراءة عراقية دقيقة ومعمقة للواقع الاقليمي والواقع الداخلي، وما ينبغي عمله في قبال ذلك. فجولة رئيس مجلس النواب العراقي الاخيرة إلى كل من انقرة وطهران، جاءت، مثلما اشرنا انفا، حصيلة تنسيق عال المستوى مع رئيس الوزراء، رغم عدم ارتياح قيادات في "القائمة العراقية" لذلك التنسيق، وهذا التنسيق يعد تحولا مهما في المشهد السياسي العراقي، يمكن في حال تفعيله وتعزيزه ان يساهم في احتواء أزمات ومشاكل داخلية، فضلا عن توحيد المواقف نحو صياغة رؤية وطنية لطبيعة ومسارات سياسة العراق الخارجية وعلاقاته مع المنظومة الاقليمية والدولية.

لا يمكن ان ننكرر او نتجاهل حقيقة أن الازمة السورية شغلت حيزاً غير قليل في مباحثات ونقاشات النجيفي مع القيادات السياسيى العليا في كل من انقرة وطهران، وهذا امر طبيعي، باعتبار ان الازمة السورية باتت اليوم تهيمن على ما سواها من القضايا، وخصوصا بالنسبة للاطراف القريبة منها. وهذا جانب، وفي الجانب الاخر، ان حضور العراق بفعالية مع الاطراف الاخرى المعنية في البحث عن حلول ومعالجات ومخارج مناسبة، وامكانية ان يلعب دور الطرف المقرب بين الفرقاء الاقليميين، من شأنه ان يساهم في تعزيز موقعه الاقليمي، وفي ذات الوقت الذي يمكن ان يدفع باتجاه حلحلة مشاكله وازماته، لا سيما تلك التي ترتبط ايقاعاتها ومساراتها بطبيعة ومدى توافق وتقاطع المواقف الخارجية حيالها.

ولعله من غير المنتظر أن يقوم النجيفي بمهمة اصلاح علاقات العراق مع ايران، لسببين، الاول، ان تلك العلاقات لم تشهد اي تأزم منذ الاطاحة بنظام صدام قبل اكثر من عشرة اعوام، بل انها كانت الافضل في محيط العراق الاقليمي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، والسبب الثاني، هو انه حتى لو افترضنا جدلا، ان هناك اشكاليات وعقد في علاقات بغداد ـ طهران، فإن ادوات ومفاتيح الحل والحلحلة لن تكون بيد النجيفي، بل بيد اسماء وعناوين اخرى.
انقرة.. وترميم العلاقات مع بغداد
النجيفي وأردوغان
بيد ان الامر مع تركيا يختلف الى حد كبير، وهنا يمكن ان يلعب النجيفي دورا مهما ونافعا في ترميم العلاقات المتأزمة منذ اكثر من عامين بين بغداد وانقرة، فعلاقاته على الصعيد الشخصي والسياسي جيدة مع كبار الزعامات السياسية التركية، وذلك يمثل مدخلا اساسيا لبلوغ الهدف المنشود، وتزداد قدرة النجيفي على لعب هذا الدور المهم، حينما يذهب وهو يحمل رؤية مشتركة بمقدار معين مع المالكي، وفي ظل ظروف واوضاع تحتم على تركيا وغيرها ان تعيد قراءة حساباتها ومواقفها بقدر اكبر من العقلانية والحكمة والواقعية السياسية.

وبقدر ما يحتاج العراق الى علاقات ايجابية وبناءة مع مختلف الاطراف، لا سيما القريبة منه والمجاورة له، ومن بينها تركيا، فإن الاخيرة تحتاج بنفس القدر الى ذلك.

والحراك بين بغداد وانقرة لن يقتصر على زيارة النجيفي ورسالة المالكي الشفوية، فمن المقرر ان يقوم وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو بزيارة قريبة لبغداد، تتبعها زيارة مماثلة يقوم بها وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لانقرة، يقال ان احد اهدافها التمهيد والتهيئة لزيارة متوقعة للمالكي لتركيا.

ولا شك ان لذلك الحراك مبرراته ودواعيه وظروفه، ولعل ابرز ما يراد منه هو خفض مستوى الازمة، وبالتالي توفير مساحات للحوار الهادىء على حساب الحرب الكلامية غير المجدية. وتبدو انقرة اكثر حاجة لتصحيح المسارات الخاطئة مع بغداد، بعدما تبين خطأ او عدم دقة بعض من حساباتها داخليا وخارجيا. فتركيا خسرت حينما وصلت تجربة الاخوان المسلمين في مصر الى طريق مسدود، وخسرت حينما افترقت عن السعودية في المواقف بشأن الملف المصري وملفات اخرى من بينها الملف السوري، وخسرت حينما راهنت على سقوط النظام السوري خلال فترة زمنية قصيرة، ولم يتحقق ذلك، بل على العكس، تعرض حلفاؤها واصدقاؤها في سوريا لضربات قاصمة وهزائم مذلة، وخسرت تركيا حينما وصلت اليها شرارة الحراك الجماهيري، بصرف النظر عن اسبابه المعلنة، وبصرف النظر عن مدياته في مراحله الاولى، مع التأكيد ان الحراك الذي بدأ صغيرا ومحدودا في عدة دول عربية انتهى كبيرا وافضى الى قلب الموازين والحسابات رأسا على عقب، وخسرت تركيا حينما لم تنجح في اغلاق ملف حزب العمال الكردستاني المعارض، عبر الاتفاق الذي ابرم بدايات العام الحالي، وخسرت حينما لم تفلح في الاقتراب من بوابات الاتحاد الاوربي ان لم تكن قد ابتعدت عنها في ظل الهواجس والمخاوف الغربية من سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة رجب طيب اردوغان، وربما لا تريد تركيا ان تخسر المزيد، لاسيما وان كثيرا من الامور مازالت غامضة وستبقى كذلك لأمد غير محدد ولا محدود.
2013-09-17