ارشيف من :آراء وتحليلات
أوكرانيا تنتظر من يُعينها في أزمتها
الاتحاد الأوروبي العاجز عن إنقاذ بلدان أعضاء كاليونان أو قبرص أو إيرلندا والمهدد هو نفسه بالتفكك، لا يمكنه أن يقدم شيئاً لأوكرانيا. كل الوسائل جيدة في نظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عندما تكون الغايات ديموقراطية، بالمعنى الذي تلبس فيه الديموقراطية معنى الخبث والصفاقة.
بعد عشرين عاماً من الاستقلال، ترزح أوكرانيا اليوم تحت ثقل مديونية تزيد على 80 مليار دولار، وهي التي كانت تحتل، داخل الاتحاد السوفياتي السابق، المرتبة الثانية بعد روسيا في مجالات الإنتاج الصناعي والزراعي.
مثال واحد، بين أمثلة لا تحصى، يكفي لإعطاء فكرة عن عملية النهب التي تعرضت لها أوكرانيا : فيكتور بينشوك، المواطن الأوكراني اليهودي هو اليوم واحد من كبار الأثرياء في العالم. كان شريكاً في شركة "انتربيب" لأنابيب الغاز. لكنه جمع ثروته في مكان آخر عبر الاستفادة من نفوذ والد زوجته، ليونيد كوتشما، الذي شغل منصب الرئاسة في أوكرانيا بين العام 1994 والعام 2005. اشترى بمبلغ 800 مليون دولار أكبر مجمع لصناعة التعدين في أوكرانيا بعد خصخصته من قبل كوتشما. الثمن الفعلي للمجمع يزيد على 5 مليارات دولار.
مديونية أوكرانيا الحالية هي نتاج صفقات من هذا النوع لفائدة حفنة من المسؤولين السياسيين. في طليعتهم يوليا تيموشينكو التي احتلت منصب رئاسة الوزراء في ظل الثورة البرتقالية، ودخلت السجن عام 2011 بتهمة الاختلاس، قبل أن يطلق سراحها في ظل الانقلاب الحالي لتحتل موقعاً قد يكون الأكثر تقدماً بين المرشحين للرئاسة.
كانوا يخصخصون ممتلكات الدولة لقاء مبالغ هزيلة وبالنتيجة تجد الدولة نفسها مضطرة إلى الاقتراض لتغطية النفقات العامة. إنها عملية نهب منظمة قام بها حوالي 50 من كبار المتنفذين الذي راكموا ثروات تزيد على 110 مليارات دولار.
وفي ظل هذا النهب، تدين أوكرانيا بقسم كبير من بقائها لروسيا. فهي تبيعها الغاز بأسعار مخفضة ما يوفر عليها أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً؛ وتستورد معظم منتجاتها الصناعية غير القادرة على دخول الأسواق الغربية حتى لو انضمت أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ ومنحتها منذ شهرين 20 مليار دولار (منها 5 مليارات تم تسليمها حتى الآن) لمساعدتها على تجنب الإفلاس الكامل.
ومنذ انتخاب فيكتور إيانوكوفيتش والمصالحة بين روسيا وأوكرانيا عام 2010، لم توفر الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية وسيلة من أجل زعزعة أوكرانيا لأسباب جيوستراتيجية على صلة بموقعها الجغرافي وسط أوراسيا التي تشهد صعوداً سريعاً لقوى جديدة مثل روسيا والصين والهند وإيران، مع ما يشكله ذلك من تهديد جدي للهيمنة الغربية.
وفي هذا الإطار، تم إطلاق عشرات مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية المتخصصة في العمل من أجل الديموقراطية المزعومة، بالتوازي مع تجنيد المشاغبين المدربين من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية لتقوم بدور جماعات صدامية في زعزعة البلدان المستهدفة، ومنها أوكرانيا.
ولكي يظهر الطابع الديموقراطي المميز للعملية الانقلابية، تحالف الغربيون مع الفاشيين الجدد في أوكرانيا. وكل ذلك من أجل تنفيذ انقلاب على الطريقة التي سبق تجريبها بنجاح في جورجيا من أجل تنصيب ساكاشفيلي، أو في رومانيا عندما تم اعتقال تشاوشيسكو وإعدامه مع زوجته.
سيناريوهات مشابهة كانت تقض مضجع إيانوكوفيتش الذي وجد نفسه مضطراً، بعد ساعات قليلة من رضوخه لجميع مطالب المعارضة، إلى الهرب خوفاً من القتل أو المثول أمام محكمة دولية ليموت في زنزانة شأن سلوبودان ميلوسيفيتش الذي عوقب بهذه الطريقة لا لشيء إلا لأنه ناضل في وجه رياح الناتو والاتحاد الأوروبي التي كانت تهب على بلاده، يوغوسلافيا.
لكن كل شيء يبعث على الاعتقاد بأن التاريخ الذي سمح للغرب بالاستفادة من شلل روسيا -لابتلاع العديد من بلدان المعسكر السوفياتي السابق- لن يتجدد في أوكرانيا التي تعيش ثورتها البرتقالية حالة من التخبط والترنح الدائمين.
فالجيش الروسي بدأ بالتحرك في القرم وعلى طول الحدود الفاصلة بين أوكرانيا وروسيا. وإذا كان الحس السليم يستبعد نشوب حرب شاملة يشارك فيها الناتو، فقد بات من الصعب تجنب الحرب الأهلية وتقسيم أوكرانيا.
فعلى الأقل، في حال تجنب هذه الاحتمالات المظلمة، وارتماء أوكرانيا في أحضان الغرب، لا شيء ينبئ بأنها ستدخل الجنة بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
فالاتحاد الأوروبي العاجز عن إنقاذ بلدان أعضاء كاليونان أو قبرص أو إيرلندا والمهدد هو نفسه بالتفكك، لا يمكنه أن يقدم شيئاً لبلد ينوء تحت ثقل مديونية ضخمة ومعرض لأن يواجه ارتفاعاً أكيداً في منسوب البطالة و"البرد" في حال ردت موسكو وأوقفت المعاملة التفضيلية التي تخص بها أوكرانيا في مجالات ليس أقلها مجال الغاز.
على الأكثر، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتوسط لأوكرانيا عند صندوق النقد الدولي ليمنحها قروضاً (تذهب بمعظمها إلى جيوب المسؤولين الجدد) مقابل شراء ما تبقى من مقدراتها بأبخس الأثمان.
بانتظار ما سيجد، العاصمة كييف تحتفل مع المقاطعات الغربية بالعملية الانقلابية وتحلم بمستقبل أفضل. أما في جنوب البلاد وشرقها حيث تعيش أكثرية تتكلم الروسية وتتعلق بروسيا، يصر الجميع على أن رئيسهم هو إيانوكوفيتش وأنهم يريدون الانضمام إلى روسيا.
ولا يصعب تخيل ما سيجد. "ربيع" بائس جديد يضرب الشعب الأوكراني ويستمر حتى اللحظة التي يحدث فيها تغيير جديد ومصالحة جديدة مع روسيا تعين أوكرانيا على النهوض من جديد.