ارشيف من :آراء وتحليلات

لماذا تصر ’إسرائيل’ على المفاوضات رغم تعثرها؟

لماذا تصر ’إسرائيل’ على المفاوضات رغم تعثرها؟

تعد المفاوضات، من ناحية "إسرائيل"، مطية لأغراض أخرى. لا أهداف في المسيرة السياسية، كما يصطلح عليها، ولا نتائج مرتقبة. وهي حقيقة لا يختلف عليها الكثير من الصهاينة، وآخر إشارة ظهرت في هذا الإطار كان استطلاع للرأي نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" المقربة من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أن الأغلبية الساحقة من الصهاينة لا تؤمن بأن المفاوضات، والجارية حالياً، ستفضي إلى نتائج، وبلغت هذه الأغلبية نسبة كبيرة جداً، وصلت إلى 83.8 بالمئة.
وقبل أن تنطلق الجولة الحالية من المفاوضات بين الجانبين، "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، وهي الجولة التي فرضتها واشنطن وباركتها "تل أبيب"، لم تصدر أي مؤشرات دالة على نجاحها، حتى من قبل المفاوضين أنفسهم.

قضايا الخلاف التقليدية، التي تبحث على طاولة التفاوض في العادة، مركزة تحديداً على أربع: القدس، المستوطنات، اللاجئين، وحدود الدولة الفلسطينية العتيدة. والقضايا الأربع، كما هو واضح ولا لبس فيه، مرفوض التطرق إليها "إسرائيليا": القدس بشطريها موحدة وعاصمة أبدية لـ "إسرائيل"، والاستيطان حق مقدس لا يمكن التنازل عنه، في حين ان عودة اللاجئين الفلسطينيين بند ممنوع الحديث عنه، اما حدود الدولة الفلسطينية، التي أعلنت "تل أبيب" أنها موافقة عليها بشروط، فلا يمكن تحديدها، وبالتالي تعلن الدولة بلا حدود سياسية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: "ما الذي يدفع الأطراف إلى الجلوس على طاولة التفاوض، في ظل التعنت الإسرائيلي الواضح، والانسداد الكامل لأفق العملية السياسية؟".

لماذا تصر ’إسرائيل’ على المفاوضات رغم تعثرها؟

من جهة السلطة الفلسطينية، الجواب غير مخفي، ولا يتطلب كثيراً من التحليل والربط واستقراء المؤشرات. فأميركا قررت، والسلطة تستجيب. وهذه هي خلاصة موقف رام الله، الحالي والسابق، وأيضا اللاحق. وبالتالي لا حاجة إلى البحث والتدقيق، سواء صبت هذه المفاوضات في صالح السلطة، أو كانت مضرة لها، فالأمر سيان، مقابل الإرادة الأميركية والانسياق التام إليها.

إذاً السؤال ينصب تحديداً، حول أهداف "تل أبيب" من المفاوضات، في ظل يقينها وإرادتها أيضاً، بأنها لن توصل إلى نتائج. بل السؤال يصبح أكثر إلحاحية، على ضوء إطلاق سراح الدفعة الجديدة من الأسرى الفلسطينيين القدامى، مع انسداد الأفق أمام المفاوضين، حتى في الشكل الظاهر لها. وبمعنى أن الفرصة سنحت لـ "تل أبيب" كي تبتعد عن التزاماتها في إطلاق الأسرى ولم تتلقفها، علماً أنها في الأساس، أي "تل أبيب"، علقت عملية إطلاق سراحهم على دفعات، ربطاً بالتقدم الممكن أن ينجز في المفاوضات نفسها، وهو الذي لم يتحقق، وبالمطلق. فإلى ما ترمي "تل أبيب"؟

ابتداءاً، تجب الإشارة إلى أن عملية استئناف المفاوضات الجارية حالياً مع السلطة الفلسطينية، لم تأت نتيجة لسبب واحد ومباشر، بل نتيجة لمجموعة من الأسباب، قد يتقدم عليها فقط، سبب واحد، وهو الأهم في هذه المرحلة من ناحية "تل أبيب"، وهو ما يتعلق بتقديرات استخبارية متشائمة حول الوضع في الضفة الغربية، وإمكان اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة.

وفي المراتب الثانوية، توجد أسباب أخرى أيضاً، يطول مقام عرضها، ومن بينها ما يتعلق بالعملية الاستيطانية المستعرة في الضفة والقدس، وشرعنة هذا الاستيطان، وأيضاً تجاه صورة ومكانة "إسرائيل" دولياً، ووصول الأمر إلى حد فرض عقوبات عليها في المحافل الغربية، وأيضاً تجاه المواجهة مع إيران والتطورات المختلفة في الساحات العربية، ناهيك أيضاً، عن الوضع الداخلي في "إسرائيل"، وضرورة إطلاق المسيرة السياسية لصد محاولات زعزعة "الائتلاف الحكومي"...
الإشارة التي يجب الوقوف عندها، ان ما سهل عملية استئناف المفاوضات من قبل حكومة نتنياهو، في موازاة الحاجة إليها أيضاً، أنها تأتي بلا التزامات حقيقية من جانب "تل أبيب"، وفي أي من القضايا الأربع الخلافية المتنازع عليها، والواردة أعلاه. ولا يوحد سوى ثمن وحيد، وهو إطلاق سراح العشرات من الأسرى الفلسطينيين، وهو ما يمكن لـ "تل أبيب" أن تتماشى معه بسهولة، في ظل عشرات الآلاف من الأسرى الآخرين في المعتقلات الصهيونية، وهو ثمن يسير، قياساً بالفوائد المترتبة على الجلوس على طاولة التفاوض.

وكما يتبين، جرى ربط إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، أي العشرات منهم، بالعملية الاستيطانية الصهيونية. ورغم عدم وجود اتفاق معلن، إلاّ أن المؤشرات دلت على أن الاتفاق موجود، وأحد أطرافه السلطة الفلسطينية نفسها. والاتفاق ينص على أن إطلاق الأسرى يقابله إطلاق عملية الاستيطان، على أن يواجه هذه العملية جملة من التصريحات الشاجبة، بلا أفعال حقيقية. وهذا ما حصل بالفعل.

تمكّن المفاوضات، وهو ما حصل بالفعل، "تل أبيب" من صد إزعاج غربي أوروبي، وصل إلى حدود التهديد الفعلي ما قبل المفاوضات، بفرض عقوبات نسبية عليها، ربطاً بالعملية الاستيطانية في الضفة الغربية. وهي سابقة لا يمكن لـ "تل أبيب" أن تتعايش معها، وقد تلحق بها أضرار اقتصادية فعلية، خاصة ان اتجاه العقوبات الأوروبية كان يفرض على الشركات الدولية الكبرى أن تشترط على "تل أبيب" استثمارها وما ينتج عن استثمارها، لا يمكن أن يستفاد منه في المستوطنات، وبمعنى تخيير "إسرائيل" بين "مبادئها" حيال الاستيطان، أو رفض الاستثمارات الأجنبية، وهو ما كان ليشكل تحدياً غير مسبوق، كفل استئناف المفاوضات إزاحته عن جدول الأعمال الأوروبي.

اما لجهة السبب المتقدم على غيره من الأسباب، فبات واضحاً، وقبل الموافقة "الإسرائيلية" على استئناف المفاوضات، وجود تقديرات لدى الاستخبارات العسكرية ولدى "الشاباك" أيضاً، تشير إلى إمكانات مرتفعة جداً لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، تكون مغايرة تماماً للانتفاضتين الماضيتين، وأكثر شدة وأكثر امتداداً ومستوى، وبلا عنوان مسؤول عنها. وفي ذلك، أشارت التقديرات الاستخبارية إلى أن حالة التململ والغضب واليأس في صفوف الفلسطينيين، وصلت إلى حد إمكان اندلاع انتفاضة في أي لحظة، والانتفاضة لن تقتصر فقط على مواجهة المحتل، بل ستطال أيضاً السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يعني خسارة لخط الدفاع الأول عن الاحتلال.

والذي حذرت منه الاستخبارات أن المنتفضين سيبدأون انتفاضتهم بلا تخطيط مسبق، وبلا قادة يقودونها، أي أنها لن تكون محلاً للمعالجة عبر تهديد أو ردع أو مساومة لغياب المخططين لها، سواء من قبل السلطة الفلسطينية أو حركات وفصائل المقاومة على أنواعها، بمعنى أنها انتفاضة شعبية عارمة، لا يمكن إيقافها و صدها، بل ان الفصائل الفلسطينية نفسها ستكون منقادة إليها، وليست هي التي تقودها.

وتأمل "تل أبيب" أن استئناف المفاوضات، وبث الأمل لدى الفلسطينيين، قد يعطي نتائج في صد الانتفاضة العتيدة، أو بالقدر المعقول، تأجيلها إلى اماد بعيدة. وهذا تحديداً ما يفسر الإصرار على إطلاق الأسرى، رغم عدم التقدم في المفاوضات، ورغم تعثرها الواضح.

وعلى هامش فوائد استئناف المفاوضات، توجد فائدة ترتبط بالعلاقات مع الولايات المتحدة، ومسألة مواجهة التهديد النووي الإيراني، بالشكل والمضمون الذي تريده "تل أبيب" من واشنطن. إذ لا يمكن لـ "إسرائيل" أن ترفض الجلوس على طاولة المفاوضات، وتقول لا لأوروبا ولأميركا، مع التيقن من ان إطلاق المسيرة السياسية حاجة أميركية وغربية بامتياز، حتى وإن لم توصل إلى نتائج. مواجهة الغرب بـ "لا" ضد شكل وأسلوب التفاوض مع إيران، تختلف بوجود "لا" أيضاً، للجلوس على الطاولة مع الفلسطينيين. ومن هنا، فان المسيرة السياسية مع الفلسطينيين تؤمن لـ "إسرائيل" اندفاعة أكثر في رفض الحراك الغربي التسووي تجاه إيران، وتمكنها من العمل على تقليصه والحد منه، سواء نجحت في ذلك أم لم تنجح. هي مجموعة من الفوائد تجنيها "إسرائيل" من المفاوضات، ومنها ما لم يرد هنا، أما الفائدة الأكبر، فهي انها بلا أثمان حقيقية مقابلة.
2013-11-02