ارشيف من :آراء وتحليلات
الأبعاد الداخلية والخارجية لأزمة الإدارة الاميركية
تعيش الادارة الاميركية حالة أزمة شاملة أشبه بالحصار، وتبدو أزمتها غير قابلة للحل داخليا، وبدون استراتيجية عالمية خارجيا.
وكان أيمن الظواهري قد قال إن سحق القوة السياسية والعسكرية لاميركا يمكن ان يتم عبر الاف العمليات الصغيرة التي تؤدي الى بلبلة وإخافة اميركا، وإجبارها على تبديد مواردها على الاجراءات الأمنية. ولكن الأحداث الأخيرة بينت ان واشنطن ليست بحاجة الى قوة خارجية من اجل تقويض نفوذها الدولي وقدرتها الاقتصادية.
فالاغلاق الجزئي لاجهزة الادارة الفيديرالية بدءا من 1 تشرين الاول/اوكتوبر بسبب أزمة الخزينة، والمأساة المالية الجديدة التي تلوح في الأفق، والمرتبطة بمأساة الرفع الجديد لسقف الدين العام، هي بعض المآسي التي تواجهها أميركا، التي تدفع جميع بلدان العالم لأن تنظر بقلق، واحيانا بشماتة مكشوفة، الى ما يحدث في القوة العالمية الأعظم. وقد بدأ ليس فقط المناوئون من معسكر المحافظين، بل والمؤيدون للرئيس باراك اوباما يتحدثون عن انحداره المحتم وما يرافقه من أضرار في السمعة العالمية لأميركا. ان التقلبات في الموقف من الأزمة السورية، والموقف غير الواضح من الهزات في العالم العربي ولا سيما في مصر، تبلبل وتضايق اقرب المقربين الى أميركا. وعلى خلفية هذه الصورة ألغت رئيسة البرازيل زيارتها الرسمية المقررة لأميركا. كما ان الآمال الكبيرة التي علقت على انعاش العلاقات الاميركية ـ الايرانية لم تتوصل إلى ابعد من محادثة تلفونية، بدلا من لقاء شخصي، بين رئيسي البلدين.
"لاول مرة منذ نهاية الحرب الباردة يصبح نفوذنا العالمي موضوع شك"، هذا ما كتبه كارل ميتشوم، مدير برنامج اميركا في المركز الواشنطني Center for Strategic and nternational Studies.
في الحقيقة توجد طريقتان للنظر الى الضعف الحالي وانخفاض المطامح لدى اميركا:
الازمة انعكست على برنامج السياسة الخارجية
ـ الاولى هي الاعتراف بأن المجريات السياسية في أميركا كانت دائما حبلى بالتناقضات، والمعارك الداخلية انتقلت الى الساحة الدولية، والدبلوماسية كانت بعيدة عن ان توصف بالمستقيمة والمبدئية.
ـ الثانية، كما يشير أكثر المحللين، هي الاعتراف بأن أغلبية المشكلات متولدة من افتقاد واشنطن لاستراتيجية للعالم المعولم.
ليس من جديد
"عندما ينظر العالم الى ما يحدث هذه الأيام، كيف له ألا يفكر بأن نظامنا السياسي هو متطرف، وأن بلادنا هي على الأغلب في حالة انحدار؟"، كتب معلقا في مقالة له رئيس تحرير مجلة Foreign Policy دايفيد روكفلر. كما كتب وزير الدفاع الاميركي السابق ليون بانيتا مقالا في جريدة Washington Post قال فيه "بدون مواربة ان الاميركيين انفسهم بدأوا يفقدون الثقة بدولتهم، اما المجتمع الدولي فأخذ ينظر الى القوة الأميركية العظمى على أنها بدأت تفقد قدرتها على الفعل". وعلقت الجريدة الالمانية Sueddeutsche Zeitung بالقول إنه في حين يجري التنازع حول الميزانية في واشنطن، فلا احد يدري اذا كانت اميركا بعد بضعة اسابيع ستكون قادرة على الدفع، وقد اصبح من الواضح تماما انها أفلست سياسيا.
ومهما بدت هذه التحليلات متشائمة في نظر البعض، إلا أنه يوجد فيها مقدار كبير من الحقيقة. والنزاعات المتواصلة في الكونغرس تبدد طاقة واشنطن وتقوض برنامجها للسياسة الخارجية. ومثال قريب ملموس على ذلك، هو كيف ان إغلاق المؤسسات الفيديرالية قطع بشكل ملحوظ الجولة التي كان الرئيس باراك اوباما يزمع القيام بها الى شرقي آسيا، التي كانت جزءا من المخطط الطموح لتوجيه الاضواء العالمية نحو الشرق.
وحتى مبادرات يدعمها العالم المتمدن بأسره، مثل اتفاقية تنظيم تجارة الاسلحة (ATT)، برعاية الامم المتحدة، اصبحت فجأة موضوعا للمناقشة الحادة داخل أميركا. والسبب هو ذعر الشركة الوطنية الأميركية للاسلحة النارية (NRA)، من ان ذلك قد يؤدي الى اجراء تعديلات في التشريع الاميركي. وكان وزير الخارجية الاميركية جون كيري قد وقع فعلا قبل عشرة ايام اتفاقية (ATT)، ولكنه ليس من المؤكد إذا كان الكونغرس سيصادق عليها. وبدون مشاركة أميركا فإن الاتفاقية تصبح بلا معنى.
ولكن ضمن هذه الاجواء التشاؤمية، تنطلق بعض الاصوات التي تقول إنه لا يجب المبالغة في تأثير النقاشات الحامية والتلويح المتبادل بالقبضات في واشنطن. وفي هذا الصدد فإن دانييل هاميلتون، المساعد السابق لوزير الخارجية في الشؤون الاوروبية والبروفسور في العلاقات الدولية في جامعة Johns Hopkins University، يقول ان السياسة الخارجية الاميركية لم تكن يوما ثمرة لعملية سلسة ومباشرة.
ويؤكد هاميلتون "يبدو احيانا من الخارج ان رئيس الولايات المتحدة الاميركية هو اقوى سياسي في العالم. ولكن حينما ننظر من الداخل، سوف نلاحظ ان الدستور الاميركي كتبه اناس شكاكون حيال صلاحيات الحكومة. ولهذا اوجدوا نظاما من التوازن والضوابط، التي يوجد فيها فصل قوي للسلطات. نحن ليس لدينا نظام برلماني، ولهذا فإن الرئيس لا يستطيع ان يقول ببساطة للهيئة التشريعية على ماذا تصوت، كما يحدث في هذا النمط من الديمقراطية". ويضيف هاميلتون ان فرادة الديمقراطية الاميركية لا تبرر ما يحدث الآن في واشنطن، ولكن عدم فهم الأمور يقود أحيانا إلى مبالغات غير ضرورية.
احزاب انتحارية وسياسيون أصوليون
ان الاحساس بالفوضى الحالية يشتد بسبب واقع ان الاطراف التي تتخاصم ليست فقط الحزبين التقليديين، بل وايضا الجناح الاكثر تطرفا بين الجمهوريين الذي يريد ان يضغط على الحائط ليس فقط الرئيس والديمقراطيين، بل وكذلك الجناح المعتدل في الحزب الجمهوري (وأزمة الميزانية الحالية ليست سوى رأس جبل الجليد). وفي الوقت الذي يحاول فيه الاقتصاد العالمي ان يطفو فوق الركود، فمن المفهوم أن مثل هذه التصرفات تؤدي الى توتير الاعصاب الى الحد الاقصى.
الصراعات داخل الكونغرس تبدد طاقة واشنطن
ولكن كما يذكّر البروفسور هاميلتون، وبالرغم من ردود الفعل الغاضبة وإرسال 800 ألف شخص في عطلة إلزامية، فإن إغلاق المؤسسات الفيديرالية ليس شيئا لا سابق له في النظام السياسي الأميركي، وهو لا يعني أن الاقتصاد الأكبر في العالم سوف ينهار في اي لحظة. ويقول "في السنوات الـ35 الأخيرة فقط، حدث ذلك 17 مرة. ونصيحتي للقادة الأوروبيين مثلا ان يأخذوا نفسا عميقا وينتظروا".
ويضيف: من وجهة نظر واشنطن، فإن المعارك الداخلية الدائمة والتردد في الاتحاد الاوروبي ليست أكثر معقولية. وبدلا من ان يبحثوا في النزاعات الأميركية، على السياسيين الأوروبيين ان يركزوا اهتمامهم على الموضوعات الحقيقية، والتي اهمها هو الشروع في تطبيق مشروع "الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الاطلسي" (TTIP)، الذي يبشر بثورة اقتصادية في العالم الغربي.
بدون برنامج وبدون توجه
وبالرغم من هذه النظرة شبه التفاؤلية، فمن الصعب الإنكار انه يوجد شعور يقوى يوما بعد يوم، بأن القوة الاقتصادية الاعظم في العالم ليس لديها استراتيجية ثابتة كيف ستسير بالعالم المعاصر المعولم، وهي أيضا لا تقوم بإجراء مناقشة حول هذا الموضوع، وهو الأمر الاكثر اثارة للقلق.
وقد ظهر هذا التخبط بشكل خاص في الموقف من الأزمة السورية. فإدارة أوباما كانت على وشك توجيه ضربة عسكرية الى سوريا، قبل التفكير في التوصل الى حل دبلوماسي. وأوباما الذي كان قد وعد بإنهاء الحروب الأميركية، كان على وشك الشروع في حرب جديدة. وكل ذلك أدى الى المزيد من تقويض سمعة اميركا في العالم.
وكما علق دايفيد روكفلر فإن افتقاد استراتيجية كيف ستقود أميركا العالم الذي يصبح أكثر فأكثر متعدد الاقطاب يخلق الاحساس بالضعف الاميركي. ويلاحظ رئيس تحرير مجلة Foreign Policy انه مهما ادعى البيت الابيض أن التهديد بالضربة العسكرية هو الذي اجبر سوريا وايران على الجلوس الى طاولة المفاوضات، فيوجد تصور مغاير اكثر اقناعا لما حدث: "بالتأكيد هناك اساس بوجود تفاؤل معتدل، ولكن لا يمكن ان نتعجب اذا لم يكن مناوئونا واعداؤنا اصبحوا اكثر استعدادا للمحادثات مع الولايات المتحدة الاميركية، لانهم يعتبرون اننا اصبحنا اضعف، وانهم سيحصلون على صفقة افضل مما في الماضي".
كيف تم الوصول الى هذا الفراغ الاستراتيجي هو سهل التوضيح. فبعد المغامرات السياسية الخارجية لجورج بوش، فإن العهد الاول لباراك اوباما مر في محاولات اعادة الاستقرار الى الاقتصاد والانسحاب من الحرب في العراق وافغانستان. وبعد ان اخذ العبرة من ردود الفعل المغالية، فإن الفريق الحالي في البيت الابيض، وحسبما يقول رايان ليزا المعلق في مجلة New Yorker، فضل التوجه نحو اعتماد اسلوب "السياسة بالمفرق" تبعا لكل حالة على حدة. ولكن الاستقطاب الجاري في واشنطن استهلك جزءاً كبيراً من الوقت والطاقة، اللذين كان يمكن استخدامهما من اجل المناقشة في الجوهر بخصوص الاهداف السياسية الخارجية. ويحدث هذا الفراغ الاستراتيجي في وقت محدودية الموارد المالية ومظاهر التعب لدى الاميركيين من التدخلات الخارجية.
هذا وهناك اعتقاد واسع لدى اغلبية المحللين ان اميركا تقترب بسرعة من خطر الاعلان عن عدم قدرتها على الدفع (الافلاس)، بعد ان رفض جون باينور ان يطرح على التصويت مشروع القانون، الذي يسمح برفع سقف الدين العام، بدون تقديم تنازلات من البيت الابيض.
وقد استفز هذا الموقف وزير المالية جاكوب ليو الذي صرح "ان الكونغرس يلعب بالنار"، كما نشرت وكالة الصحافة الفرنسية. وفي هذا الوقت فإن لدى الحكومة بالكاد مبلغ 30 مليار دولار، من اجل تغطية نفقاتها، التي قد تصل الى 60 مليار دولار يوميا. وهكذا فإن الولايات المتحدة الاميركية هي على مشارف الافلاس، كما يتوقع وزير المالية.
والى الان لم يتوصل باراك اوباما والديمقراطيون والجمهوريون في مجلسي الكونغرس والشيوخ الى تفاهم حول ميزانية الولايات المتحدة، ما ينهي حالة الشلل التي تشمل البلاد. وقد حذر الرئيس من ان خطر الافلاس يهدد البلاد. واعلن جون باينور زعيم الجمهوريين في مجلس النواب انه لا يوجد تقدم في المحادثات، واتهم اوباما بأنه يرفض المباحثات مع الجمهوريين.
وهناك شركات انتاجية كبيرة مثل Boeing Co (BA.N) وUnited Technologies Corp (UTX.N) بدأت تعاني المشاكل لانها تعتمد على الموظفين الحكوميين في التحقق والمصادقة على منتجاتها وعلى الاموال الحكومية لتمويل نشاطاتها.
ويبدو ان الكثير من الجمهوريين يرون في شلل الحكومة الفيديرالية مناسبة للبرهنة على أن ضغط النفقات ليس في الحقيقة شيئا سيّئا، كما تقول في مقال افتتاحي جريدة "نيويورك تايمس".
في المرتين السابقتين اللتين تم فيهما ايقاف عمل الحكومة في 1995 و 1996، تكلفت الخزينة 1.4 مليار دولار، ما يساوي 2.1 مليارين بأسعار اليوم، كما تقول الجريدة.
وعبرت شخصيات بارزة في وول ستريت عن المخاوف المتزايدة من ان تصل اميركا الى حد الاعلان عن عدم القدرة على خدمة الدين العام على خلفية الجمود الحاصل في الكونغرس، كما تقول جريدة "فايننشال تايمس".
اما جريدة "واشنطن بوست" فعلقت قائلة ان ايقاف عمل الحكومة يهدد الامن القومي لاميركا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل