ارشيف من :نقاط على الحروف
الإعلام والأخلاق والفصام ثالثهما...
بعد مأثرة "الانتحاري صلاح غندور" و"الاستشهادي معين أبو الضّهر" الشّهيرة على قناة Mtv، عاد السّؤال حول الأخلاقيّات المهنيّة في الإعلام اللّبناني إلى الواجهة. واحتدم الجدال أكثر مع عرض برنامج "هيدا حكي" (يُبثّ عبر قناة Mtv أيضاً) لصورة مركّبة (Photoshop) يظهر فيها النائب محمد رعد مراقصاً النّائبة بهية الحريري، بلباس رقص مستفزّ. أثارت الصورة حفيظة شريحة لا يُستهان بها من المجتمع اللّبناني، وانقسم الشّارع بين مؤيّد ومعارض. فهل يحقّ للقناة العزيزة، وسواها، عرض ما تشاء، أنّى ما تشاء، وكيفما اتّفق؟ أم أنّه يفترض من جميع وسائل الإعلام احترام سلّم القيم الاجتماعيّة للبيئة اللّبنانيّة؟
صورة "هيدا حكي" والنوّاب الرّاقصون.
لا ترى د. مهى زراقط، الأستاذة في كليّة الإعلام في الجامعة اللّبنانيّة، اعتداءً على الحريّة الخاصّة في صورة "هيدا حكي" الشّهيرة، لكنّها تؤكّد أنّ الصّورة تنتهك منظومة القيم الاجتماعيّة اللّبنانيّة. حدود الانتهاك لا تتوقف هنا، إذ "تمسّ الصّورة بقيم تؤمن بها الشّخصيّات التّي تمّت السّخرية منها"، وهنا لبّ القضيّة.
"لسنا في أوروبا، وبالتّالي لا يمكننا عرض امرأة محجّبة ببدلة رقص" تؤكّد زراقط، مستشهدةً بالكاريكاتور المهين لرئيس مجلس الوزراء البريطاني طوني بلير أثناء غزو العراق (2003). "لقد تمّ تصويره بشكل بشع جداً، لكنّ القيم الاجتماعيّة، ومفهوم الحريّة الإعلاميّة في أوروبا تتقبّل ذلك وتستوعبه".
تؤكّد د. زراقط أنّه "لا يمكننا إسقاط القيم الغربيّة على مجتمعاتنا، وانتظار تقبّلها ببساطة"، فـ "تطوّر الحرّيات الإعلاميّة يجب أنّ يسير بشكل طبيعي" بما ينسجم مع تطوّر السّياقات التّاريخيّة والاجتماعيّة هنا، و"علينا احترام ذلك".
تعتبر د. زراقط أنّ ما تمّ تقديمه على سبيل السّخريّة يقصد الاستفزاز فقط لجذب المشاهدين. هذه الصّدمة-الاستفزاز دليل رهبة من "حجم المنافسة الكبير ومصدره ظهور برنامج مماثل على شاشة أخرى، وهنا ينتهي حجم المسألة".
تصرّح الصحافيّة في جريدة "الأخبار"، ضحى شمس، ان ما قامت به mtv " خطأ أخلاقيّ".
تشرح شمس أنّ "الإعلام الغربي شنّ حملة عنيفة على البابا في تسعينيّات القرن الماضي على خلفية منعه استخدام إحدى وسائل منع الحمل. إذ تمّ تصوير البابا كاريكاتورياً كذبابة تزعج المذيع فيما يعلو صوت ترنيمة هللويا". شمس الرّافضة لهذا الأسلوب تؤكّد أنّ الغرب يتقبّل ذلك لأنّ قيمه متمايزة عن قيمنا.
لكنّها تستنكر بحدّة تجريح النّائبة الحريري، لأنّه يشكّل إدانة لذكوريّة المجتمع تجاه المرأة العاملة في الشّأن العام، إذ يستسهل الجميع الطعن في أنوثتها، وهو جزءٌ من العنف ضدّ المرأة.
إنتحاري أم استشهادي؟
ترى د. مهى زراقط أنّ منظومة القيم والمعايير العالمية للصّحافة تشدّد على استخدام مصطلحات محايدة. أمّا الخطأ الأخير (الانتحاري صلاح غندور، الاستشهادي معين أبو الضّهر) فغير مقبول بتاتاً كما تشدّد زراقط، سائلةً: "كيف يتساوى من استشهد دفاعاً عن الوطن مع من يقتل الأبرياء؟"
تردّ د. زراقط هذا الخطأ إلى خلل في الفهم والقراءة لهذه العمليات، وتعزو ما بثّته Mtv إلى الجهل في أحسن الأحوال، "إذا أردنا فهم ذلك على أنّه حسن النيّة".
فـMTV تعيش شيئاً من الفصام والانفصال عن الواقع في فهمها للمجتمع اللّبناني وتفاعلها معه. تعتبر د. زراقط انّ "المشكلة في إعلامنا تكمن في غياب التّأسيس الجيّد للصّحفيين، فبعض هؤلاء لا يعرف شكل خريطة لبنان!". لذا "من الواجب العمل على تكوين الصّحافي ليتحسس القضايا الاجتماعيّة ويفهمها بشكل ينعكس في أدائه الإعلامي".
أمّا الصّحافيّة ضحى شمس فتشدّد على أنّ "اللّغط في المصطلحات في آخر 10 سنوات يهدف إلى إفراغها من معانيها الحقيقية، وتفخيخ اللّغة بالمعاني الملغومة".
وترى شمس أنّ "الانتحاريين من الزملاء ستتعرّض مهنيّتهم للانفجار بسبب اللّعب والتّذاكي على الجمهور بشكل غير مبرّر، إنّ كان ذلك ينمّ عن قناعة خاصّة أو غير خاصة (أجندة المؤسّسة)". هذه السقطات تشوّه عمل صاحبة الجلالة في الرّقابة على السّلطات. فـ "للسّلطة الرّابعة دورٌ أساسيّ في الإسهام بصناعة الرأي العام، وتعرض يومياً أخطاء فادحة تعزّز حدّة الصّراع السّياسي على كافة شاشات التّلفزة بدون استثناء، ولكن بنسب متفاوتة".
وقد باتت شمس تقرأ الجرائد اليوميّة، وتتابع الأخبار على التلفزيون بحذر، لأنّ "قلّة من الأصدقاء والأعدقاء (منافسي المهنة) تلتزم بالمعايير المهنيّة، فالالتزام بهذه الأصول بات مقتصرا على الأشخاص، وكلّ المؤسسات تُخطئ". أمّا هذه الأخطاء، فبعضها مبرّر لأنّ واقعنا اليوميّ غير طبيعي، والبعض الآخر لا عذر له".
الحريّة الشّخصيّة في الأخلاق الإعلاميّة
يُعرّف لالاند (Pierre André Lalande) الأخلاق، في معجمه، على أنّها "القواعد المقبولة في عصر ما وجماعة ما".
ومن المعروف أنّ دور الإعلام نقل الحقيقة، والتّعبير عن نبض الشّارع، وعكس تطلّعات المجتمع. بالتّالي، من البديهيّ أنّ يلتزم الإعلام قيم المجتمع الذّي يعبّر عنه، إلى جانب احترام أخلاقيّات مزاولة الصحافة (Déontologie).
البحث عن الحقيقة، والتزام الولاء أوّلاً وأخيراً للجمهور، وتحمّل المسؤوليّة تجاهه، إضافةً إلى التّحقق من مصداقيّة المعلومات ودقّة مصادرها، والحياديّة تجاه الشّخصيّات والموضوعات كلّها أسس تشكل قواعد سلوكيّة ملزمة في أخلاقيات الصّحافة.
ولتحديد أخلاقيّات مزاولة الصحافة (La déontologie journalistique) تمّ وضع عدد من المواثيق الدّولية، يبقى أبرزها إعلان حقوق وواجبات الصحفيين المعروف بميثاق ميونيخ (1971)، وقد تبنّته "الفدرالية الدولية للصحفيين Fédération internationale des journalistes FIP".
وقد ورد في البند الخامس من إعلان الواجبات في الميثاق أنّه على الصّحفيين "التقيد تلقائياً وبشكل ذاتي باحترام الخصوصية" أي خصوصيّة الشّخصيات المتناولة، وحياتها الشّخصيّة، وبالتّالي قيمها.
أمّا ميثاق الشرف المهني للجمعية الأمريكية للصحفيين المحترفين فتحدّث حرفياً، وبشكل أوضح من ميثاق ميونيخ عن "تجنب تناول الأخبار من منطلق صور نمطية تتركز حول اللون، والجنس، والعمر، والدين، والعرق، والجغرافيا، والتفضيل الجنسي، والإعاقة، والشكل الخارجي، والحالة الاجتماعية".
أمّا سيرج لاتوش Serge Latouche فيرى أنّ الإعلام جزء من شبكة العولمة التكنو-اقتصادية والثقافية التّي تجتاح العالم، وينصبّ اهتمامها على مضاعفة الأرباح والتّوسع، مما يمكّنها من زعزعة نظام القيم، وخلق أزمات أخلاقية. لذا يؤكّد لاتوش على ضرورة سنّ "قانون للسلوك الحسن".
ومع تحوّل الإعلام إلى صناعة، سلعتها المعلومة والصورة، بات للعائدات الإعلانيّة سطوتها على المؤسسات الإعلاميّة. فهل سقطت الأخلاق والمحرّمات كلّها بإسم حريّة ملتبسة لا يمكنها أن تتشكّل إلاّ إذا شوّهت الخاصّ وحطّمته؟ وأين الحريّة من الرّقابة الذّاتيّة والمسؤوليّة؟