ارشيف من :آراء وتحليلات
مؤتمر بغداد الدولي لمكافحة الارهاب.. خطوة بحاجة الى خطوات اخرى
ربما لا يختلف اثنان على ان مؤتمر بغداد الدولي لمكافحة الارهاب، الذي استضافته العاصمة العراقية بغداد يومي الثاني عشر والثالث عشر من الشهر الجاري، مثل تظاهرة عالمية مهمة في هذا الوقت بالذات، تتبلور وتنعكس اهميتها الحقيقية حينما يتم استثمارها وتوظيفها بالشكل الصحيح، بالنسبة للعراقيين بالدرجة الاساس، باعتبار ان العراق من بين اكثر الدول التي كانت وما زالت هدفا رئيسيا للتنظيمات الارهابية التكفيرية.
لا شك ان تبني العراق تنظيم هذا المؤتمر واستضافته ينطوي على رسالة تحمل بعدين، البعد الاول، ان الارهاب الذي تعرض له العراق طيلة الاحد عشر عاماً الماضية فشل في تمرير وفرض مخطط تدمير وانهاء الدولة العراقية مثلما خططت وارادت الاطراف والقوى التي دعمت ومولت التنظيمات الارهابية، سياسيا وماليا واعلاميا وعسكريا، والبعد الثاني، ان العراق نجح رغم الكثير من التحديات والمخاطر التي واجهها -وما زال يواجهها- في ان يسجل حضورا سياسيا مهما في الساحتين الاقليمية والدولية، انعكس ذلك الحضور بحراك متواصل بين بغداد والعواصم الاخرى، ترجمه الانفتاح الكبير في اتجاهات وجوانب مختلفة، والتفاهمات والتفهمات المشتركة التي ساهمت في اغلاق ملفات عالقة، واحتواء قضايا معلقة، ولعل انعقاد المؤتمر كان بحد ذاته مؤشرا واضحا على حقيقة التوجهات الاقليمية والدولية باطارها العام حيال العراق.
ربما نظر البعض الى غياب التمثيل عالي المستوى في المؤتمر، ( زعماء دول او رؤساء حكومات او وزراء خارجية ) على انه تعبير عن عدم ايلاء الدول التي وجهت لها الدعوة لحضور المؤتمر الاهتمام الكافي والمطلوب به، وهذه الرؤية قد تكون صحيحة من زاوية معنية، بيد انها ليست كذلك اذا ما نظرنا الى الامر من زاوية اوسع، او من زوايا اخرى.
فالمؤتمر ومثلما سمعنا من بعض المعنيين بالتحضير له، لم يرد منه ان يكون استعراضا سياسيا، يرتبط نجاحه بمستويات الحاضرين والمشاركين فيه، وانما تمثل الهدف من عقده بأن يكون بمثابة ورشة عملية، تشخص اسباب ومسببات الارهاب ومحركاته وحواضنه وشرايين تمويله ودعمه، وسبل ووسائل مواجهته، ليخرج من حدود الشعارات الى فضاءات التطبيقات.
وربما ارتباطا بهذه الحقيقة، تمثل الحضور في المؤتمر بأربعة مستويات، الاول، وكلاء وزارات الخارجية، والثاني رؤساء اجهزة مكافحة الارهاب والاجهزة الامنية والاستخباراتية، والثالث ، رؤوساء وممثلو المنظمات الدولية والاقليمية، والمستوى الرابع تمثل بالباحثين والاكاديميين والمتخصصين في شؤون الارهاب والتنظيمات الارهابية.
وهذا الحضور، من حيث طبيعته ومستواه، كان كفيلا بطرح ومناقشة التفاصيل والجزئيات، وبحث المخاطر والتحديات التي تواجهها مختلف الدول والمجتمعات من الارهاب.
وبعيدا عن الجلسة الافتتاحية التي شهدت القاء كلمات لعدد من رؤوساء وممثلي الدول المشاركة، فان باقي الفعاليات كانت عبارة عن ورش وحلقات نقاشية لالقاء البحوث والدراسات التخصصية بمفردات ومفاهيم وممارسات وسلوكيات مختلفة في اطار موضوعة الارهاب، ومناقشة الامور كما هي على ارض الواقع.
وطبيعي انه جرت على هامش المؤتمر حوارات ونقاشات معمقة بين مسؤولين امنيين عراقيين ونظراء لهم من دول اخرى، اذ ان ملتقى كبيرا مثل مؤتمر بغداد الدولي لمكافحة الارهاب، لا بد ان يمثل فرصة لعقد لقاءات تتجاوز الطابع البروتوكولي، قد لا تتيح الظروف الطبيعية عقدها بسهولة، فضلا عن ذلك فان اللقاءات والحوارات ذات الطابع الثنائي، يمكن ان تحل مشاكل وتفك عقدا وتحل معضلات، تعجز عن حلها وفكها والتغلب عليها مؤتمرات كبرى، ناهيك عن ان هناك مسائل يصعب طرحها وبحثها خارج نطاق الدوائر الضيقة لاعتبارات ودواعٍ عديدة.
وتنوع المستويات، الذي عكس الجانب النوعي للمؤتمر اقترن بالجانب الكمي، المتمثل بمشاركة اكثر من خمسين دولة من مختلف القارات، الى جانب اكثر من خمس عشرة منظمة دولية واقليمية في مقدمتها منظمة الامم المتحدة، وكذلك مشاركة مراكز ومؤسسات بحثية واكاديمية عديدة، وهذا النوع والكم ساهم في طرح ومناقشة موضوعة الارهاب من كل زواياها وجوانبها، ولعل البيان الختامي للمؤتمر تضمن اشارات واضحة لطبيعة وفحوى القضايا المطروحة على طاولة البحث والنقاش.
فتعزيز التعاون الدولي في مجال تبادل المعلومات والخبرات والاستجابة لطلبات تسليم المجرمين والمتهمين بجرائم ارهابية او الصادرة بحقهم احكاما قضائية، كان من بين ابرز القضايا التي تم الاجماع عليها بين المؤتمرين، وكذلك اهمية السعي لتطوير المنظومة القانونية الدولية المتعلقة بالاعلام، الى جانب تطوير القوانين الوطنية المتعلقة بمكافحة الارهاب بما في ذلك التمويل والترويج والتجنيد والتحريض وفق المعايير والمواثيق الدولية، واعداد برامج تربوية وثقافية تستهدف تحصين الشباب من التطرف الفكري والثقافي الذي ينمي ظاهرة الارهاب، اضافة الى تشكيل امانة عامة لهذا المؤتمر لتنفيذ ومتابعة توصياته والاعداد للمؤتمر القادم لمكافحة الارهاب، تضم في عضويتها الدول الراغبة بالمشاركة فيه.
ومثلما اكد ساسة عراقيون واجانب، مثل المؤتمر خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، انطلاقا من حقيقة أن ظاهرة الإرهاب لم تعد محددة بجغرافيا معينة أو بيئة سياسية خاصة، إنما باتت سمة العصر، وانها اخذت تتمدد وتنتشر مع البيئة الأمنية لكل بلد، وتبرز تلك الظاهرة الخطيرة في منطقة الشرق الاوسط بدرجة اكبر من بقية مناطق العالم، والعراق يتحمل منذ عقد من الزمن جزءا كبيرا من التبعات والاثار المأساوية لهذه الظاهرة.
واذا كان مؤتمر بغداد الدولي الاول لمكافحة الارهاب قد خرج بنتائج ايجابية جيدة استنادا الى مجمل التقييمات والقراءات الموضوعية له، رغم غياب عدد من الشخصيات والزعامات السياسية العراقية، ذلك الغياب الذي اثار جملة تساؤلات واستفاهامات داخل اروقة المؤتمر وخارجه، ورغم مقاطعة السعودية وقطر- المعنيتين اكثر من غيرهما بملف الارهاب في المنطقة- للمؤتمر، اذا كان المؤتمر قد خرج بنتائج ايجابية جيدة، فان ذلك لا يعني نهاية المطاف، بل تبقى العبرة بتفعيل ما تم الاتفاق والتوافق عليه وترجمته عمليا، وحينما تتبدل الوقائع والمعطيات والحقائق على الارض، لا سيما في العراق، اي حينما تنحسر وتختفي مشاهد القتل الدموي، حينذاك يمكننا القول ان مؤتمر بغداد اثمر شيئاً له قيمة بالنسبة للعراقيين، وغيرهم من الذين تسفك دماؤهم وتزهق ارواحهم كل يوم.