ارشيف من :نقاط على الحروف
بين التضليل والاستغباء: إعلام الـ 500 مليون دولار مجدداً!
إنها نشرة الأخبار الصباحيّة على شاشة الـ MTV ، يتحضّر الجميع لمغادرة المنزل على أنغام حروف مذيعة الأخبار المغناج. للحظات تشعر أنّ التلفزيون أخطأ التقاط البث، فمزج برامج التّرفيه والغناء بنشرات الأخبار. تدخل إلى غرفة الجلوس للتّحقق جيداً، فتظهر لك المذيعة، أثناء تشديدها على لفظ Huvelin ، بالفرنسيّة الـ impeccable (أيّ التّي لا عيب فيها). كيف لا؟ والكلام عن Huvelin - الشّارع البيروتيّ وليس الجنرال الفرنسي طبعاً - شارع الصّمود والتّصدي الفرنكوفوني في وجه همجيّة "رعاع" حزب الله. ومن المؤكّد المجال غير متاح هنا للحديث عن إشكال جامعة القديس يوسف، ونعوت شباب الحزب الجديدة، ولكن الأساسي في الموضوع هو تشوّه الكلمات العربية أثناء تمغيطها-قراءتها على لسان المذيعة العزيزة.
وفجأةً يسقط غنج مذيعة الأخبار، وشيءٌ من دلالها الفائض، وتتحوّل نبرتها إلى الحدّة والجديّة - غير المجديةً - بما يوحي أنّ التّقرير القادم يستحق كماً هائلاً من "التّحدّي"، و"الصّمود" اليمينيّ "العنيد". كيف لا، والكلام الآن لتقرير خاص بعنوان "من أين انطلقت العمليات الانتحارية، وهل هي في نظر محور الممانعة بطولة أم إرهاب؟".
تبلغ مدة التقرير حوالي الثلاث دقائق والنّصف، ويفتتحه مشهد لجثث مستقى من أحد الأفلام الأميركيّة. إذن، أزيحت الستارة، صدحت الموسيقى التّشويقيّة، وابتدأ العرض. يبدو أنّ التّحقيق برمّته فيلم أميركيّ، ولكنّه قصير هذه المرّة. أين أنت يا زياد الرّحباني؟!
بدأت معدّة التّقرير الصحافيّة دنيز رحمة فخري بإطلاعنا على معلوماتها "الحصريّة" بنبرة مختلفة، وعلى الطريقة المصريّة "دخلنا في الجدّ بقى". تستعيد الصحافيّة تاريخيّة نشوء الفكرة مع الكاميكاز اليابانيين، وهؤلاء كانوا يفجّرون أنفسهم بطائراتهم، في ثكنات وتجمّعات القوّات الأميركيّة أثناء الحرب العالميّة الثّانية. جميل. بعدها تتحدّث المعدّة عن تجربة نمور التاميل الانفصاليين في سيريلانكا. جميل أيضاً.
ثمّ، وبسحر ساحر، تعرض الشّاشة صورةً للإمام الخميني (قده). وللحظة ستسأل نفسك: إنها المنار أم الـ MTV؟ وستظنّ أن الـ MTV التفتت أخيراً إلى استثنائيّة الرّجل، وفكره. ولكن مهلاً.. بالعودة إلى الواقع، لقد بدأت حفلة الاتّهامات، فالمعدّة تصرّح بأن مفهوم "الانتحاري" انتقل إلى "الشّرق الأوسط" مع الإمام الخميني (قده)، ومع "وعود بمفاتيح وصكوك الجنّة". يمكنك تناسي استخدام مصطلح الشّرق الأوسط ومدلولاته الآن، ولكن كيف تنسى الكليشيه الشّهير "مفاتيح وصكوك الجنّة"؟ يبدو أنّ العاملين في القناة العزيزة لم يسمعوا يوماً بفكر الإمام الخميني (قده)، وكلامه عن الشّهادة، وصعوبة الوصول إليها، ولو استمع هؤلاء فانّهم سينتقون ما يُسمعونه للمشاهد باعتباطيّة وخفّة مميتة. والأهمّ من ذلك أنّ هؤلاء لا يرون الشّهادة إلاّ من منظار "الحور" العين في مخيّلة التكفيريين.
قليلٌ من الهدوء، بعضٌ من الإنصاف لا يضيركم شيئاً. فبالنّسبة لأبناء الإمام الخميني (قده)، وهؤلاء أبناء الإمام الحسين (ع) - قبل أيّ كان - بالنّسبة لهؤلاء الاستشهادي الأوّل، وليس الشّهيد، هو أبو عبد الله الحسين (ع)، ذاك الذّي لا يبالي "أوقع على الموت، أم وقع الموت عليه"، طالما أنّ معركته لأجل الحقّ، لأنّ "هيهات منّا الذّلة". هؤلاء الاستشهاديون تربوا في هذه المدرسة، ولو كانت الجنّة هدفهم فطمعاً بجوار الله، وجوار الحسين (ع) الذّي عشقوا. ولو أوغلنا في التّاريخ قليلاً فالمسيحيون يؤمنون اليوم بأن المسيح (ع) افتدى بنفسه الكون كلّه. إذاً ليس الأمر جديداً، ولا حكراً على عقيدة أو مذهب.
يتابع التّقرير "الخاصّ" حديثه عن "الانتحاريين" وليس الاستشهاديين في لبنان. وفي التقرير ستتكرر كلمة "العمليّات الانتحاريّة" عدّة مرات (أكثر من 5 مرّات) على مسمعك، وطبعاً هذا ليس matraquage (أي الإصرار على تكرار المصطلح في أسلوب من أساليب التّضليل الإعلامي) على طريقة المذيعة التّي لا تُخطئ.
يشير التّقرير إلى أنّه في عرف الإمام الخميني (قده) وأبناء حزب الله "يكفي تحديد العدوّ لتشريع العمليات الانتحاريّة ضدّه". طبعاً من المعلوم أنّ طرد العدوّ لا يتمّ إلاّ بنثر القبل والورود، فمهلاً حزب الله، لم كلّ هذا العنف المفتعل والمبتذل؟
يعيدك التّقرير في سرده إلى أولى عمليات "الجهاد الإسلامي" ضدّ مبنيي قوات البحريّة الأميركيّة والفرنسيّة (1982)، اللتين اتّهم حزب الله بالقيام بهما. وقد ذكر روبرت فيسك، المراسل البريطاني الشهير، في كتابه "ويلات وطن" أنّ الأميركيين "وقفوا ضد مشاركة الأمم المتحدة، للحؤول دون التّدخل السوفييتي في لبنان". إذاً، عندما يتصارع الأقطاب على قطعة الجبنة اللّبنانية، على المقاومة ألاّ تتدخل.
بعد هذه السّلسلة المتتالية من المغالطات العقائديّة، يعرض التّقرير مقطع فيديو يتحدّث فيه الامين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله عن الاستشهاديين، تتبعه كلمات مقتطعة من تسجيل مرئي لوصية الاستشهادي صلاح غندور (1995)، يقول فيها حرفياً: "إنني إن شاء الله بعد قليل من هذه الكلمات سوف ألقى الله". في مشهد لا يُفهم أصلاً سبب اختياره، كأنّ الرّجل ذاهبٌ للموت فقط: الموت لأجل الموت، كأن لا أرض، ولا وطن، ولا قيم، ولا شيء استحقّ منه هذه الخطوة، في محاولةٍ للتّأكيد على كليشيهات "صكّ الجنّة" و"الحور العين"..من دون إستكمال النص الذي يعلنه الشهيد ملاك بكل وضوح دون تردد أو خجل أو خوف.
وتكرّ سبحة الاستشهاديين، فيصل الدور لعروس الجنوب الشهيدة سناء محيدلي، من استشهاديّات الحزب السوري القومي الاجتماعي، فيصفها التّقرير بـ "أول فتاة فجّرت نفسها على معبر باتر جزين". عذراً.. فجّرت نفسها، وكأنّك تتحدّث عن فتاة كانت منهارة بعد علاقة عاطفية فاشلة لم تجد أمامها سوى التّفجير لتنسى!
ثم يأخذك التّقرير إلى العمليات "الانتحاريّة" على حدّ وصف المعدّة ضدّ العدوّ الصّهيوني في فلسطين، وهذه "دعمها كلّ من انضم إلى ما عرف بمشروع الممانعة، وبينهم حزب الله ووصفوها بالعمليات البطولية ". يا للهول! يا للعار! كيف يدعم حزب الله ومحور الممانعة الموت في وجه القاتل الصّهيوني؟!
وبعد كلّ هذا الاستعراض، تظهر قنبلة التّقرير المتمثّلة بفيديو لأسامة بن لادن ، يقول فيه حرفياً: "أقسم بالله العظيم الذي رفع السماء بلا عمد لن تحلم أميركا ولا من يعيش في أميركا بالأمن قبل أنّ نعيشه واقعاً في فلسطين". فتتحدّث الصحافيّة فخري عن "نجم القاعدة" الذّي سطع في تفجيرات أيلول 2001، خاتمةً حديثها بالعبارة التّالية "ثقافة العمليات الانتحارية عممت فانتقلت من فلسطين إلى العراق إلى سوريا واليوم إلى لبنان، والمفارقة أنها في سوريا ولبنان صارت إرهابية بنظر محور الممانعة".
مهلاً.. هل ترى وتسمع جيداً أيها المشاهد العزيز؟ الاستشهاد والانتحار هنا سيّان، القاعدة من جهة، وحزب الله والمقاومة الفلسطينيّة من جهة أخرى سيّان، "إسرائيل" وسوريا سيّان.. مهلاً.. أيّها الإعلام، قليلٌ من الاحترام لعقولنا لن يضيركم أبداً.
ليست المفارقة رفض العمليات الانتحاريّة، المفارقة هي غياب التّمييز بين "الانتحاري" و"الاستشهادي"، المفارقة هي المساواة بين من يقتل نفسه دفاعاً عن أبناء الوطن، وبين من يفجّر نفسه والوطن ليدخل المحتل، المفارقة الحقّة هي أنّ البعض لا يستحي من إشهار الودّ لمن قطع أشلاء الأطفال والنّساء والشّيوخ في حولا وقانا ومروحين منذ عام 1978 لغاية اليوم.
يقال: "إن لم تستح فافعل ما شئت"، ولا يرجى ممن فقد الحياء ذرة تقدير لموت يصنع الحياة، ويغيّر معالم الوجود، لموت وضع لبنان والأمّة العربية كلها على خارطة الوجود.