ارشيف من :آراء وتحليلات

فرصة أكيدة وسط أخطار وتهديدات محدقة

فرصة أكيدة وسط أخطار وتهديدات محدقة

تبادل التحايا السياسية بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية الذي شهدناه في الأمم المتحدة ليس ابن ساعته، وإنما جاء تتويجاً لمجموعة الرسائل المتبادلة بين الطرفين التي سبق أن حملها مؤخراً السلطان قابوس أثناء زيارته الأخيرة إلى إيران، وكذلك فعل الأمر نفسه السفير السابق ومعاون أمين عام الأمم المتحدة جيفري فيلتمان. وكان قد سبق ذلك أيضاً رسائل مختلفة حملها الأميركيون إلى إيران مظهرين فيها الاستعداد للحوار كما أكد ذلك سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي في إحدى كلماته خلال الأشهر الأولى من هذا العام عندما كشف عن أن إرسال الأمركيين رسائل إلى طهران بطرق مختلفة ومتنوعة يقولون فيها: تعالوا نتحاور بشأن الملف النووي ـ تعالوا لنقيم إلى جانب المفاوضات 5+1 مفاوضات ثنائية حول الملف النووي..." مؤكداً في الوقت نفسه عدم تفاؤله وعدم ممانعته: "لست متفائلاً بمثل هذه المفاوضات... لكني لا أعارض في الوقت نفسه".


وهذه ليست المرة الأولى التي يعقد فيها الأميركيون والإيرانيون لقاءات ثنائية، فلقد سبق ان شاركت طهران في مؤتمر بون الشهير حول أفغانستان الذي عقد في شهر تشرين الثاني في عام 2001 على مستوى معاون وزيري الخارجية، كما جرت مفاوضات بين سفيري البلدين في العراق عام 2007.

إذن، ليست المفاجأة في نفس التطور، وإنما في توقيته وسياقه السياسي الذي يحمل أكثر من دلالة:

أولاً: إن تبادل التحايا جاء في ظل مناخ بالغ التوتر بين الطرفين لامس حد إمكان اندلاع حرب شاملة في المنطقة على أثر ما عرف بأزمة استخدام السلاح الكيميائي في الحرب الدائرة في سورية، ومسارعة واشنطن إلى اتهام النظام بها، وإعلانها الاستعداد الكامل لشن حرب مباشرة ضده.

فرصة أكيدة وسط أخطار وتهديدات محدقة

لقد كان كل شيء يوحي بأن الحرب واقعة لا محالة، وعلى الأقل لا تراجع في قرار إدارة أوباما القاضي بالتشدد وإقفال نافذة الحلول الدبلوماسية مع إيران، وهنا تحديداً يكمن عنصر المفاجأة الصادمة لكل من الكيان الإسرائيلي والنظام السعودي اللذين ما فتئا يراهنان على الحلول العسكرية بما فيها ضد إيران.

ثانياً: لقد استندت الاستراتيجية الأميركية في مواجهتها مع إيران إلى جملة عناصر مركزية أبرزها:

أ ـ انتزاع أو إضعاف مراكز القوة والنفوذ والتأثير الإيراني في المنطقة خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى الورقة الفلسطينية. إن الهدف غير المباشر من وراء تحريك المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية يتمثل بانتزاع ما يعتبره الأميركيون والصهاينة والأنظمة العربية التي تدور في فلكهم الرافعة المركزية لدور إيران في المنطقة، خصوصاً موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية، وإصرارها على اعتبار الكيان الإسرائيلي كياناً غير شرعي. ولقد بات من المسلم به أن واحداً من الأهداف المركزية للحرب الدائرة في سوريا، ولاستهداف حزب الله في لبنان، والواقع السياسي الحالي في العراق، هو ضرب عناصر قوة ونفوذ إيران في المنطقة.

ب ـ تحويل وجهة الصراع في المنطقة عن الكيان الإسرائيلي باتجاه إيران بالاعتماد على تحويل الصراع من صراع سياسي إلى صراع مذهبي. لقد بات شعار أدوات أميركا من أنظمة ودول لا سيما الخليجية منها هو أن إيران هي العدو لا الكيان الإسرائيلي.

ج ـ محاولة توظيف المتغيرات في العالم العربي لا سيما بعنوانها الإسلامي ـ السياسي في سياق استراتيجيتها الهادفة إلى احتواء إيران وإضعافها.

د ـ شن حرب لا هوادة فيها أمنية وديبلوماسية وإعلامية واقتصادية لإضعاف وإيذاء إيران من الداخل.

وهذه الاستراتيجية المركبة شكلت في الحقيقة بديلاً أو تعويضاً عن فشل الحروب المباشرة في تموز عام 2006 في لبنان ضد المقاومة، وفي عامي 2008 ـ 2009 ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، وعن تقييد حدود القدرة الأميركية على شن حروب مباشرة جديدة في المنطقة.

كخلاصة يمكن القول إن الهدف المركزي لهذه الاستراتيجية كان يتراوح بين حد أقصى يتمثل بإسقاط النظام لا سيما من خلال توظيف نتائج هذه الاستراتيجية في الداخل الإيراني، وحد أدنى يتمثل بدفع إيران للإتيان مذعنة إلى طاولة المفاوضات.

ثالثاً: إن هذه الاستراتيجية اصطدمت بجملة عوائق وعقبات ذاتية وموضوعية حالت دون أن تؤتي ثمارها المطلوبة، وأكثر من ذلك، فإنها في أكثر من محل ارتدت على أصحابها.

إن أبرز هذه العوائق والعقبات، هي:

أ ـ ذاتياً بدت واشنطن مقيدة بأولوياتها الداخلية والخارجية حيث لعامل الوقت فعله الكبير، هناك الأزمتان المالية والاقتصادية اللتان تحكمان الخناق على إدارة أوباما. وهناك محذور الانزلاق إلى حروب مباشرة لا سيما في المنطقة من شأنها أن تكون مدمرة للاقتصاد الأوربي بالدرجة الأولى، والأميركي بدرجة ثانية.

يضاف إليها الاستحقاقات الداهمة وفي طليعتها مواجهة التحديات الجديدة في المنطقة، والتي بدأت تخرج عن السيطرة، ما أوقع واشنطن في حالة إرباك كبيرة، كما هو الحال مع مصر، وكذلك الاستحقاق الخاص بالانسحاب من أفغانستان في العام المقبل.

ب ـ فشل رهانات واشنطن وحلفائها، هذه الرهانات التي كانوا يعولون عليها لإضعاف إيران والإطباق عليها: التحالف مع الأخوان سرعان ما سقط مع سقوط هؤلاء ـ النظام في سوريا صمد وتمكن من اتخاذ زمام المبادرة، وعكس النتائج لمصلحته ـ حزب الله صمد وأكثر من ذلك تنامى دوره الإقليمي على نحو غير مسبوق ـ لم تتمكن كل الحرب الأمنية في العراق من قلب المعادلة حتى الآن ـ ممارسة اللعبة المذهبية بالاعتماد على القوى التكفيرية الإرهابية بدأ يرتد على أصحابه منذراً بخطرٍ لن يكون أحد بمنأى منه.

ج ـ صمود إيران وثباتها وإصرارها على المواجهة، وتمكنها من مقارعة خصومها في المناطق المحسوبة عليهم أو خلف خطوطهم العاملة. كما تمكنت إيران من إقفال ثغراتها الداخلية، مستعيدة وضعاً متماسكاً وصلباً غير مسبوق جرى التعبير عنه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي حملت الدكتور حسن روحاني إلى سدة الرئاسة. كما أن إيران نجحت في تحويل التهديدات إلى فرص، ونجحت في إيجاد فرص جديدة، كما نجحت في سلوك مسار تطوري علمي وتكنولوجي بالغ الدلالة.

د ـ صعود الدور الروسي مدعوماً بالصين ومجموعة البريكس حيث برهنت موسكو عن ندية كبيرة على الصعيد الدولي، يضاف إليه بروز معطيات صلبة لصياغة تشكيلات اقتصادية وسياسية دولية ـ إقليمية تؤسس لقدرة على التنافس والمواجهة مع الغرب عموماً والولايات المتحدة تحديداً.

هـ ـ ظهور تمايز عبر عن نفسه في أكثر من محطة بين الكيان الإسرائيلي وإدارة أوباما سواء فيما يعني الملف النووي ـ الإيراني، أم فيما يعني الأزمتين الفلسطينية والسورية، وفيما يعني أيضاً العلاقة بحركة الأخوان المسلمين.

كل ما تقدم، فرض على واشنطن مقاربة مختلفة لعلاقتها بإيران دفعها إلى الاقتناع بان وقت إنجاز التسويات قد حان معها بدءاً من الملف النووي.

وفي المقابل، فإن إيران المدركة لحجم التحديات المحيطة بها، ولحجم الأخطار التي باتت مهيمنة على المنطقة بفعل النفخ في أتون الحروب المذهبية المدمرة للمجتمعات، وللعلاقات بين الدول، والدافعة بالقضايا المركزية إلى أسفل الاهتمامات (القضية الفلسطينية)، والمدركة أيضاً لمغزى الحروب المنتشرة في بيئتها الاستراتيجية، رأت أيضاً أن الوقت الحالي هو الأنسب لرد التحية بمثلها.

إن لإيران مصلحة حيوية في إبطال أسباب أي حرب شاملة، وفي إيجاد الظروف الملائمة لإطفاء الحروب المشتعلة، وفي إفساد البيئة الملائمة لتوليد العنف المذهبي ـ التكفيري الإرهابي.

باختصار، ثمة تقاطع مصالح ليس قليلاً بين الإثنين أخذ يتشكل مؤخراً، لا سيما وأن واشنطن من جهتها تحاذر الحرب ولا تريدها في هذه الظروف، كما أن حربها مع الإرهاب ما زالت مفتوحة.

ولا بد هنا من نقطة بداية يتم الانطلاق منها، ونقطة البداية هذه هي الملف النووي لأنه يبقى الأسهل منظوراً إليه في ذاته، ذلك أن كل التعقيدات الخاصة بهذا الملف كانت تأتي من محاولات واشنطن والعدو الإسرائيلي ربطه بباقي ملفات المنطقة لا سيما ملف المقاومة والموقف من القضية الفلسطينية.

ويبدو أن تراجع مكانة هذه القضية عملياً، والظروف الصعبة والمعقدة التي باتت تعيشها المقاومة الفلسطينية بعد القفزة غير المحسوبة لبعض فصائلها إلى أحضان عرب أميركا من الخليجيين، يساعد على تحييدها على الأقل الآن.

كما أن الأزمة السورية بات لها سياقها الخاص، ومساعيها الدبلوماسية الخاصة، وكذلك طاولة المفاوضات الخاصة بها، وأما باقي الملفات، فهي تشكل نوعا من الترددات لحال هذه الأزمات حلاً أم استمراراً في الصراع.

هذا كله يجعلنا أمام فرصة حقيقية لطي صفحة الملف النووي، إلا أنها فرصة دونها محاذير وصعوبات وأفخاخ، يمكن تجاوزها إذا ما حسنت النوايا الأميركية.

وفي مطلق الأحوال، فإن الأشهر القادمة من شأنها أن تبين حقيقة الخط البياني الذي ستسير عليها المفاوضات، ومعه كامل الخط البياني في المنطقة.

إن المسار الذي سيتخذه هذا الخط لن يكون سهلاً، وهو إذا ما كتب له أن يشق طريقه فسيشقها وسط المزيد من النار التي سيعمل المتضررون على إشعالها أو إذكائها حيث يستطيعون، وهذا ما يجب التنبه إليه بعناية.
2013-10-04