ارشيف من :آراء وتحليلات
الحقوق القومية للشعب الروسي ليست مضغة أميركية
يوم الاحد في 16 اذار الجاري، وفي جو من التوتر الدولي المحموم الذي يحيط بالازمة الاوكرانية، جرى في شبه جزيرة القرم استفتاء شعبي عام حول مستقبل هذه الجمهورية ذات الاستقلال الذاتي داخل الدولة الاوكرانية. وكانت فحوى الاستفتاء هي حول الموافقة على الانضمام الى الجمهورية الفيديرالية الروسية، او البقاء ضمن كيان الدولة الاوكرانية مع توسيع نطاق الحكم الذاتي القائم.
وعشية الاستفتاء كانت الولايات المتحدة قد تقدمت بمشروع قرار الى مجلس الامن الدولي، تعتبر فيه الاستفتاء بأنه غير شرعي. وقد حاز مشروع القرار 13 صوتا، وامتنع المندوب الصيني عن التصويت واقترح العمل على حل الازمة بالطرق الدبلوماسية. ولكن المندوب الروسي استخدم حق النقض "الفيتو"، وأفشل القرار. وكان ذلك متوقعا طبعا. وصرح المندوب الروسي فيتالي تشوركين بأن مبدأ الاستفتاء هو صحيح بحد ذاته وينسجم مع القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة، حول حق تقرير المصير للشعوب. وأن هذا المبدأ قد طبق في اماكن مختلفة من العالم، مثل كوسوفو، وتيمور الشرقية، وجبل طارق وغيرها. فلماذا يتم استثناء شعب جمهورية القرم من هذا الحق؟
والواقع ان الدول الغربية التي صوتت ضد الاستفتاء في شبه جزيرة القرم، هي ذاتها كانت قد صوتت الى جانب قصف جمهورية صربيا والى جانب اجراء الاستفتاء في كوسوفو، علما ان كوسوفو هي تاريخيا ارض صربية توافد اليها الالبانيون، بينما ان شبه جزيرة القرم كانت ارضا روسية، وتقطنها غالبية سكانية روسية منذ مئات السنين. وقد "اهداها" نيكيتا خروشوف الزعيم السوفياتي الاسبق (الاوكراني المولد) الى اوكرانيا في الحقبة السوفياتية سنة 1954، بدون اخذ رأي "شعبها"، وبدون اخذ رأي الشعب الروسي بالاجمال.
ولكن فشل إمرار القرار الاميركي في مجلس الامن لم يمنع المندوبة الاميركية من التصريح التعسفي ان شبه جزيرة القرم هي اوكرانية اليوم وستبقى غدا اوكرانية، وان الاستفتاء حتى يكون قانونيا ينبغي ان يجري بموجب القوانين الاوكرانية وعلى كامل الارض الاوكرانية.
ولكن هذا التصريح لم يجد له اي انعكاس لدى الشعب المعني بالذات، اي شعب شبه جزيرة القرم ذاته، بل على العكس تماما، فقد ساهم هذا الاستفزاز الاميركي في تحفيز اهالي شبه جزيرة القرم على المشاركة الواسعة في الاستفتاء، حيث فاقت نسبة المشاركة كل التوقعات المسبقة، التي كانت تتوقع ان تتراوح المشاركة بين نسبة 75% و80%. ولكن نسبة المشاركة في الاستفتاء بلغت حسب الاحصاءات الرسمية 82.71%. وصوت اكثر من 95% من المشاركين في الاستفتاء لمصاحة الانضمام الى روسيا الاتحادية. وقد اجتمع مجلس النواب لجمهورية القرم في صباح اليوم التالي 17 اذار الجاري واتخذ قرارا بارسال وفد برلماني الى موسكو لتقديم الطلب الرسمي الى البرلمان الروسي والسلطات التنفيذية والرئاسة الروسية، للانضمام الى روسيا الاتحادية. وفي اتصال هاتفي بين الرئيسين الاميركي اوباما والروسي بوتين، قال بوتين ان الاستفتاء هو شرعي تماما.
يذكر ان الاستفتاء جرى في اجواء احتفالية حيث عبر الناس على نطاق واسع عن فرحتهم العارمة بالعودة الى الوطن ـ الأم روسيا. ولم تجر يوم الاستفتاء اي حادثة مخلة بالامن، كما لم يسجل اي خرق قانوني. وهذا ما شهد به المراقبون الدوليون الذين جاؤوا من اكثر من 20 بلدا لمراقبة الاستفتاء، وكذلك اكثر من 600 صحفي اجنبي و150 وسيلة اعلامية اجنبية تولوا المتابعة الاعلامية للاستفتاء.
وقد لاحظ المراقبون المحايدون ان السلطات الانقلابية في كييف، التي كانت تعارض اجراء الاستفتاء وتعتبره غير شرعي، لزمت الصمت ولم تعلق الا متأخرة على نتائج الاستفتاء بعد اجرائه، وذلك بلسان رئيس البرلمان الاوكراني الانقلابي تورتشينوف، الذي كرر اقوال المندوبة الاميركية في الامم المتحدة في الادعاء بلا شرعية الاستفتاء. ولكن بعض السياسيين الاوكرانيين المؤيدين للسلطة الانقلابية في كييف صرحوا بأن اوكرانيا ربما تطعن بقانونية الاستفتاء امام المحكمة الدولية.
طبعا ان هذا الاحتمال لا يمكن ان يتم الا اذا حصلت السلطة الاوكرانية الحالية على تأييد الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها اميركا، في السير في مثل هذا الاحتمال.
فهل يمكن لاميركا وحلفائها ان تقوم بمثل هذه المغامرة "الاكثر من قانونية"؟
ان ذلك مستبعد جدا، لاسباب عديدة اهمها:
ـ1 ـ ان غالبية سكان شبه جزيرة القرم هم مواطنون روس. وان غالبية الناخبين في شبه جزيرة القرم، من الاصول الروسية وغير الروسية (الاوكرانيون والتتار وغيرهم) قد صوتوا لمصلحة الانضمام الى روسيا الاتحادية. والدول الغربية ذاتها تعترف، واعترفت تكرارا مؤخرا، بحق الدولة الروسية في الدفاع عن مصالحها القومية وعن مواطنيها في الخارج عموما وفي اوكرانيا خصوصا.
ـ 2 ـ ان اسطول البحر الاسود الروسي موجود في سيباستوبول في شبه جزيرة القرم، بموجب اتفاقات تأجير طويلة الاجل مع الدولة الاوكرانية ذاتها. وان الدول الغربية تعلم تماما ان الاسطول الروسي لن يخرج من شبه جزيرة القرم مهما كان الثمن.
ـ 3 ـ ان الكثير من الدول الغربية، ولا سيما المانيا، حتى ولو سايرت اميركا في بعض المواقف المعادية لروسيا، الا ان هذه الدول ستكون حريصة في نهاية المطاف على مصالحها القومية الخاصة، التي تقتضيها عدم المواجهة والعداء مع روسيا، بحكم الجوار الجغرافي، و"عدم سهولة" معاداة الجبار الروسي، ومصلحة تلك الدول في التعاون الاقتصادي والامني مع روسيا.
ـ 4ـ ان فتح "الملف القانوني" فيما يخص جمهورية القرم ليس في مصلحة اميركا والدول الغربية، لان ذلك سيمثل سابقة لفتح جميع "الملفات القانونية" للدول الغربية واسرائيل وتركيا، من مذابح الارمن والاشوريين واليونانيين في تركيا خلال وفي اعقاب الحرب العالمية الاولى، الى شرعية "وعد بلفور" في 1917 واغتصاب فلسطين واحتلال الاراضي العربية، وصولا الى الحرب ضد صربيا وافغانستان والعراق مؤخرا، والى دعم فصل جنوب السودان، والعدوان الاطلسي على ليبيا، والحروب الاستعمارية لتمزيق افريقيا... الخ.
ـ 5ـ ان شبه جزيرة القرم الصغيرة نسبيا والمحاطة بالبحر من ثلاث جهات كان من الصعب الدفاع عنها في مستوى التسلح القديم، وكانت ارضا شبه مفتوحة تتعايش فيها شعوب وحضارات مختلفة، على رأسها الروس، منذ مئات السنين. وفي العام 1475 استولى عليها العثمانيون الذين انضم اليهم التتار. وفي العام 1783 تغلب الروس على العثمانيين وضموا شبه جزيرة القرم الى الدولة الروسية، وفي تلك السنة أسس الروس مدينة سيباستوبول، وتزايدت اعداد المواطنين الروس في شبه الجزيرة وأصبحوا يشكلون الاكثرية فيها. وأصبحت شبه جزيرة القرم ارضا روسية تعترف بها بهذه الصفة جميع الدول المعنية. وفي سنة 1921، بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا، اعلنت شبه جزيرة القرم كجمهورية ذات استقلال ذاتي ضمن الجمهورية الاتحادية السوفياتية الروسية.
ـ 6ـ وفي سنة 1954 قام الرئيس السوفياتي الاسبق (الاوكراني المولد) نيكيتا خروشوف بفصل جمهورية شبه جزيرة القرم ذات الحكم الذاتي عن روسيا الفيديرالية و"إهدائها" الى جمهورية اوكرانيا السوفياتية حينذاك. وهذا هو "المستند القانوني" الوحيد الذي تستند اليه السلطة الاوكرانية الانقلابية الحالية في الصفة "الاوكرانية" لشبه جزيرة القرم. ولكن جميع المؤسسات التمثيلية للشعب الروسي تطعن في شرعية "إهداء" شبه جزيرة القرم الى اوكرانيا. وأما شعب شبه جزيرة القرم (وغالبيته ـ حوالى 65% ـ هي من الروس) فيعتبر ان "المرحلة الاوكرانية" من تاريخه المعاصر هي "مرحلة احتلال"، وهو يطالب، وسوف يحارب، من اجل العودة الى "الوطن الأم ـ روسيا". وقد عبر شعب جمهورية شبه جزيرة القرم عن ارادته الحقيقية في الاستفتاء الشفاف الذي جرى امام انظار العالم المتحضر بأسره في 16 اذار الجاري. وليس هناك قوة في العالم ستستطيع ارجاع عقارب الساعة الى الوراء، وكسر ارادة شعب جمهورية شبه جزيرة القرم، الذي هو جزء لا يتجزأ من الشعب الروسي العظيم، الذي استوعب فيما مضى النازية الهتلرية وسحقها، وهو كفيل اليوم بسحق اي فاشستية جديدة وإن كانت اميركية.