ارشيف من :آراء وتحليلات

إيران بين تحديات الأمس واليوم

إيران بين تحديات الأمس واليوم

لا يختلف اثنان على حقيقة ان الثورة الاسلامية الايرانية (1979)، واجهت منذ وقت مبكر جملة تحديات خطيرة ساهمت في تسليط الاضواء على البعدين السياسي والفكري اكثر من البعد الثقافي – الاجتماعي ، وقد تمثلت تلك التحديات بجملة احداث ووقائع وتداعيات، لعل ابرزها تمثل بالحرب التي شنها النظام العراقي ضد ايران بدفع وتشجيع وتمويل من قوى دولية واقليمية واستمرت ثمانية اعوام في محاولة للقضاء على الثورة، وكذلك الحملة الشرسة التي تبنتها وسائل الاعلام والاوساط الفكرية في الغرب على ايديولوجية الثورة، حيث حاولت تصويرها على انها ايديولوجية تقوم على الارهاب والعنف.


ولا شك أن تحليل ماهية المفردات والمفاهيم التي جاءت بها الثورة واجراء مقاربات بينها وبين مفردات ومفاهيم منظومات ثقافية وفكرية اخرى يمكن له ان يساهم في اجلاء الجانب الآخر من صورة الثورة الذي لم يكن واضحا بما فيه الكفاية للذين كانوا يراقبون التفاعلات من بعيد ولم تُتَح لهم الفرصة للاقتراب من مسرح الاحداث، ولكن في نفس الوقت فإن قراءة فكر الامام الخميني يمكن ان تساهم الى حد كبير في استجلاء صورة الواقع بدقة ووضوح.

فالمتابع او الباحث لا يمكن له ان يقف على حقائق الثورة الايرانية ويشخصها بدقة ما لم يتوقف عند الخطاب المتعدد الابعاد والجوانب الذي تبناه الامام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة باتجاه التغيير في عام 1963 وحتى رحيله الى الرفيق الاعلى في عام 1989.

اذ ان هذا الخطاب بإطاره العام الشامل يتيح فهم الابعاد والمضامين الحقيقية للثورة الاسلامية الايرانية ، ويخرجها بالتالي من حالة الاختزال السياسي – الفكري ، ولا سيما ان الجانب الثقافي والاجتماعي في ذلك الخطاب شغل حيزا كبيرا.

وفي ذلك يقول الباحث كامل الهاشمي في كتابه الموسوم (اشراقات الفلسفة السياسية في فكر الامام الخميني) ، " بالاستناد الى الاهمية التي تكون للثقافة والاعلام في علاقتهما بالسلطة ما كان بالامكان ان يغفل الامام الراحل وهو الرجل ذو الحس السياسي المرهف والوعي الاجتماعي المستوعب هذه الاهمية، لا سيما ان الامام الراحل قد شاهد ووعى كيف يتلاعب الاعلام المعادي بالحقائق والمواقف في ما تبناه من موقف تجاه الثورة الاسلامية التي قادها الامام نفسه" .

ويضيف قائلا: "والامام يدرك تمام الادراك ان الثقافة غدت قيمتها وفاعليتها وموقعيتها في عصرنا الراهن تتأسس بالاستناد الى الدعم الاعلامي الذي تمثل امكانياته المتطورة او المتخلفة المقياس العملي في نشر ثقافة ما وتوسيع نطاق تأثيرها، او في منع ثقافة اخرى وتضييق مجال نفوذها".

إيران بين تحديات الأمس واليوم

"ولقد كان الامام يستشعر الاسى والمرارة من استخدام الاعلام في ترويج الافكار المنحطة والثقافة المبتذلة وقلب الحقائق وتزييف الواقع، وهي المظاهر التي غدت تسم اكثر ما تقدمه وتبثه وسائل الاعلام في عصرنا الراهن ما جعل منها وسائل فعالة في التغطية والتعمية على انسان العصر".

ومن الواضح ان الامام كان يتناول بالتحليل الدقيق في معظم الاحيان مخاطر وتحديات القيم الثقافية والاجتماعية المبتذلة والمنحطة المستوردة من الغرب التي عمل النظام الشاهنشاهي على بثها وترويجها في اوساط الشعب الايراني المسلم بأشكال واساليب ومناهج مختلفة، ومن خلال قنوات التثقيف والتوعية الاجتماعية المتمثلة بالمدارس والجامعات ووسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وحتى الكيان العائلي، ويعتبر ان عملية التغيير اذا اقتصرت على تغيير السلطة السياسية في القمة فقط ولم تكن عملية تغيير شاملة وكاملة فإن ذلك يعني ابقاء الحال على ما هو عليه بكل ما يشتمل عليه من مساوئ وسلبيات، لذلك فإن منهجه كان يقوم على اساس القضاء على كل المظاهر والظواهر الخاطئة بعناوينها المتعددة، بتعبير اخر كان الامام القائد يهدف الى اصلاح الفرد ليكون ذلك مقدمة لاصلاح وبناء المجتمع بناءً سليما ورصينا ومحكما.

ولعل عملية البناء الاجتماعي الجديد اتخذت اشكالا مختلفة التقت كلها عند نقطة واحدة، فمثلا تمت اعادة النظر بصورة شاملة بمحتوى ومضمون ما تبثه وسائل الاعلام المرئي والمسموع والمقروء ولكن بصورة تدريجية حتى لا تتولد ردود فعل سلبية او تقوم بعض الجهات بتوظيف بعض الهفوات والاخطاء لتحقيق اهداف خاصة، وتم كذلك وضع خطط علمية وصياغة مشاريع شاملة لاساليب ادارة المدارس والجامعات وتشخيص دورها في عملية البناء الاجتماعي الجديد من خلال المناهج العلمية الموضوعة التي من المفترض ان تعكس جوهر الثقافة الاسلامية الاصيلة بعيدا عن الثقافات الغربية والشرقية الوافدة، وكذلك تم تشكيل مؤسسات ومراكز ذات طابع ثقافي – فكري – اجتماعي من قبيل منظمة الاعلام الاسلامي ومؤسسة الفكر الاسلامي، اضافة الى ذلك اعطاء الحوزة العلمية دورا اكثر فاعلية وحيوية في عملية التوجيه والتثقيف وبث الوعي.

وتبلورت عملية البناء الاجتماعي الجديد وتجلت عبر مظاهر شتى منها، انتشار الحجاب الاسلامي لدى اوساط النساء بشكل واسع، وزيادة الاقبال – وخصوصا من قبل جيل الشباب – على ارتياد المساجد واماكن العبادة، وتزايد اعداد طلبة المدارس الدينية، وشيوع الثقافة القرآنية من خلال توجه النشء الجديد الى قراءة القرآن وحفظه وتلاوته، وحرص النظام الاسلامي على اقامة المسابقات المحلية والدولية في هذا المضمار، والغاء الاماكن العامة التي كانت تساهم في نشر الفساد والرذيلة في داخل الاوساط الاجتماعية المختلفة.

وقد كان تصويت الاغلبية المطلقة من الشعب الايراني (نسبة 99%)على اختيار نظام الجمهورية الاسلامية في ظل ممارسة ديمقراطية حقيقية بعيدا عن اي ضغوط وتهديدات، مؤشرا حقيقيا على طبيعة التوجهات الصحيحة للشعب، ومؤشرا حقيقيا على ان عملية البناء الاجتماعي الجديد ستقطع اشواطا طويلة في فترات زمنية قصيرة.

وربما كانت الحرب التي شنها النظام العراقي على الجمهورية الاسلامية بعد وقت قصير من انتصار الثورة الاسلامية قد ساهمت بشكل او بآخر في ايلاء قدر اكبر من الاهتمام بالبعد الثقافي – الاجتماعي لان الحرب لم تكن في واقع الامر حربا عسكرية تقليدية فحسب، بل انها مثلت تحديا قيميا كبيرا وخطيرا للثورة الاسلامية.

هذا التحدي الكبير والخطير نجحت الثورة في مواجهته واحتوائه بصورة غير متوقعة بتاتا، ففي الوقت الذي كانت تراهن القوى الخارجية على شريحة الشباب لافشال الثورة والقضاء على النظام الاسلامي، انخرط عشرات الالاف من هؤلاء الشباب في قوات التعبئة الشعبية (البسيج) للدفاع عن مبادئ وقيم الثورة، وقد كان لهؤلاء الدور الحاسم في قلب الموازين العسكرية وقلب التوقعات.

وهنا فإن مفردات ومفاهيم من قبيل ثقافة الجهاد وثقافة الاستشهاد، اصبحت شائعة ومألوفة، بل واكثر من ذلك فإنها مثلت المحاور والمفاصل المهمة في مجمل المنظومة الثقافية للثورة الاسلامية، وقد رأى مفكرون ومحللون غربيون ان سر انتصار الايرانيين على النظام العراقي في وقت كانوا يعيشون اوضاعا قلقة يتمثل بمفردتي الجهاد والاستشهاد وليس بشيء اخر.

ويرصد الكثيرون حقيقة ان عملية التحول من واقع الى واقع اخر مختلف تماما، تعد بحد ذاتها شيئا خطيرا ومن الصعب ان يكتب لها النجاح اذا لم تتوفر لها الارضيات المناسبة ماديا ومعنويا وروحيا، وهذا ينطبق على الثورة الاسلامية والمجتمع الايراني.

في الوقت ذاته فإن عملية التحول هذه تحتاج الى مجموعة من الرموز الدينية والفكرية والسياسية والثقافية، وبالفعل فإن وجود رموز مثل الشهيد مرتضى مطهري والشهيد محمد حسين بهشتي والشهيدين محمد علي رجائي ومحمد رضا باهنر وكذلك مصطفى جمران وآخرين غيرهم اعطى الثورة الاسلامية الايرانية شمولية وجاذبية اكبر، وساهم في تأصيل وترسيخ قيمها ومبادئها.

وعلى العكس تماما من توقعات بعض الاوساط الخارجية من ان غياب او تغييب الرموز يمكن ان يسرع في انهيار الثورة فقد ضخ استشهاد هؤلاء دما جديدا في شرايين الثورة، وزاد من حماسة جيل الشباب الذي كان يرى ان من اهم الواجبات الملقاة على عاتقه هو الحفاظ على الانجاز التأريخي الذي حققه الامام الخميني.

اضافة الى ذلك فإن مجريات الامور والاحداث والوقائع التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب وبعد رحيل الامام الخميني، اثبتت هي الاخرى خطأ كثير من القراءات السطحية التي ذهبت الى ان مرحلة الثورة انطوت صفحاتها وبدأت مرحلة الدولة، وهذا يستدعي- بحسب تلك القراءات السطحية - حصول جملة متغيرات على صعيد الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، من بينها اضمحلال وذوبان ثقافة الجهاد والحرب والاستشهاد ارتباطا بنهاية الحرب وغياب الرمز الاول، وكذلك طبيعة التحولات والمتغيرات العالمية بعناوينها ومظاهرها المختلفة التي كان لا بد ان تدفع ايران الى الانفتاح اكثر فأكثر على الاخرين سواء في المحيط الاقليمي او الدولي.

لكن في واقع الامر فإن حالة الانفتاح السياسي الكبير الذي طرأ على السياسة الخارجية الايرانية منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي لم ترافقه مثلما كان يراد او كان متوقعا حالة انفتاح اجتماعي وثقافي عشوائي، بل ربما يمكن القول بالعكس، فقد بدا واضحا ان قيم الثقافة الاسلامية اخذت تترسخ وتمتد جذورها عميقا في الارض من خلال الاهتمام بالثقافة القرآنية اهتماما كبيرا، ونشر وترويج الكتب والمطبوعات التي تتمحور في مضامينها ومحتواها على صيانة القيم الدينية والوطنية ونبذ القيم الثقافية الدخيلة، والحرص على استمرار التأكيد على مفردة ثقافة الجهاد والتضحية.

ولعل الاهتمام بقضايا ومشكلات العالم الاسلامي، لا سيما القضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الصهيوني من قبل الاوساط الرسمية والشعبية الايرانية ساهم في ابقاء مفردة ثقافة الجهاد والتضحية حية في النفوس.

ولا ينكر ان بعض الظواهر الشاذة والغريبة قد نفذت من الخارج الى اوساط وفئات قليلة من المجتمع الايراني خلال العقدين الماضيين بفعل ثورة المعلومات والاتصالات العالمية، والتي – أي تلك الظواهر – حاول البعض تضخيمها وتصويرها على انها انقلاب كبير على مبادئ الثورة وقيمها، الا انها تبقى في كل الاحوال امرا طبيعيا في مجتمع كبير ومتعدد المستويات والرغبات ومتفاوت في درجات وعيه وفهمه وادراكه لطبيعة الظروف والاوضاع العالمية.
2014-02-14