ارشيف من :آراء وتحليلات

المعارضة تفشل في الضغط على يانكوفيتش لتغيير سياسته!

المعارضة تفشل في الضغط على يانكوفيتش لتغيير سياسته!
بعد ثلاثة أسابيع من التظاهرات الموالية للغرب للاحتجاج على امتناع الحكومة عن توقيع اتفاق التقارب مع الاتحاد الاوروبي، اجتمع ممثلو السلطة والمعارضة حول طاولة مستديرة للبحث في طرق الخروج من الأزمة السياسية الراهنة. وعقد الاجتماع في القصر الوطني للفنون واستمر ساعتين ونصف الساعة، لكنه انتهى من دون التوصل الى نتيجة. ورفض الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أي بحث في الدعوات الى استقالة حكومته. وأصر على ان ذلك ممكن ان يحدث فقط عن طريق طرح الثقة بالحكومة للتصويت في البرلمان. وقال للمشاركين في اللقاء "لقد جرى مثل هذا التصويت، وانتم رأيتم ذلك".

وكان طلب استقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة على رأس مطالب المعارضة. وحذر بطل الملاكمة في الوزن الثقيل والزعيم المعارض فيتالي كليتشكو الرئيس يانوكوفيتش من اتخاذ تدابير صارمة ضد المتظاهرين. وقال موجها كلامه للرئيس " ان احتمال استخدام القوة، كما تلمح الحكومة، يمكن ان تكون له نتائج وخيمة على البلاد، وعليك شخصيا".

وعدا كليتشكو، شارك في المحادثات زعيم حزب "باتكيفشـّينا" (الوطن) ارسيني ياتسينيوك، وأوليغ تياغنيبوك من الحزب القومي "سفوبودا" (الحرية)، ورجال دين وقادة طلابيون، بالاضافة الى رئيس الوزراء ميكولا ازاروف.

وقبل انعقاد الاجتماع اقترح الرئيس يانوكوفيتش الإفراج عن جميع النشطاء الذين اعتقلوا اثناء المظاهرات. وخلال الاجتماع وعد يانوكوفيتش بصرف جميع الموظفين الذين قاموا بتحضير اتفاق التقارب مع الاتحاد الاوروبي. وأوضح انه اتخذ قراره بعدم التوقيع بسبب النواقص التي كانت موجودة في وثيقة الاتفاق. واتهم رئيس الدولة المعارضة بأن التظاهرات الاحتجاجية في ساحة "الاستقلال" اصبحت سببا "لنشاطات جديدة تؤول الى زعزعة الاستقرار في البلاد". وحسب كلماته انه تراكمت في اوكرانيا مشكلات عديدة، و"مختلف الجماعات تدافع عن مواقف مختلفة"، ولكنه من الضروري الاستماع الى مطالب المتظاهرين وان تؤخذ بالاعتبار وجهة نظرهم.

واعلن رئيس الدولة انه مستاء جدا من الأحداث التي وقعت في "الميدان" (التسمية التي اطلقت على ساحة اعتصام المحتجين)، ان كان من جانب من سماهم الاستفزازيين، او من جانب قوات الأمن، التي لم تكن تصرفاتها دائما ملائمة، وفي مثل هذه الحالة فإن العواطف تتغلب على العقل السليم.

المعارضة تفشل في الضغط على يانكوفيتش لتغيير سياسته!
تظاهرة مؤيدة ليانكوفيتش

وخلال انعقاد الاجتماع بين المعارضة والحكومة، ارتفع عدد المحتجين المتجمعين في ساحة "الاستقلال" (الذي سمي ايضا "الميدان")، الى 15000 شخص، وفق ما اذاعت وسائل الاعلام المحلية. وقبل ذلك كان المتظاهرون قد وسعوا رقعة احتلالهم لمساحة اوسع من ساحة "الاستقلال"، ولم تتدخل الشرطة لمنعهم وهم ينصبون خيما جديدة. وقد امضى 4000 شخص ليلتهم في الخيم، بينما تجمع 1900 شرطي في وسط المدينة.

وعلى هذه الخلفية اعلن الزعيم المعارض فيتالي كليتشكو انه سيترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، حسبما نقلت عنه القناة الالمانية ARD. وجاء في تصريحه إنه فيما اذا انتخب للرئاسة فسيعمل على خلق فرص عمل جديدة، وتحسين الضمانات الاجتماعية ومكافحة الفساد. وستجري الانتخابات الرئاسية التالية في اوكرانيا خلال سنة 2015. وفي نفس الوقت كتبت مجلة "شبيغل" ان المستشارة الألمانية انجيلا ميركيل والحزب الشعبي الاوروبي (EPP) سوف يقومان بحملة اعلامية لمصلحة فيتالي كليتشكو، بهدف تحويله الى زعيم للمعارضة ومنافس لفيكتور يانوكوفيتش في الانتخابات الرئاسية القادمة. وتعقد على كليتشكو الامال لتحقيق التقارب مع الاتحاد الاوروبي.

ودعا الزعيم المعارض ارسيني ياتسينيوك الى تكثيف المظاهرات ضد يانوكوفيتش. وياتسينيوك هو قائد حزب رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو الموجودة في السجن حاليا، والتي رفضت حكومة يانوكوفيتش الإفراج عنها أو ترحيلها للعلاج في المانيا، حسبما طالب الاتحاد الاوروبي. وأكد ياتسينيوك "ان هدفنا الرئيسي هو منع يانوكوفيتش من ضم أوكرانيا الى الاتحاد الجمركي الذي تتزعمه روسيا".

تظاهرات وتظاهرات مضادة

وفي الوقت الذي كان يجري فيه اجتماع الطاولة المستديرة، نظم عدة آلاف من انصار "حزب الاقاليم" (الحزب الحاكم) تجمعا جماهيريا في احدى الحدائق العامة قبالة البرلمان، دعما لمواقف حكومة يانوكوفيتش، ملوحين بالاعلام الوطنية واعلام الحزب. وتحدث في التجمع عدد من النواب والمسؤولين الحزبيين، الذين أيدوا نهج الحكومة، ودعوا المعارضة للجلوس الى طاولة الحوار. كما تقدم "حزب الاقاليم" بطلب ترخيص لاقامة تجمع جماهيري يحضره 200000 شخص في "الساحة الاوروبية" في كييف، لدعم الحكومة.

ومن جهة ثانية اعلن رئيس الوزراء ازاروف أن اوكرانيا وروسيا سوف توقعان اتفاقا لازالة المزيد من "التناقضات التجارية" بين البلدين. ولهذه الغاية سوف يتم تشكيل لجنة حكومية مشتركة من الدولتين ستعقد أولى اجتماعاتها في موسكو. وخلال اجتماع الطاولة المستديرة اعلن ازاروف ان توقيع اتفاق التقارب مع الاتحاد الاوروبي، بصيغته الحالية، كان من شأنه ان يؤدي "الى انهيار حتمي للاقتصاد الوطني الاوكراني" اخذا بالاعتبار الظروف الاقتصادية الراهنة في أوكرانيا.

ففي وقت التوقيع المفترض لاتفاق "الشراكة الشرقية" مع الاتحاد الاوروبي، كان احتياطي الذهب والعملات الأجنبية لاوكرانيا في ادنى مستوى له وهو 19 مليار دولار، وكان الرصيد السلبي للعلاقات التجارية مع بلدان منطقة اليورو 10 مليارات دولار، والرصيد السلبي مع بلدان الاتحاد الجمركي بزعامة روسيا 15 مليار دولار. وبالاضافة الى ذلك يتوجب على أوكرانيا ان تدفع هذه السنة متوجبات خارجية بقيمة 5،5 مليارات دولار و10 مليارات دولار ثمن الغاز الروسي المستورد. وكان من شأن توقيع الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي "ان تخسر أوكرانيا الافضليات التي تمنحها لها منطقة التجارة الحرة في نطاق "مجموعة الدول المستقلة" (التي تتزعمها روسيا)، اذ ان الرصيد التجاري السلبي مع بلدان المجموعة يمكن ان يصل سنة 2014 الى 15 مليار دولار" كما قال رئيس الوزراء.
المعارضة تفشل في الضغط على يانكوفيتش لتغيير سياسته!
تظاهرة مؤيدة لاتفاقة الشراكة مع الاتحاد الاوروبي

ولكن اكثر الخسائر التجارية الملموسة كانت ستكون مع روسيا. واعترف رئيس الوزراء "ان السلطات لم تنجح في ان تتحدث مع المواطنين بصراحة وبشكل مقنع حول الوضعية المعقدة، وكان يجري الكلام قليلا جدا عن المخاطر".

وفي بروكسل اجرى نائب رئيس الوزراء الاوكراني سيرغي اربوزوف محادثات مع المفوض الاوروبي لشؤون توسيع الاتحاد شتيفان فيولي. وبحث الطرفان في وضع "خريطة طريق" تتناول المبادرات التمهيدية لتوقيع اوكرانيا على اتفاقية التقارب مع الاتحاد. وصرح فيولي ان اوكرانيا والاتحاد الاوروبي سيعملان لتوقيع الاتفاق بدون روسيا. ووعد بأن الاتحاد الاوروبي سوف يقدم المساعدات لاوكرانيا لمواجهة التحديث ولتحقيق طموحاتها. وفي هذا الصدد صرح رئيس الوزراء ميكولا ازاروف ان اوكرانيا تحتاج الى مساعدة بمقدار 20 مليار يورو كي تستطيع الحد من النتائج السلبية على اقتصادها قبل توقيع الاتفاق. وقال ازاروف في اجتماع لمجلس الوزراء "اننا نقترح ان يتم حل مسألة المساعدة المالية لاوكرانيا. وقد حددنا تقريبا قيمة هذه المساعدة وتبلغ 20 مليار يورو".

هذا وتستمر الاحتجاجات التي تنظمها المعارضة، ولكن بدون تجاوزات، بعد ان قامت الشرطة بازالة متاريس المتظاهرين. واعلن رئيس الوزراء انه لن يتم استخدام القوة ضد المتظاهرين. كما اعلنت وزارة الداخلية "ان احدا لن يمس حق المواطنين في التظاهر السلمي، ولكن ينبغي عدم اهمال الحقوق والمصالح المشروعة لسائر المواطنين". واعلنت الولايات المتحدة الاميركية انها ستتخذ اجراءات ضد أوكرانيا، بما في ذلك العقوبات، فيما اذا تم استخدام العنف ضد المتظاهرين، ضد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.

موسكو مستعدة لاي مبادرة اوكرانية


ومن جهته اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان موسكو هي على استعداد، فيما اذا كان هناك مبادرة من كييف، لاستمرار العمل على مستوى الخبراء لضم اوكرانيا الى العديد من الاتفاقات في اطار الاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا. وقال "نحن لا نفرض شيئا على احد. ولكن اذا كان اصدقاؤنا لديهم الرغبة في العمل المشترك، فنحن على استعداد ان نتابع هذا العمل على مستوى الخبراء". وعبر بوتين عن الثقة ان الانجازات الواقعية للاندماج الاوروآسيوي (اي الاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا) "هي التي سترفع المصلحة في الانضمام اليها من قبل جيراننا، بمن فيهم من جانب شركائنا الاوكرانيين".

وهذا ويخفي الجانب الخارجي للازمة الاوكرانية جانبها الداخلي القائم في التعارض التاريخي بين القسمين الشرقي والغربي لاوكرانيا. فمدينة دونتسك في الشرق، ومدينة لفوف في الغرب، اللتان يفصل بينهما 1000 كلم، تبدوان كعالمين مختلفين، فدونتسك هي اقرب الى الثقافة الروسية، ولفوف هي اقرب الى الثقافة الغربية. وفي المدينة الاولى تعتبر المظاهرات ضد يانوكوفيتش تهديدا للبلاد. وفي المدينة الثانية تعتبر مقاومة قرار الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي والتقرب من روسيا هي بمثابة دفاع عن النفس.

"هذه الاحتجاجات هي عار"، يقول فيكتور تشيرنوف، الخبير التكنولوجي في مصنع الفولاذ في دونتسك، "واذا استمرت اسبوعين ايضا، فلن يعود هناك اموال للمعاشات التقاعدية والاجور، وسينهار الاقتصاد بأسره".

ورأي تشيرنوف، الذي هو مزيج من الاحتقار والقلق، تشاركه فيه الاكثرية في مدينة دونتسك، حيث العلاقات الثقافية، اللغوية والاقتصادية مع روسيا هي عميقة جدا. ولكن ذلك يتعارض مع ميول الاغلبية في مدينة لفوف التي تبعد 60 كلم عن الحدود مع بولونيا ـ العضو في الاتحاد الاوروبي. وتنظم المعارضة رحلات للمواطنين من لفوف الى كييف للمشاركة في التظاهرات ضد يانوكوفيتش.

ويقول النائب في البرلمان المحلي في لفوف اندريه كورنات "ان لنا تفكيرا اخر. نحن كنا جزءا من مملكة هابسبورغ (مملكة النمسا ـ هنغاريا التي سقطت في الحرب العالمية الاولى). والى الشرق كان دائما الروس. وكنا دائما نشعر بالضغط من قبلهم. والان وصلنا الى النقطة الحرجة، التي ينبغي معها ان نصارع للحفاظ على انفسنا".

وبالرغم من ان 40% من سكان اقليم الدونباس، حيث مدينة دونتسك، لغتهم الاصلية هي الروسية، فإن الانقسام شرق ـ غرب في اوكرانيا هو مسألة تفكير اكثر مما هي مسألة اتنية. والجدير ذكره ان يانوكوفيتش لغته الاصلية هي الروسية، وهو قد كسب الانتخابات سنة 2010 بفضل اغلبية اصوات المنطقة الشرقية. والآن فإن غالبية المشاركين في المظاهرات الاحتجاجية في كييف هم قادمون من المناطق الغربية.

ويؤكد يانوكوفيتش أنه لا يزال يؤيد التقارب مع اوروبا. ولكن الثمن الذي كانت ستدفعه أوكرانيا فيما لو طبق اتفاق التقارب الآن، فهو تدمير الاقتصاد الاوكراني. ولذلك فهو يفضل تعميق العلاقات التجارية المتبادلة مع روسيا في المرحلة الراهنة.

وتقول تاتيانا اوريخوفا، استاذة الاقتصاد في جامعة دونتسك "علينا الآن ان نقطع الصلة وان نبدأ في البحث عن تسوية من شأنها اقامة التوازن في العلاقات مع أوروبا ومع روسيا" و"ان السوقين هما ضروريان لنا، وشعارات المعارضين لا تعطينا اية اجوبة".
المعارضة تفشل في الضغط على يانكوفيتش لتغيير سياسته!
"بوتين، اذا كنت تحب"نا" ـ اسمح "لنا"

ويقول ميكولا زاغورويكو، احد كبار مسؤولي "حزب الاقاليم" الحاكم، ان الرئيس لم يكن لديه اي خيار سوى اللجوء الى المساعدة من روسيا وتأمين التجارة. وقال "ان المصانع والمناجم كانت ستغلق ابوابها في خلال نصف سنة فقط" فيما لو تم توقيع الاتفاق مع الاتحاد الاوروبي.

ومن خلال اللوحة السياسية القائمة الآن في اوكرانيا يمكن طرح الاستنتاجات التالية:

1ـ ان تيار الانفتاح والتقارب مع اوروبا الغربية موجود بقوة في أوكرانيا، كما هو موجود بقوة ايضا تيار الانفتاح وتعميق التقارب مع روسيا. والسلطة الأوكرانية عليها ان تجد نقطة التوازن بين هذين التيارين، انطلاقا من المصلحة الوطنية لاوكرانيا، بجميع الوجوه السياسية والاقتصادية والامنية والثقافية. والا فإن اوكرانيا مهددة بصدامات داخلية قد تتطور الى حرب اهلية. ولا بد ان نذكر هنا ان الجناح المؤيد للغرب، والذي يتستر بالشعارات "القومية" (بمواجهة الروس فقط) قد قاتل في الحرب العالمية الثانية مع النازيين الألمان ضد السوفيات. ولا تزال المطاعم والملاهي في مدينة لفوف تزين جدرانها بالبنادق والالبسة التي كان يستخدمها المقاتلون "القوميون" المتعاونون مع الألمان ضد الروس.

2ـ لأسباب تاريخية كثيرة، فإن الروس يعاملون اوكرانيا معاملة الاخ الاكبر للاخ الاصغر، ويتجلى ذلك في ان روسيا تعتبر السوق الاكبر لجميع البضائع الاوكرانية. بالاضافة الى ان الاقتصاد الموجه السوفياتي السابق جعل الصناعات في الكثير من القطاعات مرتبطة بعضها ببعض. وكما قال الرئيس بوتين في احدى المقابلات ان محركات الهليكوبترات الروسية يتم انتاجها في اوكرانيا. وروسيا تحافظ على هذا الوضع مع انه بامكانها انتاج السلع ذاتها. وفوق ذلك كله فإن روسيا تزود اوكرانيا بالغاز الطبيعي بأسعار تفضيلية وتسهيلات كبرى في الدفع. كل هذه العوامل تجعل روسيا شريكا تجاريا لا غنى عنه ولا بديل له بالنسبة للاقتصاد الاوكراني برمته. وان "زعل" روسيا قد يعني دمار الاقتصاد الاوكراني برمته وبقاء البيوت والمستشفيات والمدارس بدون تدفئة وبقاء معامل توليد الطاقة الكهربائية بدون وقود، اي يعني رمي اوكرانيا في مجاعة حقيقية بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذا ما لا تريده روسيا بصرف النظر عن الطبيعة السياسية للحكومة الاوكرانية. وروسيا "تعض على الجرح" حيال التهجمات التي تتعرض لها من قبل المعارضة الأوكرانية الموالية للغرب، والتي هي امتداد تاريخي للقوات الاوكرانية التي قاتلت الى جانب النازيين في الحرب العالمية الثانية. ولكن الوطنييين الاوكرانيين الحقيقيين يدركون ان صبر روسيا قد ينفد، فتغلق حدودها امام البضائع الاوكرانية وتقطع الغاز عن اوكرانيا، وهناك "البكاء وصرير الاسنان".

3ـ ان تجربة جميع البلدان تؤكد أن الدول الغربية تستخدم الاداة الاقتصادية لأجل الهيمنة السياسية والعسكرية. وروسيا تحتفظ (منذ ايام الاتحاد السوفياتي) بأسطول حربي ضخم في مرفأ مدينة سيباستوبول في شبه جزيرة القرم. وتشمل مهمات هذا الاسطول البحر الاسود والبحر الابيض المتوسط معا، ووجوده هو شوكة حديدية في حلق اميركا وحلف الناتو. وهناك معاهدة بين اوكرانيا وروسيا حول رسو الاسطول الروسي في سيباستوبول تنتهي مدتها سنة 2017. ومن المؤكد انه اذا تم التقارب بين اوكرانيا والدول الغربية، ان تعمل هذه الدول على المجيء بحكومة اوكرانية موالية للغرب، تقوم برفض تجديد معاهدة رسو الاسطول الروسي في سيباستوبول. ولكن من المؤكد ايضا ان روسيا لن تخرج من سيباستوبول مهما كان الثمن. وذلك ليس لدواع سياسية واقتصادية واستراتيجية راهنة فقط، بل ـ اساسا ـ لدواع تاريخية. فشبه جزيرة القرم كانت تحت السيطرة العثمانية ـ التتارية حتى سنة 1768. وكانت تشكل قاعدة تاريخية دائمة للعدوان على بلاد الروس. وكانت اوكرانيا مستعمرة من قبل العثمانيين والتتار. وفي الحرب بين الروس وبين العثمانيين والتتار سنة 1768 ـ 1774 انتصر الروس، وحرروا شبه جزيرة القرم من قبضة العثمانيين والتتار، وبنوا مدينة سيباستوبول سنة 1783. وحتى اليوم لا يزال السكان الروس يشكلون الاغلبية (74.4%) في سيباستوبول. وفي العهد السوفياتي ذاته ظلت شبه جزيرة القرم ضمن الاراضي الروسية حتى سنة 1954. وفي هذه السنة، وبايعاز من نيكيتا خروشوف (الاوكراني الاصل) جرى الفصل الاداري لشبه جزيرة القرم عن روسيا وإلحاقها بأوكرانيا، على قاعدة الاخاء بين الشعبين الروسي والاوكراني. واليوم فإن سيرغيي خروشوف، ابن نيكيتا خروشوف، يقيم في اميركا ولديه مؤسسة دراسات في واشنطن. اي انه جاسوس اميركي بامتياز. وهو طبعا من مديري الحملة المعادية لروسيا في أوكرانيا. فاذا تجرأت حكومة موالية للغرب في كييف على المطالبة بخروج الاسطول الروسي من سيباستوبول، فإن السكان الروس في سيباستوبول سيحتلون المدينة ويحملون السلاح ضد اي عدوان خارجي.

كما ان البرلمان الروسي سيعمد فورا الى اتخاذ قرار يلغي بموجبه قرار ضم شبه جزيرة القرم الى اوكرانيا الصادر سنة 1954، ويطالب باعادة شبه جزيرة القرم الى الوطن الأم روسيا. وحينذاك ليأتي الحلف الاطلسي ويجرب حظه في اخراج الاسطول الروسي من سيباستوبول. ان هذا الوضع القانوني والسياسي التاريخي المعقد ليس في مصلحة الجناح الموالي للغرب في اوكرانيا ولا في مصلحة الاتحاد الاوروبي ولا في مصلحة حلف الناتو. واذا كانت المانيا بزعامة انجيلا ميركيل تقف الان على رأس الاتحاد الاوروبي، فإن الشعب الروسي لا يمكن ان ينسى انه قدم 30 مليون شهيد لتحرير اوروبا والعالم من الوحش النازي الالماني. واي تحدّ لروسيا عن طريق "الحرتقات" التجارية والسياسية سيعني مواجهة كبرى بين اوروبا الغربية وروسيا، ولهذه الاسباب، على الاقل، فإن مصلحة الاتحاد الاوروبي هي في عدم تحدي روسيا والموافقة، ودفع الجناح الاوكراني الموالي للغرب للموافقة، على اقتراح الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش لتشكيل لجنة ثلاثية روسية ـ اوكرانية ـ اتحاد اوروبية لإرساء العلاقات بين الاطراف الثلاثة على اسس واقعية تحفظ حقوق ومصالح الجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2013-12-17