ارشيف من :آراء وتحليلات
في ضوء التبادل الإيجابي للرسائل بين طهران وواشنطن
ليست قليلة الرسائل التي جرى تبادلها حتى الآن بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية: الرئيس الأمريكي أقرّ على الأقل بنصف المسؤولية عن وصول الأمور إلى ما هي عليه في العلاقة مع طهران، هذه العلاقة التي تنخرها أزمة ثقة عميقة. كما إنه خطا خطوتين متقدمتين إلى الإمام، يمكن القول معهما إنه خطا نصف المسافة على طريق حل أزمة الملف النووي: الأولى عندما أقر علناً، ومن أعلى منبر دولي، بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية، والثانية عندما قدم تطميناً بنفس الدرجة بأن الولايات المتحدة لا تريد إسقاط النظام في إيران. وكان لافتاً توقفه وذكره لفتوى سماحة السيد علي خامنئي المحرمة للاستخدام الحربي للطاقة النووية، في إشارة واضحة منه إلى صدق النوايا الإيرانية. كما لم يفته التغزل بالشعب الإيراني وإمكاناته الثقافية والعلمية... الخ.
وفي الوقت نفسه، احتفظ أوباما بـ "لا" واضحة وحاسمة برفض واشنطن للسلاح النووي في الشرق الأوسط، وبـ "لا" حاسمة لاستخدام أو حيازة أسلحة الدمار الشامل من كيميائية وسواها. وأضاف إليها "لا" ثالثة تخص موقف كل من إيران وروسيا من الرئيس الأسد عندما دعاهما إلى التخلي عنه. هذه اللاءات ليست صادمة ولا تتعارض أصلاً مع اللغة الايجابية والجادة كما يبدو من إيران، فهي كانت وما زالت تشكل ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة عموماً، كما يجب أن لا تنسى أنه في خضم أي عملية تفاوض لا يلغي أحدٌ ما لديه من أوراق وأسلحة بالمجان.
في المقابل، لم تكن طهران أقل ايجابية، فهي أعلنت، ومن موقع تمسكها بحقوقها، أنها مستعدة لكل شفافية ممكنة من شأنها أن تؤدي إلى بناء الثقة المتبادلة، إضافة إلى ما أعلنته من مواقف تؤكد رفضها الشرعي والأخلاقي وبالتالي السياسي لإنتاج أسلحة دمار شامل وفي طليعتها السلاح النووي. وأكثر من ذلك، ولإظهار الجدية الحاسمة طالب الرئيس روحاني بإيجاد حل لأزمة الملف النووي ضمن سقف زمني لا يتجاوز الثلاثة أشهر، وليس سنوات، ما يعني الدعوة إلى عقد جلسات مكثفة ومستمرة لوضع الحلول للنقاط التي ما زالت عالقة في هذا الملف، وهي نقاط لا يبدو أنها ستكون صعبة إذا ما حسنت النوايا الأمريكية والغربية عموماً. ثم، إن الدبلوماسية الإيرانية، ومنذ تسلم روحاني رئاسة الجمهورية، وهي تحاول مسح الغبار الكثيف الذي ألحقته الدعاية الغربية، وأعانت عليه بعض العثرات السياسية الإيرانية التي وضع فيها بعض المسؤولين الإيرانيين، وبالتالي العمل الجاد على تقديم صورة مختلفة لا يمكن فصلها بأي حال عن المحاولات الصادرة عن كل الأطراف لإيجاد مناخ جديد. فثمة محاولة مشتركة ـ كما يبدو ـ أمريكية وإيرانية لإقامة نوع من ربط نزاع يسمح بوضع ملف العلاقات بين الاثنين على طاولة البحث الجاد في مناخ لا يسوده التوتر والتهديد.
يمكن القول، إن هناك جدية غير مسبوقة لوضع ملف العلاقات بين الاثنين في مسار المعالجة الصعبة والمعقدة، نقول صعبة ومعقدة لاعتبارات كثيرة، أبرزها:
أولاً: اعتراف الاثنين ـ وهو اعتراف تؤكده حقيقة التاريخ ـ بوجود أزمة ثقة عميقة بمعزل عن درجة مسؤولية كل طرف فيها. والخروج من أزمة الثقة لا يقف عند حدود الكلام، وإنما يتطلب مواقف وإجراءات ملموسة تؤكد حسن نوايا كل طرف. وهنا تبدو المنهجية الإيرانية واقعية إلى أقصى الحدود، حيث تطالب بالتبادلية القائمة على معادلة كل خطوة بخطوة تساويها في المقدار والحجم.
ثانياً: إن بين الاثنين ملفات كثيرة شائكة وصعبة تشمل تقريباً كل منطقة الشرق الأوسط، بدءاً من القضية الفلسطينية والموقف من الكيان الإسرائيلي وتمر بالعراق وسوريا وأفغانستان وصولاً إلى أفريقيا. يصعب في الحقيقة إيجاد منطقة حيوية في الشرق الأوسط لا يوجد فيها تصادم بين واشنطن وطهران، أو لا يوجد فيها تشابك وتداخل وتصادم وربما تلاقي مصالح. إلا أن أبرز هذه الملفات تبقى:
أ ـ ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ب ـ الملف السوري.
وفي كلا الملفين للكيان الإسرائيلي حضور وموقع ودور أساسي، في حسابات السياسة الأمريكية.
ثالثاً: هناك ملف الخاص بحلفاء أمريكا في المنطقة، والمقصود هنا تحديداً الإمارات الخليجية وعلى رأسها النظام السعودي. إن حجم التصادم والتوتر هنا كبير إلى أقصى الحدود.
صحيح، أن هذه الملفات ذات عناوين وأسماء مختلفة، إلا أنها في العمق متداخلة ومتشابكة.
بناءً عليه، ومع فرض أننا نشهد بداية انطلاق لمسار تنقية العلاقات مع الغرب عموماً وأمريكا تحديداً، والذي يراد له أن يمر من باب حل أزمة الملف النووي ـ الإيراني، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: هل يمكن حل أزمة هذا الملف، بمعزل عن باقي الأزمات، أم أننا سنكون في مواجهة طاولة تفاوض تستند إلى مبدأ السلة الشاملة؟
إذا أمعنا النظر اليوم، نجد أن لكل أزمة ما يشبه طاولة تفاوض خاصة:
أولاً: مؤخراً عاد الأمريكي ليحرك بزخم ما عملية التفاوض على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وحتى أوباما لم يفته الكلام عن أن لا حل إلا حل الدولتين. الدافع الأمريكي يتجاوز هنا فقط مجرد اغتنام الفرصة، بل هو يريد استخدام الحل في سياق اشتباكه الأكبر مع إيران، وذلك من خلال حرمانها إحدى أوراقها الكبيرة في المنطقة.
ثانياً: هناك جنيف-2 الذي يبدو أن العمل على عقده حثيث وقوي، وهو خاص لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
ثالثاً: هناك مجموعة دول 5+1 الخاصة بالتفاوض مع إيران حول ملفها النووي.
رابعاً: هناك الترتيبات التي تعمل لإقفال ملف أزمات كبيرة في الخليج كأزمة اليمن.
إن هذه المسارات التفاوضية قد تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، إلا أنها في الحقيقة والعمق متواشجة، ما يسمح بالخروج باستنتاج ولو أولياً، أننا نشهد ـ كما يبدو ـ بداية انطلاق زمن التسويات الذي طال انتظاره، والذي بدا أنه أصبح أكثر إلحاحاً بعد إدراك الجميع أن المراوحة من شأنها أن تدفع إلى حرب شاملة لن تكون في مصلحة أحد، ولذا نشهد هذه العملية المتواصلة لتركيب أكثر من طاولة تفاوض في آن واحد، ليتم لاحقاً تجميع الحلول ومن ورائها صورة المنطقة في ضوء واقع دولي وإقليمي جديدين يستند إلى توازن قوى ومصالح جديدة، إلا أن هذا لا يعني أننا أمام مسار سلس وسهل، بل هو معقد، وقد يكون ساخناً في محطات كثيرة، إلا انه مسار يبدو للمرة الأولى واعداً، وإن كانت العبرة النهائية بالنتائج، فإلى مزيد من الانتظار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ