ارشيف من :آراء وتحليلات
الجنون واليأس كسياسة

أوصاف سياسية متنوعة أعطيت للاعتداء الإرهابي ـ التكفيري على سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان، والذي أودى بعشرات الشهداء والجرحى من المدنيين الأبرياء:"تغيير لقواعد اللعبة". "تجاوز للخطوط الحمراء". "عرقنة لبنان".. الخ. إلا أن أكثرها اختزالاً وتكثيفاً هو وصف الجنرال عون له بـ "أنه جنون اليأس"، ووصف آخرين له بـ "أنه انتحار على أبواب السفارة".
يقال في اللغة العربية: جُنّ الرجل جناً وجنوناً، أي زال عقله أو فسد، والجنون في المفاهيم القديمة الشائعة في مختلف المجتمعات هو ذاك الإنسان الذي فقد طبيعته الإنسانية وتحوّل إلى كائن خطير. والجنون في الطب النفسي الحديث عبارة عن حالة من الاضطراب المصحوب بالغرابة والشذوذ والعنف، وله أشكال مختلفة أبرزها: جنون العظمة، وفيه يشعر الشخص بأنه فوق البشر. وقد يصل به هذا الجنون إلى الاعتقاد بأن أعداءه يعرقلون مسيرته، ويتآمرون عليه، ومن واجبه القضاء عليهم. والشيزوفرانيا ويتصف صاحب هذا المرض بالغرابة في التفكير والسلوك، والهذيان والميل إلى العزلة المرضية والرفص إلى درجة العنف...الخ.
على من تنطبق هذه الأوصاف؟
لن نأتي بشيء من عندياتنا، وإنما سنعرض الوقائع كما يراها الآخرون. محرر شؤون الشرق الأوسط في "نيوزويك" كريستوف ديكي، أفرد مقالاً مطولاً على موقع "ذي دايلي بيست" عن ما أسماه "غاتسي العرب" و "سيد الجواسيس" الذي "يخوض حرب السعودية في سوريا"، بندر بن سلطان، ومما جاء فيه:"يجب أن نعرف جيداً من هو هذا الرجل وما هي مهمته لكي نتمكن من فهم أحداث المنطقة المضطربة الآن... ليس مهماً أن لا يكون هناك اتفاقية سلام بين السعودية وإسرائيل، فقد تحول بندر تلقائياً إلى حليف بنيامين نتنياهو في العداء لإيران، وها هو يكرر كلامه عن العائق الذي يشكله باراك أوباما أمام تحقيق أهدافه... لقد أوكلت إلى بندر مهمة تنفيذ برنامج سعودي واسع من العمليات السرية (...) لتدمير القوة الإيرانية في المنطقة. وهو الأمير الذي وعد ملكه العام الماضي أنه "سينهي الأزمة السورية في غضون أشهر".. وهو الذي شرح لحلفائه ولأصدقائه الأميركيين أن مهمته الأساسية، منذ توليه رئاسة الاستخبارات السعودية تشمل:"التخلص من بشار الأسد ومن حزب الله، ومنع الإيرانيين من امتلاك السلاح النووي وسلبهم أي دور أساسي في المنطقة". وهو من أفهم من عارضه في واشنطن أنه "يملك المال الكافي لتحقيق أهدافه". وهو ـ وهنا بيت القصيد ـ من يصفه بعض عارفيه في المملكة وفي واشنطن بالميّال إلى "التهور والمغالاة بالتفاؤل بما يستطيع تحقيقه". وهو كما وصفه أحد المؤرخين الأميركيين روبرت لبس بأنه "لا يخجل ولا يخشى".
ويلفت ديكي في مقاله إلى الدور الأول الذي لعبه مستشار الملك للأمن القومي حينها، بندر حيث "شجع الإسرائيليين خلف الكواليس، في حربهم ضد حزب الله عام 2006". وهو بندر نفسه الذي "باتت رؤيته للبنان منحرفة إلى درجة أنه رشح جعجع لرئاسة الجمهورية". ويخلص ديكي إلى أن بندر "يخاطر بسمعة السعودية وبمواردها مجدداً"، وذلك بسبب فشله في سوريا و "حتى في لبنان الصغير حيث هزمت إيران وحليفها حزب الله رجال السعودية".
وفي سياق متصل يذكر نيكولا بلانفورد في صحيفة كريستيان ساينس مونيتور في معرض تناوله لموضوع الاعتداء على السفارة الإيرانية بـ "التصريحات السعودية الرافضة للسياسة الأميركية تجاه سوريا وإيران، وخصوصاً بعد تراجع البيت البيض عن توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا". وينقل بلانفورد عن مصدر سعودي قوله:"أنه لا يمكن للمملكة أن تتحمل فوزاً إيرانياً في سوريا، ولذلك فهي مصممة على هزيمة الإيرانيين ودعم مسلحي المعارضة بالكامل".
باختصار تواصل السعودية مساعيها الحثيثة، الحاقدة والجنونية، لمواصلة الحرب على سوريا في سياق خطة باتت معروفة تستند بدرجة أولى على تأسيس جيش شبه نظامي يكون بديلاً للجيش الحر وللأخوان ويحظى بدعم مباشر من قوتين أساسيتين المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والكيان الإسرائيلي في المنطقة.
ومن نافل القول، أن عمدة اعتماد بندر هي المنظمات التكفيرية التي برع في تشكيلها وتجنيد عناصرها وتدريبها وزرعها في أكثر من بلد عربي وإسلامي لكي تكون جاهزة وغب الطلب لأداء الأدوار المطلوبة منها، وبالاتكاء دوماً على بيئات محلية حاضنة توفر الحضانة والغطاء السياسي والاجتماعي والديني لها.
ولقد أعلنت الرياض وعبر وسائل الإعلام عن أنها بصدد حرب شاملة تخوضها ضد إيران وسوريا وحلفائهم في المنطقة.
المجنون الآخر الرديف هو حليف النظام السعودي المباشر أي الكيان الصهيوني. الكلام عن حلف هنا ليس مجرد موقف دعائي، وإنما بات يستند إلى حقائق صلبة تضرب جذورها عميقاً في طبيعة الأهداف والمواقف والسياسات المشتركة والمتطابقة التي تجمعها، إضافة إلى اللقاءات التي باتت تعقد في مناخات شبه علنية، إن لم نقل علنية لتنسيق المواقف والخطط المشتركة.
إن دوافع الجنون الإسرائيلي هي نفسها دوافع جنون المملكة حتى لا نقول أكثر من ذلك:
ـ الفجوة الاستراتيجية التي بات يعاني منها الكيان الإسرائيلي بعد هزيمته في حرب عام 2006 والتي أودت بقدراته الردعية، وفرضت بنوداً صارمة على قدراته العسكرية.
ـ التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة بفعل مجموعة عوامل أبرزها التغيرات التي يمر بها العالم العربي وتحولات موازين القوة فيه إلى أطرافه، ومروره بحالة من السيولة والاضطراب التي لا تجعله مهيئاً لبناء سياسات ثابتة ومستقرة، كما تضعه في وضعية المفتوح على احتمالات شتى، ما يوجد حالة من عدم اليقين الاستراتيجي. يضاف إليها إعادة هيكلة العلاقات الدولية والإقليمية في ما يخص المنطقة بما يخضعها لمنظومات علاقات وتوازنات جديدة، ثم هناك الالتفات الأميركي لأولويات استراتيجية باتجاه جنوب شرق آسيا وأفريقيا. وكل ذلك يفرض تراجعاً في الأدوار الوظيفية، أو على الأقل إعادة تعريف لها بما يتناسب والأوضاع الدولية والإقليمية الجديدة إعادة التعريف هذه سينتج عنها ضمور أكبر في الوظائف القديمة.
ـ فشل الرهان الإسرائيلي في سوريا ولبنان والعراق، وهو الفشل السعودي نفسه. ومن المعروف هنا أن الكيان الإسرائيلي كان يطمح إلى إسقاط النظام في سوريا في سياق محاصرة المقاومة في لبنان، وتوجيه ضربة استراتيجية إلى إيران.
ـ لا شيء، أدعى إلى جنون الإسرائيلي والسعودي من رؤية ثلاثة أمور:
أ ـ انكسار مشروعهم في سوريا.
ب ـ جلوس إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد إلى طاولة تفاوض يرجح كثيرون خروجها باتفاق استراتيجي.
ج ـ البحث عن تسوية للأزمة السورية لا تكون على حساب النظام وتحديداً الرئيس الأسد.
لا نبحث عن تبرير للجنون السعودي ـ الإسرائيلي، وإنما عن فهم لخلفياته. وما تقدم يؤكد، أن هذا التحالف هو من يقف وراء الاعتداء التكفيري ـ الإرهابي على السفارة الإيرانية، وهو اعتداء من أفقدته خسارته وإحباطه أي توازن.. والمهم أنه لن يصل إلى شيء أكثر من المزيد من الخسارة، لأن ما كتب قد كتب.