ارشيف من :آراء وتحليلات

تونس..اضراب في كامل محاكم الجمهورية

تونس..اضراب في كامل محاكم الجمهورية
تعيش تونس على وقع إضراب مفتوح لقضاتها إحتجاجا على رغبة نواب حركة النهضة في تضمين فصل (بند) من الدستور هو الفصل 103 الذي يكرس وصاية السلطة التنفيذية على القضاء من خلال تدخل الحكومة في تعيين القضاة في الوظائف العليا. موقع "العهد" يسلط الضوء على "ملف الساعة" في تونس من خلال محاورة أحمد الرحموني القاضي ورئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء والأستاذ لطفي واجه المحامي والناشط الحقوقي الكاتب السياسي.

اعتبر أحمد الرحموني القاضي السابق ورئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء في حديث لـ "العهد " أن معركة استقلال القضاء سواء خلال فترة ما قبل الثورة أو خلال هذه المرحلة الإنتقالية التي تمر به البلاد بلغت ذروتها. فهناك تجاذبات كبيرة وهذا ما لاحظناه في الفترة السابقة إذ أن العلاقة المتوترة بين السلطة التنفيذية (وزارة العدل ورئاسة الحكومة) والهيئة الوقتية المشرقة على القضاء العدلي من جهة أخرى هي التي فجرت هذه المعركة. لقد لاحظنا أن الحكومة في كان تعاملها سيئا مع أول هيئة منتخبة وممثلة للسلطة القضائية إذ لم تقر عمليا بوجودها وعملت على تعطيل عملها . الوضع القضائي عاش معوقات كبيرة ناشئة عن عدم اعتراف السلط، أو مراكز القرار في هذه السلط، بوجود سلطة قضائية وهياكل تمثلها. فالهيئة الوقتية المشرفة على القضاء في تونس والتي كانت إحدى ثمار الثورة، هي أول تمثيلية حقيقية للسلطة القضائية في تاريخ البلاد وهي تعد نموذجا لهيئة مختلطة تجمع ما بين القضاة وغير القضاة وهي أيضا هيئة منتخبة مباشرة من القضاة وجزء منها هم قضاة معينون طبقا لقرار قديم موقع من السلطة التنفيذية".

تخوف من تبعية القضاء

أضاف القاضي الرحموني _ المرشح لتسلم حقيبة وزارة العدل وحقوق الانسان والعدالة الانتقالية في الحكومة الجديدة_: "صحيح أن 3 فصول وقع إسقاطها من الدستور الجديد تكرس تبعية القضاء للجهاز التنفيذي لكن المعركة مستمرة. والحقيقة أن  الفصل 103 موضوع الجدل في تونس والذي يكرس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء، له تاريخ في مسار القضاء التونسي باعتبار أن التعيينات التي كانت تصدر عن السلطة التنفيذية للقضاة في المناصب العليا كانت عنوانا للتدخل في القضاء والهيمنة عليه. نظاما بورقيبة وبن علي لم يجرؤا على تضمين تعيين القضاة في المناصب العليا من قبل السلطة التنفيذية في دستور 1 حزيران 1959 في حين أرادت حركة النهضة فعل ذلك في دستور تونس الجديد. إن التعيين المباشر من قبل السلطة التنفيذية  للقضاة في المناصب القضائية العليا يمس باستقلالية المحاكم في البلاد، و يجعل ظاهرة "قضاة الموالاة" تستمر ويحافظ القضاء التونسي على التبعية للسلطة التنفيذية.. لقد تخلت كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي على تمرير الفصل 103 الذي يكرس تبعية القضاء للحكومة في الدستور لأنه كان سيثير جدلا كبيرا، ومن تبعاته إعلان إضراب القضاء بداية من يوم 15 يناير وهذا الإضراب مرشح للاستمرار اذا اصرت حركة النهضة من خلال نوابها على عدم تكريس استقلالية القضاء في الدستور وهو ما قد يؤدي الى تفاقم الوضعية المتردية. إن إسقاط الفصل 103 بعد عدم توفر الأغلبية في المجلس التأسيسي لتمريره لا يحل المشكلة باعتبار أن الفكرة ما تزال موجودة ومطروحة، وما زالت هناك أيضا إشكاليات تتعلق بتركيبة المجلس الاعلى للقضاء الذي سيشرف مستقبلا على القضاء بعد انتهاء البلاد من هذه المرحلة الإنتقالية  كما أن وضعية النيابة العمومية تثير إشكالا.

تونس..اضراب في كامل محاكم الجمهورية
القاضي الرحموني
جدل مستمر

من جهته رأى الاستاذ لطفي واجه محام وخبير في القانون وناشط حقوقي أن تونس منذ استقلالها عرفت منطقا وحيدا تكرس في هيمنة السلطة التنفيذية على بقية السلطات الأخرى. هذا الموروث السياسي أعطاه الحبيب بورقيبة أبعاده التطبيقية ثم توارثته الأنظمة التي تتالت وتحديدا النظام البائد وبدايات التنظيم السياسي بعد الثورة. وأضاف قائلا: "لم يكن للسلطة القضائية أي وجود مستقل مع كل هذه الانظمة بل تم تركيعها بشكل مفزع أحيانا لهيمنة ورغبة السلطة التنفيذية وعلى رأسها النظام القائم عليها. وقد وصلت الأمور في هذا الصدد إلى حد التعفن مع بن علي الذي طوع القضاء وهيمن عليه".  وأضاف "هذا المدخل ضروري لفهم ما آلت اليه الأمور في تونس الآن. ويمكن في هذا الصدد استعمال عبارة "الموروث السياسي والقانوني" والذي يتميز بفوقية السلطة التنفيذية على السلط الأخرى ومن الطبيعي والحالة تلك أن يحاول من هو في السلطة الآن أي حركة النهضة المحافظة على هذا التمشي. لماذا؟

كما قلت إن المسألة مسألة سلوك يكاد يكون طبيعيا عند العديد من التونسيين، لكن هناك أيضا اعتبارات براغماتية تؤكد أن القائمين على السياسة في بلادنا والمترشحين لاعتلاء المناصب فيها يخافون من فكرة استقلالية القضاء والتي من شأنها أن تطال بعض مواقعهم المكتسبة سواء تلك التي اكتسبوها في الماضي أو أثناء هذه المرحلة الانتقالية.. وهناك أيضا أمور أخرى تتمثل أساسا في إمكانية المساءلة القضائية للبعض (حركة النهضة) من جراء ممارستهم للسلطة خلال هذه المرحلة الانتقالية .

تونس..اضراب في كامل محاكم الجمهورية
لطفي واجه

تخوفات مشروعة

وفيما يخص "المعركة" التي يقودها القضاة مدعومين بالمحامين وبعض مكونات المجتمع المدني أضاف محدثنا "أقولها بكل صراحة إن موقف القضاة من حيث المبدأ شرعي لا غبار عليه. فطالما اخترنا كثورة وكمشروع حضاري الإنعتاق من الاستبداد وأن تكون الدولة مؤسسة على مبدإ التفريق بين السلط، فمن الطبيعي أن نلمس ونلحظ ذلك في التشريعات وتحديدا في مشروع الدستور الحالي . أما أن نبقي على التداخل بين السلط فذاك يعني أن للماضي سلطته الحالية على الحاضر، فمبدأ التفريق بين السلط يقر صراحة بأن لكل سلطة هامشا من الحرية  يخول لها تكريس أهدافها وترتيبا عليه أهداف الجمهورية الجديدة. لكن مطالب القضاة المشروعة لا تمنع من القول أن هناك تخوفات يمكن نسبتها إلى من يحاولون التصدي نسبيا لهذا المطلب وهم الحكام الجديد.
وهذه التخوفات مشروعة باعتبار أن إمكانية تسلط القضاة وانغلاقهم على أنفسهم يمكن أن يؤدي بنا إلى نوع من السلطة المطلقة للقضاة والذي من شأنه أن ينتهي إلى  إحدى صور " الاستبداد " وهو ما يعبر عنه تاريخيا بسلطة القضاء.

انطلاقا من ذلك كان لا بد أن يكون هناك رادع لإطلاقية المطالبة بالاستقلالية ولعل ما تم اقتراحه من اختلاط تركيبة المجلس الأعلى للقضاء المزمع انشاؤه يحد من هذا التخوف. فوجود ممثلين عن المجتمع المدني فيه من غير القضاة يمكن من ذلك".

وفيما يتعلق بالفصل 103 من الدستور موضوع الجدل اعتبر محدثنا أنه "نقطة التصدع الاساسية، ويمثل في الوقت نفسه اشكالية التداخل بين السلط ". ما معنى أن ينص هذا الفصل أن التعيينات في الوظائف العليا القضائية يكون من قبل الحكومة باقتراح من وزير العدل؟ يتساءل محدثنا.

ويضيف "بدون شك هذا هو التداخل بعينه وهو المظهر الأساسي لاجترار تجارب الماضي ومحاولة السلطة التنفيذية البقاء في الصورة".

من المفروض أن الهيكل الممثل للقضاة والمتمثل في المجلس الأعلى للقضاء هو الذي له الصلاحية في القيام بهذه التعيينات. الفصل 103 يعارض ذلك تماما ويخرج بنا بعيدا عن إطار مبدا الفصل بين السلط . كما أن الفصل 103 يمثل تناقضا مع ما جاء في الفصل 100 من مشروع الدستور التونسي الجديد الذي نص صراحة على أن " القضاء سلطة مستقلة تعمل على ضمان إقامة العدل" فمن ناحية هي سلطة مستقلة ومن ناحية أخرى هي قاصرة عن اتخاذ قرارات التعيين. إن هذا الفصل يقيم نوعا من الحجر على هذه السلطة وهو ما يرفضه القضاة جملة وتفصيلا .

يقول واجه :"ما لاحظناه خلال الأربع ساعات من النقاش العقيم في رحاب المجلس التأسيسي، والذي انتهى إلى إسقاط مقترح هذا الفصل وإرجاء النظر فيه لاحقا، أن الإشكال بقي مطروحا ما جعل القضاة يدخلون في إضراب مفتوح يجوز معه القول أنه مفتوح على كل الفرضيات".
2014-01-17