ارشيف من :آراء وتحليلات

الأزمة في سوريا ما بين الحرب أو التسوية

الأزمة في سوريا ما بين الحرب أو التسوية
شكلت التسوية الروسية ـ الأميركية حول السلاح الكيميائي السوري حاجة مشتركة للخروج من مأزق الحرب التي لم يطلبها بشدة إلا الثلاثي الإسرائيلي ـ التركي ـ السعودي باعتبارها الرهان الأخير والوحيد المتبقي لهؤلاء لتحقيق الهدف المشترك المتمثل بإسقاط النظام، والإطاحة بالرئيس الأسد، من أجل إحداث انقلاب نوعي في موقع ودور سوريا الاستراتيجي والجيو سياسي.

لقد أرست هذه التسوية المعلم الثاني على طريق ولادة نظام دولي جديد: المعلم الأول بدأ في مجلس الأمن من خلال الممارسة الروسية ـ الصينية المشتركة لحق النقض الفيتو، والمعلم الثاني تمثل بإنجاز التسوية الكيميائية. وبناءً عليه يمكن القول إن التفرد الأميركي في الهيمنة على النظام الدولي في طريقه إلى الزوال لمصلحة نظام دولي تعددي، وإن كان حجم ونسب أطرافه الرئيسين لا يزال ينتظر مزيداً من الأخذ والرد قبل أن يتبلور نهائياً استناداً الى التوازنات النهائية التي سيرسو عليها. إن الطابع الهش لمجمل الاقتصادات الغربية، والأزمة المالية التي ما زالت أميركا ترزح تحت وطأتها، إضافة إلى الهزائم المتتالية التي منيت بها خصوصاً في أفغانستان والعراق ولبنان، وانتقال الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، هي التي تقف وراء هذا الواقع الدولي الجديد.

وما يعزز ويزخم الاندفاعة نحو هذا الواقع الدولي الجديد هو وجود مجموعة أساسية من المصالح المشتركة الروسية ـ الأميركية يبقى أبرزها:

أ ـ مسألة الإرهاب والتطرف الديني الذي يطال العمق الأمني للغرب وروسيا وغيرهما من الدول المتضررة منهما. ومن المعلوم أن كلاً من الغرب وروسيا عملا منذ الحرب العالمية الثانية على تعزيز الأمن الداخلي لكلٍّ منهما، مع عدم الممانعة في خوض الصراعات خارج حدودهما الطبيعية.

ب ـ أمن الكيان الإسرائيلي الذي يشكل أولوية مطلقة للغرب عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً، مع عدم ممانعة روسية.

ج ـ محاصرة طموح الدول الإقليمية الصاعدة بما لا يمس مصالحهم الحيوية.

د ـ إظهار الاستعداد ولو المبدئي لتقاسم النفوذ والمصالح الخاصة بالنفط والغاز وطرق إمدادها الرئيسية.

وبالرغم من هذا كله، فإن طي صفحة الحرب لا يعني إسقاطها نهائياً من معادلة الصراع لاعتبارات كثيرة ابرزها:

1 ـ الحاجة إلى ورقة تفاوض توازن ما في أيدي خصوم واشنطن من أوراق، لا سيما على الصعيد الميداني السوري، إضافة إلى طاولة التفاوض الخاصة بتوازنات النظام الدولي الجديد.

2 ـ ثمة حاجة أميركية لإبقاء التهديد بالحرب سيفاً مُصْلَتاً لضمان تنفيذ التسوية بأفضل شروط ممكنة.

3 ـ حاجة واشنطن إلى بعث رسالة واضحة لمن يعنيه الأمر، بأنها لن تتورع عن الذهاب إلى الحرب كلما مُسّت خطوطها الحمراء المتصلة بمصالحها الاستراتيجية الكبرى.

هذه الاعتبارات تفسر الإصرار الأميركي على الاحتفاظ بورقة الحرب، وعدم إسقاطها نهائياً من خياراتها، إلا أن هذا بدوره لا يعني أن الطريق معبدة أمام واشنطن لممارسة هذا الخيار خصوصاً في ظل توازن الرعب الدقيق الذي يحكم أطراف الصراع، ما يعني بدوره أيضاً أن الانقلاب على التسوية مع الروس ليس بالأمر السهل، ولا سيما أنها صيغت تحت عنوان نزع ذرائع الحرب.

أهمية هذا الاستنتاج تكمن في كونه يشكل كابحاً للتغيرات التي قد تغير الاشتباك الدائر في مجلس الأمن حول إدراج الأزمة السورية تحت البند السابع، وهي بمثابة محاولة للعودة إلى خيار الحرب. هذا الاشتباك أمر طبيعي يتصل بمحاولات كل طرف لفرض تفسيره الخاص للتسوية بما يحقق له أكبر قدر ممكن من المصالح.

وما تجدر ملاحظته هنا، أن تنفيذ التسوية الروسية ـ الأميركية حول السلاح الكيميائي  ليس بالأمر السهل، ولدرجة تبدو فيها المواعيد المضروبة لهذا التنفيذ نظرية أكثر منها عملية. فالتنفيذ يحتاج إلى خبراء في إنتاج السلاح وتدميره، كما يحتاج إلى بنية تحتية تتمثل ببناء مصانع خاصة مكلفة مادياً، إضافة إلى وضع أمني مستقر يسهل عملية الوصول إلى المواقع.

ولمّا كان الاستقرار السياسي هو الشرط الضروري لأي استقرار أمني، فإن تنفيذ التسوية الروسية ـ الأميركية سيبقى مرهوناً إلى حد كبير بإنجاز تسوية أكبر تشمل الأزمة السورية برمتها.

إن حل الأزمة السورية منوط اليوم بمسار جنيف ـ 2، الذي بدوره يبقى معلقاً على إنجاز مجموعة تمهيدات اساسية، أبرزها:

أ ـ الاتفاق على الأطراف المشاركة، وهذا يبدو أنه أنجز إلى حدٍّ كبير.

ب ـ حسم مسألة مشاركة المجموعات المسلحة التي يفترض أن تأخذ مكانها على طاولة المفاوضات، هنا يلتقي الروسي والأميركي على ضرورة إقصاء المجموعات المتطرفة في جبهة النصرة ونظائرها، لمصلحة المجموعات المعتدلة التي يعمل على بلورتها منذ مدة.

إن المواجهات الأخيرة بين هذه المجموعات هي لحسم هذه المسألة، والتي بدورها ستحسم وضعية الأطراف الإقليمية المشاركة. ولا يخفى هنا أننا نشهد صراعاً سعودياً ـ تركياً ـ قطريا مكتوماً في سوريا.

ولا تتعرض المجموعات المتطرفة الإرهابية لضغط من جانب الحلفاء فحسب، وإنما أيضاً من قبل الجيش السوري النظامي، ما يضعها بين فكي كماشة. باختصار إن لجنيف  2  ـ كما يبدو ـ ممراً الزامياً هو التخلص من هذه المجموعات.

ج ـ التفاهم على طبيعة التسوية السياسية وحسم ونسب وأحجام كل طرف في المعادلة التي يراد لها أن تحكم سوريا، إضافة إلى حسم المصالح الخاصة.

هنا، تبدو المشكلة أكبر، لأن التفاهم يفترض أن يعكس توازنات القوة الميدانية والمحيطة بالأزمة السورية، وهذا ما لا يعمل لمصلحة الأطراف الأخرى. وتبدو الفترة الحالية بمثابة وقت مستقطع وإضافي لكل الأطراف لفرض واقع وتوازنات قوة جديدة تسمح لكل منهم بتحسين شروط مشاركته، ورفع نسبة مكاسبه، وفي هذا السياق، يحاول الغرب إبراز الرئيس الأسد كعقدة مستعصية في طريق الحل، ويعمل جاهداً لتوظيف كل الأوراق الممكنة لشطبه من أي تسوية لاحقة، إدراكاً منه أن بقاءه سيعني عملياً التمديد له في أي انتخابات لاحقة، إضافة إلى الأبعاد المعنوية والسياسية الرمزية لبقاء الأسد، الذي استطاع أن يصمد في مواجهة حرب عالمية ويفوز بها.

خلاصة القول هنا، إذا كانت التسوية الكيميائية قد جنبت المنطقة الحرب، إلا أنها أوجدت وقائع جديدة لا يمكن تجاوزها، لا سيما في ما يتعلق بتزخيم عملية البحث عن حل سياسي للأزمة السورية باتت الخطوط العامة لخريطة طريقها شبه معروفة، بينما تحتاج تفاصيلها إلى مزيد من الأخذ والرد، ما يعني أن الأشهر المقبلة ستكون ساخنة سواء لتحسين موازين القوة، أم لوضع العراقيل.
2013-09-20