ارشيف من :آراء وتحليلات

تركيا .. مراجعة الأخطاء!

تركيا .. مراجعة الأخطاء!
من الواضح جداً أن تركيا أطلقت خلال الاشهر القلائل الماضية إشارات ايجابية حيال العراق بعد تأزم استمر حوالي عامين. لماذا صعدت أنقرة في السابق المواقف مع بغداد، بحيث بدا واضحاً أنها تدفع بالأمور إلى الهاوية، أو قل إلى نقطة اللاعودة؟ ولماذا تراجعت الآن وراحت تعمل على تصحيح أخطائها؟.

قد لا تنتهي الأمور، ولا تكتمل الصورة عبر الإجابة عن التساؤلين الآنفي الذكر، لكن بالتأكيد يمكن أن تتوضح مجمل معالم الصورة، مع اهمية الاقرار والتذكير بحقيقة أن المشهد الاقليمي العام شهد الكثير من الفوضى والارتباك الذي ترافق مع تحولات ومتغيرات بدت دراماتيكية ومفاجئة، وكانت تركيا جزءا من ذلك المشهد، وربما كانت من بين أجزائه المهمة والمحورية لأسباب وظروف وعوامل شتى لسنا بصدد الخوض بتفاصيلها.

ولعل التوقف عند توقيت بدء التصعيد التركي ضد العراق أواخر عام 2011 شيء مهم للغاية، كما هو الحال بالنسبة للاتجاه والنزوع نحو التهدئة منذ ثلاثة شهور.

التصعيد التركي ارتبط بعدة معطيات، من بينها:

ـ تفجر وانطلاق ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" وقفز تيارات الاسلام السياسي إلى واجهة الأحداث في دول الربيع، كتونس ومصر وليبيا، وهو ما اعتبره النظام الحاكم في تركيا بهويته الاسلامية ـ الاخوانية، نصرا كبيرا له، يمكن ان يتيح له استعادة مجد الامبراطورية العثمانية بزعامة العالم الاسلامي، وانطلاقا من ذلك التفكير، وتلك الطموحات، وضعت أنقرة عدة بلدان في قائمة "ثورات الربيع العربي"، مثل سوريا والعراق، لتخضع أنظمتها للتغيير مثل ما حصل في تونس ومصر وليبيا.

ـ ظهور تحالف او تكتل سياسي اقليمي على اساس مذهبي ـ طائفي مؤلف من تركيا والسعودية وقطر، بدا لأول وهلة أنه قادر بحكم امكانياته المالية والإعلامية والمخابراتية والسياسية ان يرسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الاوسط والعالم الإسلامي على وجه العموم، يقصي منها ايران وسوريا والعراق، وكل من يصطف معها أو يدور في فلكها، وهو جوهر ما كانت ـ وما زالت وستبقى ـ تريده وتطمح اليه "اسرائيل".

ـ الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق نهاية عام 2011، وفق الاتفاقية الأمنية المبرمة بين بغداد وواشنطن في أواخر عام 2008، وما كان يمكن أن يترتب على ذلك الانسحاب من حقائق ومعطيات، من شأنها تشجيع أو دفع قوى اقليمية معينة الى سد الفراغ الذي تركته واشنطن، والبحث عن موطىء قدم لها في ساحة حافلة بالتفاعلات الحادة والمحتدمة.

ـ اتساع نطاق الاحتقان والتشنج السياسي في العراق، واتخاذه طابعا مذهبيا ـ طائفيا بدرجة أكبر، لا سيما بعد صدور مذكرة اعتقال ضد نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي لضلوعه بدعم وتمويل جماعات إرهابية مسلحة، ومن ثم هروبه من العراق الى تركيا، وصدور حكم غيابي بالإعدام بحقه، وبعد ذلك استقالة وزير المالية، القيادي في القائمة العراقية رافع العيساوي من منصبه على خلفية اعتقال عدد من أفراد حمايته لتورطهم بأعمال ارهابية، وكل ذلك جاء بالتزامن مع تصاعد موجة التظاهرات الجماهيرية في المناطق الغربية، على غرار ما كان يحصل في مصر وليبيا واليمن وبلدان اخرى.
تركيا .. مراجعة الأخطاء!
هل بدأت تركيا اعادة حساباتها بعد التحولات !
ـ بروز مؤشرات على احتواء وتطويق الأزمة "الظاهرية" بين انقرة وتل ابيب التي اندلعت جراء إقدام الحكومة التركية على كسر الحصار المفروض على قطاع غزة الخاضع لهيمنة حركة المقاومة الاسلامية(حماس)، من خلال إرسالها بواخر محملة بمواد الإغاثة الإنسانية من قبيل الأغذية والأدوية، فضلا عن الدعم السياسي والإعلامي لحماس.

ـ ابرام اتفاقية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التركي المعارض(P.K.K)، تقضي بانسحاب عناصر الحزب الى الأراضي العراقية، وتحديدا جبال قنديل، والتخلي عن أسلحتهم مقابل إيقاف العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش التركي ضدهم.

وكل هذه المعطيات عكست قوة الموقف التركي، واكتساب أنقرة عوامل قوة اضافية جديدة، في وقت كان الطرف الإقليمي القوي، وهو ايران، يواجه ظروفا حرجة في ظل العقوبات والحصار، والضغوطات السياسية والإعلامية من اتجاهات مختلفة. بيد ان ذلك في مجمله لم يتعد الجانب السطحي ـ الظاهري، بعيدا عن العمق، المختلف في الكثير من معطياته وحقائقه، أي بعبارة أخرى إن ما بدا أنه مكاسب وانجازات استراتيجية لأنقرة، لم يكن في حقيقة الأمر سوى مسائل عابرة في خضم تفاعلات ومخاضات عسيرة ومتواصلة لم تتبين وتتضح نتائجها الحقيقية في حينه، والدليل على ذلك هو ما حصل فيما بعد، وعبر في جوهره عن افتقار السياسة الخارجية التركيا للافق البعيد، وخضوعها لحسابات ضيقة، واحتكامها لانفعالات غير عقلانية.

كيف ولماذا؟.... يمكننا هنا أن نشير الى المعطيات التالية حتى تكتمل صورة ما أشرنا إليه آنفاً.

ـ "ثورات الربيع العربي"، التي بشرت بها تركيا، وألقت بكل ثقلها لدعمها وتوسيع نطاقها تحولت الى مآسٍ وكوارث على شعوبها، لتنتج ثورات مضادة، بعد فشل تيارات الإسلام السياسي في ادارة شؤون بعض بلدان الربيع العربي، مثلما حصل في مصر، وقد شكل ذلك لطمة شديدة لأنقرة، التي لم تحسن التصرف بالمرة، حينما فرضت إرادة الشعب المصري ازاحة حكم "الاخوان المسلمين".

ـ السيناريو الذي رسمته تركيا مع السعودية وقطر لسوريا وصل الى طريق مسدود، فلا نظام الرئيس السوري بشار الاسد سقط، ولا المعارضة السورية توحدت، ولا الولايات المتحدة الاميركية وبعض حلفائها الغربيين لجأوا الى خيار القوة العسكرية، واكثر من ذلك كله ان المعارضة السورية راحت تتشظى وتتفكك وتتقاتل فيما بينها، على ايقاع التقاطعات بين السعودية من جانب، وتركيا وقطر من جانب آخر، بحيث إن الاموال والأسلحة السعودية والتركية والقطرية بدلا من أن تقوي المعارضة أخذت تستنزفها وتضعفها بالاقتتال الداخلي، لتقدم خدمة مهمة للنظام الحاكم.

ـ واجهت الحكومة التركية حركة رفض ومعارضة شبيهة بما حصل في عدد من البلدان العربية وانتهت بالاطاحة بأنظمتها وحكامها، ولعل تفاعلات تلك الحركة ما زالت قائمة، ومن الخطأ التقليل من شأنها والاستهانة بها، لأن شرارة ما يسمى بـ"الربيع العربي"، كانت عبارة عن حرمان مواطن عادي من كسب قوته اليومي بالشارع.

ـ المنهج الطائفي الذي اصطبغت به السياسة الخارجية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية الاسلامي بزعامة الثنائي (غول-اردوغان)، لا سيما خلال الأعوام الثلاثة الاخيرة، تسبب في انحسار الحضور الايجابي لأنقرة في المحافل الاسلامية، وأضعف الى حد كبير مصداقية الشعارات التي رفعها ـ وما زال يرفعها ـ النظام هناك.

ـ لم تنجح انقرة في دخول الاتحاد الأوروبي الذي يبدو أنه بات حلما بعيد المنال لها، واذا كانت لاوروبا في السابق تحفظات ومؤاخذات على الديمقراطية العلمانية التركية، فأنها تتوجس اليوم كثيرا من السياسات الإخوانية لحزب العدالة والتنمية.

ـ الاجندات التركية في العراق فشلت بالكامل تقريبا، والتي كانت تتمحور على هدف اسقاط حكومة المالكي "الشيعية"، واعادة طارق الهاشمي الى العراق، وتغيير المعادلات السياسية فيه، وهي أرادت تكرار ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن في العراق، بيد أنها لم تقرأ الواقع السياسي العراقي بدقة وموضوعية، ولم تشخص الفوارق الشاسعة بين النظام السياسي العراقي، وانظمة الحكم في بلدان "الربيع العربي".
تركيا .. مراجعة الأخطاء!
تبادل الزيارت بين مسؤولي البلدين دليل على انفراج العلاقات


هذه الوقائع والأحداث هي التي أرغمت أنقرة على مراجعة أخطائها وإعادة النظر بمواقفها وتوجهاتها، وإن بصورة جزئية وليست كلية، ويضاف إلى تلك الوقائع والأحداث تحولات في المشهد الإقليمي والدولي على قدر كبير من الأهمية في صياغة معالم وملامح المرحلة المقبلة، مثل الانفراج في العلاقات الايرانية ـ الاميركية بعد وصول الشيخ حسن روحاني الى منصب رئاسة الجمهورية الاسلامية الايرانية، والتوصل الى اتفاق طهران ومجموعة (5+1) بشأن البرنامج النووي الايراني، واستعادة روسيا موقعها ومكانتها العالمية، وانتعاش المحور الروسي ـ الصيني ـ الايراني ـ السوري على حساب المحور الاميركي ـ البريطاني ـ السعودي ـ التركي، ونجاح النظام السوري في البقاء في السلطة.

ولعل ارشاد هرمزلو كبير مستشاري الرئيس التركي للشؤون العربية أشار في تصريحات صحفية قبل اسابيع قلائل الى هذا الامر بقوله "إن السبب وراء التحول الجديد الذي تشهده العلاقات التركيةـ العربية هو رغبة تركيا في الوقت الراهن ـ أي بعد العلاقات الجديدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركيةـ، بتحسين علاقتها بدول الجوار، اذ ان تركيا ترغب بأفضل العلاقات مع كل الدول".

بينما يشير المحلل السياسي محمد كسرواني الى انه "منذ تحسّن العلاقات الإيرانية - الأميركية والتراجع الأميركي عن العدوان العسكري على سوريا، بدا أن حكومة رجب طيب أردوغان تعيد ترتيب أوراقها وإعادة النظر في علاقاتها مع دول الجوار، بعدما تناهى لها لبرهة أنها على وشك استعادة أمجاد "الامبراطورية العثمانية"، لتجري الرياح الغربية والتطورات السياسية لاحقاً على عكس ما تشتهي السفن التركية".

ولا شك أن أنقرة تدرك ان العراق هو المفتاح الحقيقي لعلاقات حسنة وايجابية مع العالم العربي، ومتى ما تعاطت مع الشأن العراقي، ومع الملفات المشتركة مع بغداد، كملف الأمن، وملف المياه، وملف الاقتصاد، بعقلانية وحكمة وموضوعية فإن الامور ستسير سيرا حسنا، والعكس صحيح. وتجربة الاعوام الثلاثة الماضية خير برهان ودليل، فالتأزم والتصعيد مع بغداد، في مقابل التقارب والتماهي مع الرياض والدوحة افقد انقرة الكثير ولم يكسبها الا القليل القليل.

وارتباطا بتأزم المواقف بين الرياض وأنقرة، وتصدع جبهة المعارضة السورية، فإن صناع القرار التركي قلقون الى حد كبير من اقدام الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) على توسيع نطاق عملياتها الى الاراضي التركية، وهذا ما يشير اليه المستشار الرئاسي هرمزلو ، ملمحا الى "امتعاض بلاده من تلك المجموعات المتطرفة التي باتت على مقربة من الحدود التركية ـ السورية، معتبراً أن مثل هذه المجموعات المسلحة وغيرها من المجموعات المتطرفة تؤثر سلباً على العالم الإسلامي، وان تركيا بشكل عام لا تريد أن تكون هناك أزمات إرهابية على حدودها، فهذه الأمور يجب الابتعاد عنها".

وسيكون من بين أبرز اثار التقارب العراقي التركي، على ضوء المتغيرات والتحولات الجديدة، هو انحسار التأثير السعودي وزيادة عزلة الرياض الاقليمية والدولية، مثلما يؤكد ذلك عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي سامي العسكري بقوله "إن التقارب بين العراق وتركيا جيد ونحن نسعى اليه لتحقيق مصلحة العراق والحيلولة دون حلف تركي سعودي ضد العراق، وان العراق لا بد أن ينفتح على كل الدول في المنطقة التي تدعم حربه ضد المجاميع الارهابية ولا تمولها والتي تؤمن بالنظام السياسي الجديد في العراق".

وبنفس المعنى يشير الكاتب اللبناني المتخصص بالشوؤن التركية ميشال نوفل الى "ان تركيا لم تفعل كالسعودية التي حردت ووضعت نفسها خارج المعادلة، وأخذت موقفاً يتقاطع مع الموقف الإسرائيلي المعارض للتحول الجيواستراتيجي في المنطقة".

واذا كانت المراجعة التركية، وتصحيح المسارات الخاطئة تجاه العراق شيئا مهما وذا دلالة، إلا انه لا يعني نهاية المطاف، لأن تبعات وآثار سياسات الأعوام الثلاثة، من الصعب بمكان ان تتلاشى وتختفي وتذوب مرة واحدة، هذا في حال افترضنا أن المواقف والتوجهات انقلبت رأسا على عقب، ومثل هذا الافتراض بحد ذاته بعيد نوعا ما عن الواقع، لأن سياسات الدول ـ خاطئة كانت ام صائبة ـ لا يمكن ان تتغير جذريا بين ليلة وضحاها.
2013-11-26