ارشيف من :آراء وتحليلات

مصر على عتبة تحول سياسي رئيسي

مصر على عتبة تحول سياسي رئيسي
خلال الانتفاضة الشعبية في مصر في صيف 1952، التي توجت بثورة 23 تموز ضد الاحتلال البريطاني والملكية والاقطاع، تعرض المتظاهرون بالضرب لعدد من الدبلوماسيين الاجانب الذين صودف مرور سياراتهم في الشارع. واثناء احدى المظاهرات صودف مرور سيارة دبلوماسي سوفياتي، فأنزله المتظاهرون من السيارة وهموا بضربه، ولكن حينما صرح بأنه روسي حمله المتظاهرون على الاكتاف واخذوا يهتفون للاتحاد السوفياتي واعادوه الى سيارته مكرما وفتحوا له الطريق.


وبعد انتصار ثورة تموز 1952 دشن النظام الناصري وطور علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية وثيقة مع الاتحاد السوفياتي، كان ابرزها كسر احتكار السلاح الغربي لاسرائيل بعقد صفقة الاسلحة التشيكية ـ المصرية في 1955، و"إنذار بولغانين" الذي اوقف العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وتمويل وبناء السد العالي الذي أنقذ مصر من الجفاف والمجاعة حتى الان، وبناء المجمّع الصناعي في حلوان الذي يعمل فيه ملايين العمال المصريين، وتعزيز الجيش المصري بعشرات آلاف الخبراء العسكريين السوفيات وتحديثه وتزويده بأحدث الاسلحة السوفياتية، ومنها الطائرات المتطورة بطواقمها السوفياتية التي حمت اجواء القاهرة، والصواريخ التي أرعبت اسرائيل والغرب الامبريالي، ومكنت النظام الناصري من شن "حرب الاستنزاف" على القنال سنة 1969، ووضع الخطط والتحضير لاختراق "خط بارليف" وتحرير سيناء، ما دفع الدوائر السوداء الغربية للتعجيل في اغتيال جمال عبدالناصر عن طريق السم البطيء والعلاج الخاطئ بواسطة طبيب يهودي مجري، كما كشفته الاجهزة الخاصة الصينية.

وجاء الى السلطة من كان يسمى "الرئيس المؤمن" محمد أنور السادات، والى جانبه "المستشار" محمد حسنين هيكل، ونفذ انقلابه على الناصرية في مصر، وبدأت مرحلة "معاداة السوفيات" على النطاق العربي بإشراف ودعم النظام الساداتي.

مصر على عتبة تحول سياسي رئيسي

وفي 1972 قام السادات بطرد الخبراء العسكريين الروس من مصر، وأطلق شعار "99% من اوراق الحل بيد اميركا". وفي سياق تاريخي يبدو طرد الخبراء السوفيات والتوجه لقطع العلاقات المصرية ـ السوفياتية كمقدمة شرطية لاتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 بين مصر واسرائيل، وتحويل مصر عمليا الى "منطقة نفوذ" اميركية.

وفي النصف الاول من شهر شباط الجاري، قام وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي بزيارة الى موسكو، وصفها العديد من المراقبين بأنها زيارة "تاريخية"، على صعيد شق الطريق لتجديد العلاقات المصرية ـ الروسية، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. ويذكر ان هذه الزيارة هي اول زيارة خارجية يقوم بها الفريق السيسي لبلد اجنبي. ويعتقد المحللون الروس ان الفريق السيسي سيكون الرئيس المقبل لمصر. وهذا الاعتبار اعطى لزيارته لموسكو اهمية خاصة. وقد استقبله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا في مقر الرئاسة الخاص في نوفو ـ اوغاريوفو، واجتمع به على انفراد لمدة 20 دقيقة. ولم يرشح عن هذا الاجتماع الخاص شيء لوسائل الاعلام. ولكن خلال الاستقبال الرسمي توجه الرئيس بوتين نحو الفريق السيسي بالقول، كما اوردته وكالة ايتار ـ تاس "اعلم انكم اتخذتم قرارا بالسعي الى مركز رئاسة الجمهورية في مصر. انه قرار عالي المسؤولية ان تأخذوا على عاتقكم هذه المهمة المتعلقة بمصير الشعب المصري. فباسمي الشخصي، وباسم الشعب الروسي، اتمنى لكم النجاح".

واعلن الفريق السيسي في موسكو انه قلق جدا بشأن مشكلة الارهاب. ومما قاله "ان العالم يعيش الان اوقاتا صعبة. والشرق الادنى بالاخص يوجد في منطقة الاضطرابات. وفي هذه المرحلة الدقيقة نحن نواجه تحديات مختلفة في مصر. واهمها ـ الارهاب. ونحن نبذل جهودا كبيرة للسيطرة على الوضع".

هذا وقد رافق الفريق السيسي في زيارته وزير الخارجية المصرية نبيل فهمي. وعقد الاثنان اجتماعات عمل مع نظيريهما الروسيين: وزير الخارجية سيرغيي لافروف، ووزير الدفاع سيرغيي شويغو، على قاعدة (2+2). وكان شويغو قد قام قبل ذلك بزيارة مصر، على رأس وفد عسكري روسي كبير. ومن الوجهة البروتوكولية، اعتبرت زيارة وزير الدفاع الفريق السيسي ردا على زيارة الوزير شويغو لمصر. وبعيدا عن الطابع البروتوكولي، تعتبر الزيارات المتبادلة بين الطرفين، ولا سيما زيارة الفريق السيسي الى موسكو اختراقا جديا في الجمود الذي ساد العلاقات المصرية ـ الروسية، منذ طرد الخبراء السوفيات سنة 1972. ويعبر هذا الاختراق، من قبل الجانب المصري، عن خيبة الامل المصرية من السياسة الاميركية المنحازة تماما لاسرائيل، والرغبة المصرية في تجديد التعاون العسكري مع روسيا، وتنويع تسليح الجيش المصري، والعودة للاعتماد على السلاح الروسي. ويجري الحديث الان، كخطوة اولى، عن صفقة اسلحة كبرى لا يقل ثمنها عن ملياري دولار اميركي. وقد تم البحث في هذه الصفقة في الاجتماع (2+2) بين وزيري خارجية ودفاع البلدين. وابدى الجانب المصري الاهتمام بالحصول على الطائرات المقاتلة ميغ ـ 29، وطائرات الهيليكوبتر الحربية كا ـ 25، و مي ـ 28، و مي ـ 25، وانظمة الدفاع الجوي والصواريخ المضادة للدبابات من طراز "كورنيت".


ويقول مدير مركز التحليل الاستراتيجي والتكنولوجي رسلان بوخوف "اتوقع ان المصريين سيركزون اهتمامهم بالدرجة الاولى على شراء انظمة الدفاع الجوي. لان هذه الصفقة هي اقل حساسية على المستوى السياسي، كما ان انظمة الدفاع الجوي هي ضرورية لكل دولة تنتهج سياسة خارجية مستقلة. وبالاضافة الى ذلك، فهم يمكن ان يبدوا الاهتمام بأنظمة القتال القريب. مثل الصواريخ المضادة للدبابات من طراز "كورنيت" و"كونكورس". اما شراء ميغ ـ 29 فهو احتمال ضعيف".


وقد تم توقيع اتفاق اطاري، الا انه لم يتم بعد توقيع عقود تفصيلية. على ان المحللين يقولون ان نص الاتفاق النهائي اصبح جاهزا تقريبا. وهو يتعلق بتزويد مصر بأنظمة الدفاع الجوي. ويضيف المحللون ان الطرف المصري يعلم ان روسيا لن تتعامل بالطريقة السوفياتية القديمة بتقديم القروض التسليحية طويلة الاجل بفائدة شبه رمزية، وخصوصا ان مصر سبق وان أخلت بتعهداتها ولم تف ديونها القديمة، بعد ان انتهجت خط السير مع اميركا. كما ان السلطة المصرية الراهنة لن تستطيع دفع ثمن الاسلحة الجديدة، نظرا للاوضاع الاقتصادية الصعبة لمصر في الوقت الراهن. و"لائحة المطالب" المصرية هي طويلة: فالجيش المصري هو جيش كبير، وتهديد الامن القومي المصري هو كبير، ولهذا فإن الجيش يحتاج الى كميات كبيرة ومتنوعة من الاسلحة.


ومنذ زيارة شويغو الى القاهرة في تشرين الثاني الماضي، جرى البحث في مسألة التمويل. وذكر منذ ذاك انه يمكن تمويل الصفقة من قبل السعودية والامارات العربية المتحدة. وهو ما يدخل ضمن السياسة السعودية للتمايز عن الاملاءات الاميركية، ومنع مصر من الانجراف في سياسة بعيدة عن الخط السعودي، وكذلك تبريد الاجواء المشحونة مع روسيا بسبب الازمة السورية. ونشرت الصحف على لسان سيرغيي تشيميزوف، مدير مؤسسة "التكنولوجيا الروسية" انه لا يستبعد ان تقدم روسيا ايضا قرضا. وقد نشرت الصحف المصرية عشية الزيارة الحالية للفريق السيسي، ان التسديد يمكن ان يتم على دفعتين، الاولى في اواسط سنة 2014 الجارية. وصرح الوزير شويغو بما يلي "نأمل ان تترجم اتفاقاتنا في عقود محددة، تستجيب لمصالح امن بلدينا".

وعدا عن صفقة شراء الاسلحة، اعلن الوفد المصري عن الرغبة في اجراء مناورات تدريبية عسكرية مشتركة مع الجانب الروسي. وحسب كلمات وزير الدفاع سيرغيي شويغو يجري ايضا تحضير برامج لتوسيع تبادل الوفود، ولتعليم العسكريين المصريين في المعاهد العليا التابعة لوزارة الدفاع الروسية.

وجرى البحث ايضا في التعاون في السياسة الاقليمية، وبالاخص حول سوريا، كما قال وزير الخارجية سيرغيي لافروف، الذي اضاف ان موسكو ترغب كثيرا في الحصول على دعم القاهرة التي، بمجيء العسكريين الى السلطة، تسعى الى استعادة نفوذها السابق في الشرق الادنى، الذي افتقدته الى حد كبير بعد ازاحة حسني مبارك عن السلطة سنة 2011.

ويقول نبيل فهمي وزير الخارجية المصرية، ان صيغة التفاوض (2+2) تتيح الامكانية للبحث في مجموع العلاقات الثنائية بين البلدين: السياسية، العسكرية، الاجتماعية والاقتصادية. وقد اقترح الرئيس الروسي بوتين على الفريق السيسي العمل على رفع التبادل التجاري بين البلدين الى 5 مليارات دولار، بدلا من 3 مليارات كما هو الان.

وفي نهاية شهر اذار القادم سيعقد اجتماع للجنة الحكومية المشتركة الروسية ـ المصرية الخاصة بالتعاون التجاري ـ الاقتصادي بين البلدين.
2014-02-18