ارشيف من :ترجمات ودراسات
قصة تفاهمات بوش الأب مع شارون حول الاستيطان
حلمي موسى / السفير
أثارت «التفاهمات الشفوية» مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، التي تحدث عنها المسؤولون الإسرائيليون في عهد أرييل شارون الكثير من النقاشات حول تغيير الموقف الأميركي بشأن المستوطنات. وتعامل الكثيرون مع هذه التفاهمات على أنها حقيقة قائمة إلى أن نشب الخلاف مؤخرا بين إدارة الرئيس باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية. وفيما شكك مسؤولون أميركيون، في البداية، بوجود مثل هذه التفاهمات، وتأكيد المستشار السابق لشارون، دوف فايسغلاس وجودها، اضطرت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للإعلان أن لا وجود لمثل هذه التفاهمات. بل أن إدارة أوباما ذهبت أبعد من ذلك وقالت أنها ليس فقط لم تتلق أية إشارة حولها من إدارة الرئيس جورج بوش بل أنها علمت منه، بعد سؤاله، أنه يعارض تفاهمات كهذه.
وقد دفع هذا السجال المراسل السياسي لصحيفة «هآرتس» ألوف بن لمحاولة استجلاء حقيقة هذه التفاهمات. وكتب أن مشروع إسرائيل الاستيطاني كان على الدوام نقطة احتكاك دائمة مع الولايات المتحدة التي رأت فيه عقبة أمام السلام. وقد حاولت إسرائيل في السنوات الأخيرة التوصل إلى تفاهم مع واشنطن يسمح لها بمواصلة توسيع المستوطنات من دون الخوف من غضب أميركي. واليوم يطالب الرئيس أوباما بالوقف التام للاستيطان فيما يصر نتنياهو على مواصلة السير على خطى سلفيه في عهد بوش، أرييل شارون وإيهود أولمرت، في تطوير «الكتل الاستيطانية» .
وأشار بن إلى أن الخلاف مع أميركا حول المستوطنات بلغ ذروته في عهد حكومة اسحق شامير في العام 1992. حينها طلبت إسرائيل من أميركا ضمانات قروض لتمويل استيعاب المهاجرين الروس. واشترطت إدارة بوش الأب منح هذه الضمانات بالتجميد التام للمستوطنات. ورفض شامير ذلك وأصرت الإدارة الأميركية على موقفها. ولكن خليفة شامير في الحكم اسحق رابين أبلغ بوش الأب بأن إسرائيل ستكمل فقط الوحدات السكنية التي بدأت بناءها وستواصل «النمو الطبيعي» للمستوطنات في غور الأردن ومحيط القدس بوصفها «مناطق أمنية». وحينها نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن النمو الطبيعي يشمل زيادة غرف في بيوت قائمة وإنشاء طرق وبنى تحتية.
وأفلح رابين، حسب بن، في التمييز بين «مستوطنات أمنية» قريبة من الخط الأخضر و«مستوطنات سياسية» في داخل الضفة الغربية. وسرعان ما تدحرج هذا التمييز نحو التمييز بين «الكتل الاستيطانية» و«المستوطنات المنعزلة». ولم يتم تحديد موضع دقيق للكتل الاستيطانية، ولكن كان يفهم أنها معاليه أدوميم وغوش عتسيون ومستوطنات «غلاف القدس» وأرييل حيث يسكن أغلب المستوطنين وهي الكتل التي تنوي إسرائيل ضمها إليها في أية تسوية مستقبلية في مقابل أراض بديلة تسلم للفلسطينيين.
ويبين المراسل السياسي لـ«هآرتس» أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، التي خلفت إدارة بوش، حافظت على التفاهمات بشأن «النمو الطبيعي» وفي اتفاق أوسلو الذي أبرم العام 1993 تعهد الطرفان بالامتناع عن أية خطوات تخلق وقائع أمام التسوية النهاية. ولكن إسرائيل زعمت حينها أن هذا التعهد لا يتعلق بالبناء في المستوطنات. وهكذا ارتفع عدد المستوطنين بشكل هائل في «سنوات أوسلو» حتى نشوب الانتفاضة الثانية أيلول العام 2000. ومع بدء الانتفاضة وافق كلينتون على طلب الرئيس ياسر عرفات إرسال لجنة تحقيق دولية برئاسة جورج ميتشل لفحص أسباب الأزمة. وخلص تقرير هذه اللجنة في أيار 2001 إلى مطالبة الفلسطينيين بوقف العنف ومطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان. وكانت التوصية بشأن الاستيطان قاطعة: الوقف التام للبناء في المستوطنات بما في ذلك لأغراض «النمو الطبيعي».
وأعلن أرييل شارون قبوله تقرير ميتشل لكنه سعى للتفاهم مع إدارة بوش حول استمرار الاستيطان. وعرض وزير الخارجية في حينه شمعون بيريز صيغة على نظيره كولن باول: بدلا من «النمو الطبيعي» الذي يرفضه ميتشل تقيد إسرائيل البناء في المنطقة المبنية. وفي حزيران 2001 عرض شارون على الأميركيين موقف إسرائيل: عدم إقامة مستوطنات جديدة، عدم مصادرة أراض أخرى لأغراض البناء (ولكن يمكن مصادرتها لشق الطرق)، تجميد البناء خارج المناطق المبنية في المستوطنات، لكنه ربط تنفيذ هذه المبادرة بتنفيذ كل بنودها (أي تنفيذ الالتزامات الفلسطينية). وأبلغ شارون الأميركيين بأن البناء في المستوطنات يتم لـ«الأغراض الجارية».
غير أن الأميركيين في حينه أعلنوا أنه لا يوجد شيء اسمه «تفاهمات بيريز- باول» وأنهم لا يوافقون عليها.
وفي العام 2003 صيغت «خريطة الطريق» لقيام الدولة الفلسطينية. وطالبت الخريطة إسرائيل بالوقف التام للاستيطان وخصوصا لأغراض النمو الطبيعي وإخلاء المواقع الاستيطانية التي أقيمت في عهد شارون (من آذار 2001). وأبدت إسرائيل تحفظها إزاء التجميد التام للاستيطان. غير أنه في 30 نيسان 2003 وصل إلى تل أبيب سرا كلا من ستيفن هادلي وأليوت أبرامز، المسؤولين في البيت الأبيض، وقد حملهما شارون في مروحية لمشاهدة المستوطنات، واستضافهما في الأول من أيار في بيته في القدس حيث سمعا منه ومن مستشاره دوف فايسغلاس أنه من الآن فصاعدا لا مكان لـ«النمو الطبيعي» وإنما فقط «البناء داخل حدود المنطقة المبنية». وبررا الموقف بأن البناء داخل المستوطنات المبنية لا يستدعي أخذ أراض من الفلسطينيين.
وفي 16 أيار 2003 التقى فايسغلاس في واشنطن مع مستشارة الأمن القومي الأميركي آنذاك كوندليسا رايس وعرض عليها تعهدات إسرائيل: عدم إنشاء مستوطنات جديدة، عدم مصادرة أراض فلسطينية، عدم تخصيص ميزانيات عامة للبناء في المستوطنات، واستمرار البناء ضمن خط البناء القائم في المستوطنات. وحاولت الإدارة الأميركية في صيف العام 2003 إحياء العملية السياسية على أساس «خريطة الطريق» لكن المحاولة فشلت. وسارع شارون للالتفاف على مأزق التسوية بالإعلان عن إخلاء المستوطنات في قطاع غزة فطالب الأميركيون بإخلاء أربع مستوطنات أخرى في شمالي الضفة. ولكنه طالب مقابل ذلك برسالة من الرئيس بوش جاء فيها أنه ليس من الواقعي العودة للخط الأخضر «في ضوء الواقع الجديد على الأرض، وفيه مراكز سكانية إسرائيلية قائمة». وقد أعطت إسرائيل تفسيرا لهذه العبارة يفيد بأن بوش يعترف بالضم المستقبلي للكتل الاستيطانية إلى إسرائيل. لكن الصياغة الأميركية كانت حذرة وأشارت إلى «مراكز قائمة» وليس إلى البناء المستقبلي.
وإلى جانب رسالة بوش أرسل فايسغلاس رسالة لرايس تحدث في بندها الأول عن «القيود على نمو المستوطنات» وجاء فيها: «ضمن المبادئ المتفق عليها للنشاط الاستيطاني، ستبذل الجهود لتحديد أفضل لخط البناء في مستوطنات يهودا والسامرة». وبحسب تفسير فايسغلاس فإن هذه الرسالة تشهد على وجود موافقة أميركية على البناء الإضافي إذا تم داخل المنطقة المبنية أصلا.
وقرر فايسغلاس ورايس تشكيل طاقم مشترك يرسم خط البناء «الخط الأزرق» في كل واحدة من المستوطنات القائمة. ولكن الخلافات دبت في الطاقم حول سبل رسم الخط. إذ طالب الأميركيون بقصر الأمر على الكتل الكبيرة مفترضين أن المستوطنات خارجها سيتم إخلاؤها في حين أرادت إسرائيل رسم الخط في المستوطنات المنعزلة فقط. وتخلى الأميركيون خريف العام 2004 عن رسم الخط.
وقبل تنفيذ خطة الفصل في غزة أبلغ فايسغلاس رايس بأن إسرائيل ستبني في الكتل الاستيطانية خارج خط البناء القائم ولكن بشرطين: البناء على مقربة من المنطقة المبنية ووفق العرض والطلب في السوق المحلية. أما في المستوطنات المعزولة فيبقى البناء داخل الخط القائم. إسرائيل اليوم تقرر أن هذا هو التفاهم. أميركا تنفي وجود هكذا تفاهم.
في العام 2007 جرت محاولة أميركية لترميم العملية السياسية عبر مسار أنابوليس. وحاول الأميركيون إفهام إيهود أولمرت قواعد البناء في المستوطنات. وأبلغ أولمرت الأميركيين أن البناء خارج الخط الأخضر ينقسم إلى أربع مناطق: القدس التي ترفض إسرائيل أي تقييد للبناء فيها، الكتل الاستيطانية التي ستبني فيها خارج خط البناء القائم ولكن غير بعيد عنه، المستوطنات خارج الكتل والتي يتم البناء فيها داخل المنطقة المبنية، وهناك أخيرا المواقع الاستيطانية غير المرخصة والتي سيتم إخلاؤها.
وبعد مؤتمر أنابوليس سمح أولمرت ببناء مئات الوحدات السكنية خارج الخط الأخضر. وكان الرفض الأميركي ضعيفا تمثل في موقف رايس القائل بأن «هذا غير مفيد» للعملية السياسية. وفهمت إسرائيل أن هذه موافقة أميركية صامتة. واليوم يحاول نتنياهو مواصلة البناء في الكتل الاستيطانية وفق صيغة شارون وأولمرت.
يقول بن أن شارون أخلى 25 مستوطنة من أجل أن يقيم تفاهما مع أميركا وأولمرت وافق على حل الدولتين في حين أن نتنياهو يريد التفاهم مع أميركا من دون أن يدفع شيئا في المقابل.