ارشيف من :آراء وتحليلات

مأساة الهجرة السرية ووهم جنة الرأسمالية

مأساة الهجرة السرية  ووهم جنة الرأسمالية
شهدت الفترة الماضية عدة أحداث مفجعة على صلة بموضوع الهجرة السريّة. فقد غرق عشرات اللبنانيين هم يحاولون اجتياز المحيط بين إندونيسا وأستراليا. وبعدها بأيام، غرق مئات الأفارقة بين مالطا وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية. ومثل هذه الحوادث تتكرر يومياً على طرقات الهجرة الرئيسية في البحر المتوسط والبحر الكاريبي والصحراء الإفريقية والمعابر السرية بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، وتؤدي إلى وفاة أكثر من ألف شخص سنوياً.

وقد ترددت روايات مفادها أن غرق أحد المراكب أمام لامبيدوزا قد نجم عن نيران أطلقت عليه من قبل خفر السواحل الليبية أو بعض العصابات التي تعمل في مجال تهريب المهاجرين والإتجار بالبشر. كما وجهت الحكومة الإريترية، دون إيضاحات أخرى، إصبع الاتهام مباشرة إلى واشنطن وحملت الإدارة الأميركية وعملائها المنتشرين عبر العالم كامل المسؤولية عن هذه الكارثة.
هذا القدر من المعطيات يبدو كافياً لإقناعنا بأن ظاهرة الهجرة السريّة، أو غير الشرعية هي ـ كالكثير كغيرها من الظواهر التي تحتل الصدارة على مسرح السياسة الدولية ـ  كالإرهاب، وحقوق الإنسان، والتنمية، واحد من المجالات التي تستخدمها الحكومات الغربية ليس فقط  من أجل تمرير سياسات الهيمنة، بل أيضاً من أجل الظهور بمظهر من يتحمل أعباء البؤس الذي يضرب البلدان الفقيرة في العالم!.  

فالفكرة السائدة عن الهجرة السرية تستند إلى اعتبار أساسي تمت صياغته بعناية في مختبرات التضليل والتسميم الإعلامي الغربي. ويقول هذا الاعتبار أن الفقر، (و/أو) الاضطهاد السياسي والحروب التي تدور في مختلف أنحاء العالم الثالث، تدفع بملايين الأشخاص الذين لا يتمكنون من الهجرة بالطرق الشرعية، إلى العمل بكل السبل الممكنة من أجل الوصول إلى أحد البلدان التي يتنعم فيها الناس بالحرية وبثمار جنة الرأسمالية (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، أستراليا).
مأساة الهجرة السرية  ووهم جنة الرأسمالية
مهاجرون لبنانيون .. الغرق في اندونيسيا!
وإذا كان هذا الاعتبار صحيحاً إلى حد بعيد، من حيث الظاهر، فإنه يتعامى في الحقيقة عن وقائع في مقدمتها الفقر والبؤس اللذان خلفتهما أعمال النهب التي خضعت لها بلدان العالم الثالث خلال قرون في ظل الاستعمار الغربي المباشر. ثم فاقمتها عقود من الخضوع لحكام وطنيين مرتبطين بالمستعمر السابق أو، في أحسن الحالات، لحكام سذج لم ينتبهوا إلى الأساليب الماكرة التي أعادت بلدانهم إلى حظيرة الاستعمار بوجهه الجديد. يكفي التذكير بالمديونيات الضخمة التي أغرقوا بها بلدانهم، أو بالتدمير المنهجي لاقتصاداتهم من خلال التطبيق الأعمى لإملاءات المؤسسات المالية الغربية... إضافة إلى الفساد الذي تمكن البعض بفضله من الإثراء على حساب الشعوب.

كما يتعامى عن حقيقة أخرى هي أن معظم البلدان الغنية وخاصة الولايات المتحدة وكندا وأستراليا هي نتاج لهجرات غير شرعية قام بها المستوطنون البيض القادمون من أوروبا والذين أبادوا السكان الأصليين وهجروا، بطرق غير شرعية، عشرات الملايين من الأفارقة السود ليستخدموهم كعبيد في المزارع والمصانع التي أقاموها في المستعمرات.

ثم إن الهجرة التي توصف بأنها غير شرعية والتي يتظاهر الغربيون بمكافحتها تتم، رغم الجدران والأسلاك والحواجز المختلفة، ورغم المراقبة بواسطة الأقمار الصناعية، بتشجيع واضح من قبل الحكومات الغربية، وبالتواطؤ مع أرباب العمل. والهدف من ذلك هو سد الفراغ الديموغرافي الناجم عن الحد من الولادات وشيخوخة المجتمعات الغربية، ولكن أيضاً لحاجة سوق العمل إلى أيد عاملة رخيصة الثمن. وتفيد الإحصاءات أن ملايين المهاجرين غير الشرعيين يستقبلون بالأحضان من قبل أرباب العمل في البلدان الغنية لأن تشغيلهم يوفر عليهم دفع الضرائب الضخمة التي يتوجب عليهم دفعها في حال تشغيل موظفين شرعيين.

وبالطبع، فإن هذه السياسة التي تقترن أيضاً بدفع إعانات مالية لمن يتم دمجهم من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، ترهق موازنات البلدان الغربية وتسهم بخفض الإنفاق الحكومي، وبالتالي، بتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان. والأكيد، أن ضعف قوى اليسار وعجزها عن طرح برامج تجذيرية يسمح للقوى اليمينية العنصرية والفاشية بتعزيز نفوذها في الأوساط الشعبية ويرفع من منسوب التوتر السياسي في الشارع.

والأكيد أيضاً، أن هذه الأوضاع المأزومة تشكل واحداً من العوامل التي تدفع بالكثير من أرباب العمل إلى الهجرة بأعمالهم نحو البلدان الفقيرة حيث يستفيدون من اليد العاملة الرخيصة الثمن وتدني الضرائب والقرب من أسواق الاستهلاك. كما تدفع بالكثير من الناس العاديين إلى الهجرة نحو البلدان ذاتها لا لهدف العمل والاستثمار، بل لهدف الاستيطان الدائم حيث يكفي رأسمال بسيط نسبياً لتأسيس حياة جديدة. ولعل كبرى المفارقات أن وصول أكثر البلدان الغربية إلى حافة الإفلاس الاقتصادي لا يشكل رادعاً للجحافل البشرية التي لا تتوقف عن اقتحام البحار على أمل الوصول إلى جنة الرأسمالية المفتوحة قريباً على مستقبل مظلم.
2013-10-20