ارشيف من :آراء وتحليلات

روسيا... عندما تتألق في دورة سوتشي

روسيا... عندما تتألق في دورة سوتشي
بالقياس إلى ما يفترضه حجمها وموقعها الدولي والأهمية الكبيرة التي توليها للرياضة، ربما تكون روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، أقل بلدان العالم لجهة الاستفادة من الألعاب الأولمبية. فمنذ بداية هذه الألعاب بصيغتها الحديثة في أوائل القرن العشرين، كان على موسكو (السوفياتية) أن تنتظر حتى العام 1980 لتحظى باستقبال دورة لهذه المباريات بعد أن كانت قد أجريت مرتين أو أكثر في بلدان كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.

وعندما فازت روسيا بفرصتها الثانية، بعد العام 1980، والأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ووقع عليها الاختيار لاستقبال الدورة الثانية عشرة للألعاب الأولمبية الشتوية التي تجري حالياً في سوتشي، فإنها لم توفر جهداً في إحاطة هذا الفوز بهالة كبرى من الاهتمام اللائق بالألعاب الأولمبية بوصفها واجهة إعلامية كبيرة وفرصة ذهبية لتعزيز الوحدة الداخلية والشعور القومي، من جهة، والموقع السياسي على المستوى الدولي، من جهة ثانية.

بدا ذلك واضحاً، قبل المباريات، من خلال الاحتفاء غير المسبوق عالمياً بالشعلة الأولمبية. فقد أرسلت في مركبة فضائية إلى الفضاء الخارجي حيث أقامت لمدة أربعة أيام في المحطة الفضائية الدولية. وقطعت في المنطقة المتجمدة الشمالية أكثر من 5000 كلم، بين مرفأ مورمانسك ومركز الدائرة القطبية الذي تعتبره روسيا امتداداً لحدودها الإقليمية، وذلك على متن أكبر كاسحة جليد روسية ذات دفع نووي في العالم. وغاصت إلى قعر بحيرة بايكال، قبل أن تصعد إلى أعلى قمة في أوروبا فوق جبل أولبروز في القفقاس. وحملها 14 ألف شخص في طواف لمسافة 65 ألف كلم على أكثر من 2900 مدينة ومحلة في 83 مقاطعة روسية.
روسيا... عندما تتألق في دورة سوتشي

أما "القرية" الأولمبية التي بنيت بين سفوح الجبال وشاطئ البحر الأسود لاستقبال المباريات فقد جاءت أشبه بـ "عالم مصغر" ومتكامل وظف فيه الروس كل إمكاناتهم العلمية والتقنية : مطار، مرفأ، محطتان للقطارات، 200 كلم من السكك الحديدية، 400 كلم من الطرق المعبدة، 77 جسراً، 12 نفقاً، وكل ما يلحق بذلك من الملاعب والمدرجات الخاصة بالمتفرجين.

وقد حضر حفل افتتاح الدورة أكثر من 40 رئيس دولة، و40 ألف مشاهد، إضافة إلى ثلاثة مليارات شخص تابعوها على شاشات التلفزة، وقام بتغطية أحداثها 3000 صحافي قدموا من 123 بلداً لتمثيل مئات القنوات التلفزيونية والإذاعات.

إنجازات باهرة وحضور حاشد وكل ذلك يترجم بلغة السياسة إلى عبارة لا محيد عنها : روسيا تتألق. وبالطبع، فإن ذلك يكفي ويزيد لإثارة حنق الغرب وغيرته.

حنق وغيرة ترجما أولاً بتغيب رؤساء عديدين بينهم رؤساء الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا عن حضور حفل الافتتاح. وكانا قد بدآ بالظهور منذ سنوات لمنع فوز روسيا باستقبال دورة الألعاب الحالية. وبعد فوزها، لمقاطعة المباريات. وخلال المباريات، لتخريبها أو لتعكير صفوها. مسؤولون سياسيون، ومنظمات غير حكومية، ومعارضات محلية ووسائل إعلام بالغة السطوة، وحركات إرهابية. جوقة ضخمة عملت بكل جهدها للحيلولة دون هذا التألق الروسي.

تهديدات بتنفيذ تفجيرات وعمليات انتحارية في سوتشي. ومحاولة فاشلة لاختطاف طائرة ركاب مدنية أوكرانية إلى سوتشي.

وكلام كثير عن الأضرار التي يلحقها بناء القرية الأولمبية بالبيئة. وعن استغلال العمال الأجانب في بناء القرية الأولمبية. وعن التكاليف المالية الضخمة المقتطعة من أموال الشعب الروسي "المسكين". وعن الفساد واقتطاع مبالغ من هذه الأموال لصالح كبار المسؤولين الروس. موبقات قد يحق لأي كان أن يدين روسيا لارتكابها، عدا الولايات المتحدة والبلدان الدائرة في فلكها لا لسبب إلا لعلو كعبها وتفوقها المنقطع النظير في جميع هذه المجالات.

وهل يمكن لـ"حقوق الإنسان"، حصان طروادة المعاصر الذي يركبه الغرب لإمرار مشاريع الهيمنة، أن تغيب عن معترك سوتشي؟   

الدوائر الخمس المتشابكة التي تشكل رمز الألعاب الأولمبية تحولت في أحد الإعلانات الدعائية المعادية إلى "قبضة أميركية ملطخة بالدم" (بوكس حديد باللغة الدارجة)، في إشارة إلى العنف الذي تزعم الأجهزة الغربية أن روسيا تمارسه بحق شعبها.

وخصوصاً بحق "حقوق" المثليين الجنسيين : منذ السابع من آب/ أغسطس الماضي رفع عدد من المنظمات غير الحكومية ومنظمات النشطاء من أجل قضية المثليين الجنسيين عريضة إلى "اللجنة الدولية الأولمبية" طالبوا فيها بإلغاء دورة سوتشي لأن الكرملين كان قد سن قوانين تمنع توجيه دعايات تشجع المثلية الجنسية عند القاصرين.

وقد جاء رد الرئيس بوتين على هذه التخرصات المشينة متألقاً بمستوى تألق سوتشي: "إذا كنتم لا تريدون حماية أولادكم، فلا تحموهم! من جهتنا، نحن لا نتدخل في شؤونكم".
2014-02-18