ارشيف من :آراء وتحليلات

صفقة للديبلوماسية الالمانية تحرر معارضاً روسياً

صفقة للديبلوماسية الالمانية تحرر معارضاً روسياً
في ختام المؤتمر الصحفي السنوي المفتوح الذي يعقده الرئيس بوتين في الشهر الأخير من كل سنة، والذي يرد فيه على اسئلة الصحفيين والمواطنين، ودام هذه السنة اكثر من أربع ساعات، اعلن للصحفيين بشكل مفاجئ انه سيتم اصدار عفو رئاسي خاص والإفراج الفوري عن الملياردير اليهودي المعارض ميخائيل ، الذي كان متهما بالتهرب من دفع الضرائب وتهريب الاموال وإلحاق اضرار مالية واقتصادية جسيمة بالدولة.
صفقة للديبلوماسية الالمانية تحرر معارضاً روسياً
خودوركوفسكي في قاعة المحكمة
وكان خودوركوفسكي يعتبر من اغنى اغنياء العالم، وكان يدير شركة النفط "يوكوس" التي كانت تعتبر اضخم شركة في روسيا حتى سنة 2007، وكان يمتلك 59.5% من اسهمها. واعتقل خودوركوفسكي سنة 2003، وحسب معلومات جريدة The Sunday Times فإنه بعد اعتقاله باع حصته في "يوكوس" الى الملياردير اليهودي العالمي الشهير البارون روتشيلد، بناء على صفقة معقودة بينهما في سنة 2002. وقبل اعتقاله كان خودوركوفسكي يعتبر المعارض الرئيسي لبوتين، وكان يسعى للسيطرة التامة على الفيديرالية الروسية اقتصاديا وسياسيا، وهو الذي مول الحملة الانتخابية لبوريس يلتسين سنة 1993، وفي 1995 طرح مشروع loans for shares الهادف الى خصخصة الثروات القومية لروسيا، كما كان خودوركوفسكي يمول الحزب اليميني الموالي للغرب "يابلوكو" وفي الوقت نفسه يمول الحزب المعارض تماما لـ"يابلوكو" اي "الحزب الشيوعي للفيديرالية الروسية" بزعامة زيوغانوف، والهدف من ذلك كان خلق جبهة من اليمين الى اليسار معارضة لفلاديمير بوتين الذي يمثل حجر عثرة امام المستثمرين الاجانب.

وبعد اعتقال خودوركوفسكي في 2003 وضعت الدولة الروسية يدها على شركة "يوكوس" وأممتها، بهدف تحصيل الحقوق المتوجبة عليها، والتي قدرت بـ 28 مليار دولار، ثم جرى تفكيك وتصفية الشركة سنة 2007. ولدى اعتقاله حكم على خودوركوفسكي بالسجن لمدة عشرين عاما، قضى منها عشر سنوات خلف القضبان في سيبيريا. ولكنه كان من غير المتوقع ان يخرج من السجن أبدا لان دعاوى المخالفات الكبرى كانت تتوالى ضده. وساهم اعتقال خودوركوفسكي في توطيد سلطة بوتين وتهميش الاحزاب المعارضة.

ومنذ سنتين، اي منذ عهد الرئيس السابق (رئيس الوزراء الحالي) دميتريي ميدفيدييف، طرح موضوع اصدار عفو رئاسي عن خودوركوفسكي على ان يتقدم بطلب استرحام يذكر فيه التخلي عن العمل السياسي، ولكن خودوركوفسكي كان يرفض ذلك. ومنذ فترة وجيزة "اقتنع" خودوركوفسكي بحل كتابة الاسترحام، وأرفقه برسالة شخصية مطولة الى الرئيس فلاديمير بوتين تضمنت شرحا للوضع الصحي لوالدته المريضة بالسرطان.

وقد صدر مرسوم العفو الخاص استنادا الى "اعتبارات انسانية". وسلم خودوركوفسكي الاسترحام الى محاميه الخاص، الذي سلمه بدوره الى وزير الخارجية الالماني السابق هانز ديتريش غينشر (من الحزب الدمقراطي الحر)، الذي كتبت صحيفة " فرانكفورتر الغيميني تسايتونغ" انه هو الذي توسط لاصدار العفو عن خودوركوفسكي. وقد اوصل غينشر طلب الاسترحام الى الكرملين بطريقة لم يفصح عنها. ويقول بعض الخبراء ان الشخصية الرئيسية التي تقف خلف الوساطة الالمانية هي المستشارة الالمانية انجيلا ميركيل شخصيا، وان هذا العفو هو جزء من صفقة سياسية كبرى بين المانيا والكرملين ستظهر نتائجها بالتتالي.

وفي ختام مؤتمره الصحفي السنوي المفتوح، قبل اصدار العفو، صرح الرئيس بوتين "بموجب القوانين السارية فإنه يتوجب على ميخائيل بوريسوفيتش (خودوركوفسكي) ان يرسل شخصيا طلب استرحام للافراج عنه. ولكنه حتى الان لم يفعل ذلك. ولكن قبل وقت قصير كتب أنه يجب الافراج عنه لاعتبارات انسانية. حيث ان والدته مريضة، وقد امضى في السجن حتى الان عشر سنوات. وهو عقاب جدي. وأحسب انه قريبا يمكن ان نتخذ القرار ونوقع مرسوم العفو عنه".
صفقة للديبلوماسية الالمانية تحرر معارضاً روسياً
خودوركوفسكي في مطار المانيا
وقد فاجأت هذه الخطوة وسائل الاعلام الروسية والعالمية. وكتبت جريدة Financial Times البريطانية ان هذه "مناورة على طريقة بوتين". اما مجلة Time فوصفت الخطوة بأنها "علامة اضافية على ان بوتين يربح". فيما اعتبر الكثير من المعلقين الغربيين ان هذا القرار هو محاولة من قبل السلطات الروسية، عشية المباريات الاولمبية الشتوية التي ستجري في سوتشي على البحر الاسود، للرد على الاتهامات الاميركية والاوروبية الغربية الموجهة الى روسيا بخرق حقوق الانسان. وقد صدر هذا العفو الخاص بعد يوم واحد من موافقة البرلمان الروسي (الدوما) على قانون عفو، سيتم بموجبه اسقاط التهم الموجهة لالوف الروس واطلاق سراح الوف آخرين من السجون.

هذا وكانت حملة بوتين قد بدأت ضد الاوليغارشيين، الذين كانوا يمتلكون سلطة مالية وسياسية كبرى، منذ ان تسلم السلطة في مطلع سنة 2000، بعد إقالة بوريس يلتسين. وأفهم الاوليغارشيون حينذاك انهم يمكن ان يحتفظوا بأموالهم اذا اعلنوا التخلي عن العمل السياسي. وقد خضعت اغلبيتهم حينذاك، والبعض فروا من البلاد. فقط خودوركوفسكي استمر في تمويل الاحزاب واجهزة الاعلام المعارضة ولا سيما الموالية للغرب. وكان يعتبر حينذاك اغنى اغنياء روسيا بثروة تقدر بـ 15 مليار دولار. ولكن غالبية المواطنين الروس كانوا يعتبرونه ممثلا للاوليغارشيين الذين اغتنوا على حساب نهب الثروات الوطنية.

وكانت المجلة الروسية التي تصدر بالانجليزية New Times قد نشرت في تشرين الاول/نوفمبر الماضي تعليقا لخودوركوفسكي قال فيه "ان النظام الذي يقود البلاد الان يسمى "فلاديمير بوتين". هل يمكن له ان يتغير؟ لا اريد ان اعطي جوابا قاطعا: فالكائن البشري هو ظاهرة معقدة جدا".

وحول طريقة الافراج عن خودوركوفسكي قال المدير العلمي للمنتدى الالماني ـ الروسي، الصحفي والعالم السياسي الالماني المعروف الكسندر رار: "ايقظوا خودوركوفسكي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. واجتمع معه مدير معسكر الاعتقال وابلغه انه سيتم اطلاق سراحه وتسفيره الى الخارج، وسأله اذا كان يوافق على ذلك، فأعلن موافقته. بعد ذلك نقلوه الى مدينة سيغيجي التي تقع قرب المعسكر، ومنها حملته طائرة هيليكوبتر الى مدينة بتروغراد. وهناك انتقل الى طائرة خاصة قدمت لاجله من المانيا. ونقلته الطائرة الى مطار برلين، حيث كان في استقباله وزير الخارجية الالماني السابق هانز ـ ديتريخ غينشر". وكان الكسندر رار الى جانب غينشير. واضاف رار: ان خودوركوفسكي ينزل الان في فندق "ادلون" في برلين، وهو في حالة جيدة ومسرور جدا لاطلاق سراحه بعد عشر سنوات من السجن، وانه يتصل بأقربائه واصدقائه والصحفيين، ولديه رغبة كبيرة في الكلام، وفي ان يتخذ قراره "حول اي دور سيلعبه في الحياة العامة لاوروبا"!!!. وأكد الكسندر رار "ان الافراج عن خودوكوفسكي هو من صنع الدبلوماسية السرية الالمانية".
صفقة للديبلوماسية الالمانية تحرر معارضاً روسياً
خودوركوفسكي بعد اطلاق سراحه في المانيا
وحسب تعبيره انه يوجد لالمانيا قنوات سرية مع روسيا، لا تمتلكها الدول الاوروبية الاخرى ولا اميركا، وان هذه القنوات يمكن ان تعمل في ظروف معينة. وعزا رار الدور الرئيسي للافراج عن خودوركوفسكي الى غينشر. وقال "بعد محادثات طويلة مع بوتين حصل غينشر على ما اراد، ووصل خودوركوفسكي الى المانيا".

وتقول وكالة الصحافة الفرنسية ان غينشر اجتمع مرتين مع بوتين للبحث في قضية خودوركوفسكي. وقد ادلى الناطق الصحفي باسم المستشارة الالمانية ميركيل بتصريح امتدح به الدور الذي قام به غينشر. وقال الموقع الالكتروني الروسي "دوجد" ان وسيطا المانيا ثانيا شارك في محادثات اطلاق سراح خودوركوفسكي هو المستشار الالماني السابق غيرهارد شرويدر، الذي بعد خروجه من السلطة حافظ على علاقات وثيقة مع روسيا، وهو الان يترأس مجلس ادارة مشروع خط انابيب "السيل الشمالي"، الذي يعبر بحر البلطيق لتزويد المانيا بالغاز الروسي مباشرة، دون المرور في الاراضي الاوكرانية.

وتمتلك شركة "غازبروم" الروسية العملاقة 51% من اسهم شركة "السيل الشمالي". كما ان الكسندر رار هو منسق العلاقات العامة (PR) الاوروبي لشركة "غازبروم" ويشغل في الوقت نفسه منصب مستشار في الكونسورسيوم الالماني "Wintershall"، المساهم في "غازبروم" والمشارك في "السيل الشمالي".

وصرح السكرتير الصحفي للرئيس بوتين، ديميتري بسكوف، ان خودوركوفسكي يمكنه ان يعود الى روسيا بدون عراقيل. وبدد هذا التصريح الشكوك انه قد تم ابعاد خودوركوفسكي. ولكن عودة خودوركوفسكي "ليست على جدول الاعمال" الان، كما صرحت بذلك النائبة الالمانية عن "الخضر" مارييلويزي بيك، التي قابلته في برلين.

وتجدر الاشارة الى ان قضية اعتقال خودوركوفسكي كانت احدى المسائل الخلافية الشديدة بين موسكو وبروكسل. وفي كل لقاء مشترك كان الاتحاد الاوروبي يطرح موضوع الافراج عن خودوركوفسكي كأحد الشروط لتحسين العلاقات بين الطرفين. ولكن موسكو لم تكن تخضع لهذه الضغوطات. والان يمكن القول ان هذه المشكلة قد زالت. ولكن بروكسل فوجئت مرتين: مرة بعملية الافراج ذاتها، ومرة بأنه لم يكن لها يد في العملية التي ستعود "مكاسبها" السياسية الى المستشارة الالمانية انجيلا ميركيل. ويعزو بعض المراقبين الحياديين هذا الاخراج الالماني المنفرد لعملية الافراج عن خودوركوفسكي الى رغبة الكرملين في تعزيز التوجه الاستقلالي لميركيل وابعاد الاتحاد الاوروبي عن النفوذ الاميركي، وخصوصا استخدام النفوذ الالماني للحد من جنوح المعارضة اليمينية الروسية للالتحاق بمخططات السياسة الاميركية. والعامل الاول الذي لعب دوره الاساسي في هذا الاخراج هو: انبوب الغاز القاري "السيل الشمالي" الذي يمتد 1225 كلم بين مدينتي فيبورغ الروسية وغرايسفلد الألمانية، والذي سيتم بناء فروع له الى انجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول الاوروبية، وتبلغ قدرة الانبوب حاليا 55 مليار متر مكعب من الغاز المسيل سنويا، وهي قدرة قابلة للزيادة. فهذا الانبوب سيضمن الامن الطاقوي لالمانيا اولا ولدول الاتحاد الاوروبي الاخرى ثانيا، كما سيعزز الموقع القيادي لالمانيا في دول الاتحاد، حيث ستتحول المانيا الى "مركز توزيع" استراتيجي للغاز الروسي. ويمكن لخودوركوفسكي ان يعود ليلعب دوره في اطار توزيع الغاز الروسي في اوروبا، عبر المانيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2013-12-30