ارشيف من :آراء وتحليلات

الاوضاع الداخلية تعزل مصر عن لعب دورها الاقليمي

الاوضاع الداخلية تعزل مصر عن لعب دورها الاقليمي
تكاد عزلة مصر حالياً عن قضايا العالم العربي تشبه عزلتها بعد توقيعها اتفاقية كامب دافيد عام 1978 والمقاطعة العربية لها بعد تفردها بقرار الصلح مع "إسرائيل" وتسببها بنكسة للطرف العربي الفلسطيني في المواجهة الميدانية مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. هذه المرة سبب العزلة يكاد يكون محضا داخليا بسبب انغماس الشارع المصري وقواه السياسية ومؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية في الصراعات الداخلية التي تصاعدت بعد ثورة 25 يناير وبدأت بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين بالاتجاه نحو مسار دموي في ضوء الاشتباكات المسلحة بين الجيش المصري ومجموعات إسلامية متعددة الانتماءات بعضها معروف مثل أولئك المنبثقين عن الإخوان المسلمين وبعضها غير معروف كتلك التي تجري في سيناء.

هذا الانغماس الداخلي مفهوم من الناحية المبدئية باعتبار أن ترتيب البيت الداخلي هو أولوية للمصريين يتقدم على أولوية السياسة الخارجية. لكن المعضلة تكمن في عدم معرفة ما ستؤول إليه الأمور في الصراع الحالي، لأن المصريين ليسوا اللاعب الوحيد على ساحتهم، بل ثمة أطراف خارجية أخرى دولية وإقليمية تحاول أن تلقي بثقلها لتأجيج تلك الأزمة وأخذها نحو مصائر خطرة جداً من نوع التقسيم كحد أقصى، أو الحرب الأهلية بخلفيات سياسية أو بخلفيات طائفية كمعدل وسطي أو على الأقل إبقائها في حالة اللاستقرار وبالتالي الاستنزاف، وهذه المصائر مدونة في مخططات وموضوعة على خرائط منذ عقود، بل إن بعضها منشور على شكل وثائق رسمية وبعضها موجود على شكل مفاهيم يعمل بها في بعض الدول ويحاولون تعميمه مثل مفهوم "الفوضى الخلاقة".
الاوضاع الداخلية تعزل مصر عن لعب دورها الاقليمي
الاحداث الداخلية اربكت دور مصر الالقليمي
والنتائج السريعة المترتبة على الانغماس المصري في الشأن الداخلي ـ الصراع على السلطة إن صح التعبير أو على هوية جمهورية مصر العربية ما بعد الثورتين كما يريد البعض ـ ترجمت على شكل إعراض عن الاهتمام بالصراعات الخطرة التي تجري على تخوم مصر ـ والتي تؤثر حكما على وضعها كبلد محوري اشتهر بلعب أدوار تاريخية مؤثرة ـ مثل حال السودان بعد تقسيمه إلى دولتين وعدم استقرار أي من الدولتين، والصراع على مياه نهر النيل شريان الحياة في مصر، أو ما يجري في ليبيا التي لم تستقر على صيغة سياسية معينة ومنغمسة في حروب صغيرة متنقلة، فضلا عن القضية الأساس التي ارتبط اسم مصر فيها، وهي القضية الفلسطينية التي دخلت مرحلة مفاوضات جديدة اخطر ما فيها أن الطرف الفلسطيني المفاوض يبدو وحيداً مجرداً من أي دعم، إضافة إلى أن الطرف الفلسطيني الآخر، أي حركة حماس الممسكة بالسلطة في غزة هي الآن في مرحلة اشتباك ميداني وسياسي مع السلطة الانتقالية في مصر. أما لبنان الساحة التي يتجاذبها أكثر من طرف خارجي، فان غياب القاهرة عنها هو كلي ولا تجد في بيروت من يحدثك عن أي تأثير مصري خلافاً لما اشتهرت عنه.

لكن من بين جميع هذه الساحات المتوترة تبقى سوريا تحتل موقع الصدارة باعتبارها مسرح المواجهة بين مشروعين وحيدين في الشرق الأوسط: مشروع أميركي إسرائيلي غربي خليجي ومشروع مضاد له تنخرط فيه إيران وسوريا وحزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية إضافة إلى مساهمة عراقية مؤثرة. ومع هذه الأطراف تتولى روسيا دوراً محورياً في تعطيل أدوات النفوذ الأميركي سواء في مجلس الأمن الدولي أو على المستوى الميداني. لكن المسألة السورية ورغم الانشغال المصريين بشعابهم فإنها بقيت تحتل مساحة محورية حتى على مستوى الرأي العام وليس فقط مراكز السلطة المتنوعة. ولقد ذهبت تحليلات كثيرة إلى أن قرار الرئيس المطاح به محمد مرسي قطع العلاقات مع دمشق كان احد أسباب تأجيج الحراك الشعبي ضده، كما كان لافتاً حجم الاعتراض الرسمي والشعبي على التهديد الأميركي بالعدوان على سوريا، وبرز ذلك في جملة تصريحات ومواقف ومعطيات بينها قرار الجيش المصري منع عبور أي بارجة أميركية قناة السويس إلى البحر المتوسط للمشاركة في العدوان. كما عادت وكالة "رويترز" بتقرير لمراسلها في القاهرة قدم فيه خلاصة جولة ميدانية تظهر رفضاً كبيراً للحرب على سوريا وأي بلد عربي رغم الاختلاف مع نظامها.
 عرض تقرير للاستخبارات المصرية وقائع لقاء تركي قطري ومعارضين سوريين ينطوي على معطيات تنفي عن النظام السوري استخدامه الكيماوي وترمي المسؤولية على المعارضة السورية المسلحة.

وقد حظي هذا الرفض بكم من التحليلات حاولت تقصي سلوك السياسة الخارجية المصرية ما بعد إطاحة مرسي وقياسها بأدوات التأثير المباشرة التي تمثلت بأمرين: الأول تهديد أميركي بوقف المساعدات السنوية لمصر في حال صنفت واشنطن ما جرى انقلاباً على شرعية حكم الإخوان المسلمين، والثاني تمثل بسيل المساعدات المالية السعودية والإماراتية والكويتية والتي بلغت 12 مليار دولار للحكم الجديد، وهي دول ثلاث تشاطر "الإخوان المسلمين" العداء، وبدت تلك كمحاولة لخطف الثورة المصرية الجديدة.

لكن مؤشرات عدة برزت اوحت بنتائج معاكسة أزعجت الرياض وأيضا واشنطن ممن انتظروا تأييداً مصريا للعدوان على دمشق. بين هذه المؤشرات ما نشرته صحيفة "دايلي كولر" الأميركية في عددها الصادر في التاسع والعشرين من شهر آب/ أغسطس الماضي في تقرير مطول لها عن كيفية تلاعب الإدارة الأميركية بالأدلة المتعلقة باتهام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية في الواحد والعشرين من آب/اغسطس الماضي في ريف دمشق. وبحسب الصحيفة الأميركية فان تقريراً للاستخبارات المصرية يعرض وقائع لقاء عقد في تركيا بين مسؤولين في الاستخبارات العسكرية من تركيا وقطر والمعارضين السوريين ينطوي على معطيات تنفي عن النظام السوري استخدامه الكيماوي وترمي المسؤولية على المعارضة السورية المسلحة.
الاوضاع الداخلية تعزل مصر عن لعب دورها الاقليمي
رفض مصري بارز لتوجيه ضربة إلى سوريا

وفي متن التقرير كما تورده الصحيفة الأميركية يقول أحد المشاركين في اللقاء انه "سوف يكون هناك حدث يغيّر طبيعة اللعبة في 21 أغسطس، وهذا سوف يدفع الولايات المتحدة إلى حملة قصف ضد النظام السوري". وتذكر "دايلي كولر" بأن الهجوم بالأسلحة الكيميائية على المعظمية وهي منطقة خاضعة لسيطرة المعارضة، تمّ في 21 أغسطس.  وبحسب التقرير الإعلامي الأميركي فإن المخابرات العسكرية المصرية تصر على أنها كانت عملية مشتركة تركيا، قطر والمعارضة السورية كما تنقل عن مصدر مطلع على التقرير. وهذا التقرير الاستخباراتي المصري يصب في صالح النظام السوري ويدحض الرواية الأميركية عن استخدام الكيماوي.

واقعة أخرى تحدثت عنها صحيفة "الديار" اللبنانية قبل أسبوعين مفادها أن وفدًا عسكريًّا مصريًّا رفيع المستوى وصل إلى دمشق موفدًا من قبل الفريق الأول عبد الفتاح السيسي؛ وذلك لإعادة التنسيق الأمني بين جهاز المخابرات المصري وجهاز الأمن العسكري السوري بشأن "الإخوان المسلمين". ووفقًا "للديار" فسوف يتم العمل التنسيقي بين جهاز المخابرات المصري وجهاز المخابرات السوري بشأن جماعة الإخوان نظرًا لما قاله الفريق السيسي إن مصر لها خبرة عميقة في قضية الإخوان المسلمين. وإذا ما صح هذا الخبر فإنه يؤشر إلى سلوك ما يعتزم النظام الجديد سلوكه تجاه دمشق مقابل سلوكياته المستجدة مع خصومها، ومنها قطر على سبيل المثال حيث تشهد العلاقة بين القاهرة والدوحة توتراً على خلفية الدعم العلني الذي توفره قطر لتنظيم الإخوان المسلمين.
 حسني مبارك: "السعودية مرة بعتت للمشير طنطاوي وعرضوا 6 مليارات دولار علشان أخرج"

وقد ترجم هذا التوتر مؤخرا على شكل رد السلطات المصرية وديعة قطرية بقيمة ملياري دولار كان هذا البلد الخليجي أودعها في البنك المركزي المصري ورفضت الدوحة تحويلها الى سندات لمدة ثلاث سنوات. وهذا الرد المصري ينطوي على محاولة واضحة للتملص من الضغوط القطرية من خلال الباب الاقتصادي والمالي. وفي السياق نفسه تحدثت مصادر بقطاع الطيران المدني المصري عن أن السلطات المصرية رفضت أيضا طلبا قطريا لزيادة عدد الرحلات بين البلدين في إشارة أخرى إلي زيادة التوترات بين القاهرة والدوحة. لا بل إن الاتفاق الذي وقع أثناء فترة حكم مرسي وسيرت بموجبه الخطوط الجوية القطرية المزيد من الرحلات إلى مصر بينما لم تقم مصر للطيران بزيادة رحلاتها إلى قطر وهو ما سبب أضرارا لأرباح الشركة المصرية، هذا الاتفاق سيتم إلغاؤه في وقت قريب كما قالت هذه المصادر لوكالة "رويترز".
الاوضاع الداخلية تعزل مصر عن لعب دورها الاقليمي
وزير الخارجية المصري مع نظيره الروسي في موسكو
هذه الوقائع التفصيلية على دلالاتها الرمزية يمكن البناء عليها في تفسير المقاربة الجديدة التي حملها معه وزير الخارجية المصري نبيل فهمي إلى موسكو مطلع الشهر الجاري واستغرقت يومين وأدلى خلالها بجملة مواقف تنطوي على أهمية كبيرة في فهم النظام المصري الجديد لسياسته الخارجية. فقد جزم فهمي بأن هدف الزيارة هو تطوير العلاقات الروسية المصرية وتنويع الخيارات أمام السياسة الخارجية لمصر حفاظاً على سيادة القرار المصري، معتبرا أن تنويع الخيارات المصرية «قرار استراتيجي للحكومة الانتقالية المؤقتة، لأننا نتعامل مع العالم؛ فالاعتماد على طرف دون طرف آخر شيء غير طبيعي وغير منطقي وليس في مصلحتنا، وخاصة لدولة مثل مصر التي تستورد غذاءها وسلاحها وطاقتها، ومركزها الجغرافي في منتصف العالم، وبالتالي إن وضعنا الداخلي مرتبط بعلاقاتنا الخارجية، وعلاقاتنا الخارجية مرتبطة باستقرار الوضع الداخلي".

هذه الجمل المركزة تنطوي على مؤشرات هامة بما يتعلق بالمستجد في السياسة الخارجية، فهي أطلقت من موسكو القطب الذي يقف على طرف النقيض من الولايات المتحدة، والذي فشلت الإغراءات المالية السعودية في تغيير موقفه من الأزمة السورية، كما يأتي في ذروة التوتر الأميركي الروسي بشأن سوريا، حيث إن الزيارة بذاتها حدث مهم فكيف إذا كانت مرفقة بكلام من هذا النوع. كما تأتي بعد خيبة الأمل السعودية من موقف القاهرة تجاه ضرب سوريا.

وإذا كان من المبكر الحديث عن انعطافة مصرية من الغرب نحو الشرق، فإنه يمكن القول إن ما تكشف للإدارة العسكرية المصرية من توافق أميركي إخواني على رعاية تجربة محمد مرسي واستمراريتها، وما كشفه الرئيس المخلوع حسني مبارك، من أن «السعودية مرة بعتت للمشير طنطاوي وعرضوا 6 مليارات دولار علشان أخرج وكانوا عايزين يعلنوا ده" كما ورد في تسجيلات صوتية نشرتها صحيفة «اليوم السابع» مؤخراً، يظهر حاجة النظام المصري الجديد إلى أن يكيف مصالحه مع  ما تطلبه من علاقات دولية وإقليمية جديدة قد تغادر جزئيا الماضي الغربي، وقد تخيب آمال أطراف كثيرة حاولت استمالتها بالمال وغيرها. لكن يبدو أن دون ذلك قد تقف عقبات عديدة سيما إذا أخذت مصر إلى مزيد من التوترات الداخلية قد يؤجج المزيد منها المتضررون من محاولة النظام الجديد تنويع خياراته وليس الاقتصار على خيار آحادي.
2013-09-25