ارشيف من :آراء وتحليلات
شبح المجاعة الشاملة يخيم فوق العالم
الإحساس العام بخطر الجوع يحفز في أيامنا أشكالاً مرعبة من النضال الهادف إلى الحصول على بعض الفتات ويسمح لقوى الهيمنة بتجنيد جيوش كاسرة للثورات بين صفوف الشبيبة العاطلة عن العمل والمسدودة أمامها آفاق العيش.
لم يسبق للجنس البشري أن اقترب من خطر الإبادة الشاملة بالشكل الذي يقترب فيه اليوم من هذا الخطر. فامتلاك البشر لأسلحة نووية تكفي لتدمير الحياة على الأرض آلاف المرات هو واحد من مصادر الخطر. لكنه ليس الأكثر خطورة لأنه يظل قابلاً للاحتواء بشكل أو بآخر.
أما الخطر الذي لا يبدو أنه يثير مخاوف البشر ولا يحفزهم، بالتالي، على العمل من أجل مواجهته فهو خطر الموت من الجوع. وهذا الخطر لم يعد قابلاً للاحتواء في إطار أنماط العيش التي تترعرع في ظل الحضارة العالمية السائدة.
فالحقيقة أن كثيراً من الضجيج بات يثار يومياً بشأن النقص الفادح والمتصاعد في مصادر الغذاء، أي في المياه والهواء وعلى مستوى دمار التربة بفعل التصحر من جهة، وارتفاع سطح البحار من جهة ثانية، واستخدام الوسائل "العلمية الحديثة" في الزراعة. ولكن كل هذا الضجيج لا يقترن بالعمل الفعال والمسؤول من أجل مواجهة المشكلة.
على العكس من ذلك، يتحول هذا الخطر إلى مجال خصب للاستثمار واستدراج الأرباح، وفي الوقت نفسه، للمزيد من دفع البشرية نحو المصير الأسود. مثال واحد على ذلك: النمو الهائل لما يسمى بالصناعات الزراعية-الغذائية التي باتت تشكل المصدر الحصري للغذاء عند ما يزيد على 85 بالمئة من البشر.
والمعروف أن هذه الصناعات تتطلب مستوى عالياً من القدرة على توظيف إمكانات مالية وعلمية وتقنية من النوع الذي لا يتوفر إلا للمزارع الأميركي الذي ينتج الغذاء لـ 30 ألف شخص، وللمزارع الأوروبي الذي ينتجه لـ 12 ألف شخص.
على ذلك، فإن هذه الصناعات تضع الأكثرية الساحقة من البشر خارج نطاق القدرة على إنتاج الغذاء بحكم الاكتظاظ -بالملايين وعشرات الملايين- في مدن يأتيها الغذاء عن بعد مئات وألوف الكيلومترات. الأمر الذي يستدعي التفكير مثلاً فيما سيكون عليه حال سكان طوكيو (35 مليون إنسان) أو نيويورك (25 مليون إنسان) أو القاهرة (25 مليون إنسان)، أو حتى في أصغر قرية ماتت فيها الزراعة التقليدية، فيما لو توقف، لسبب أو لآخر، تزويدها بشكل يومي بما يكفي من الماء والغذاء.
وإذا كانت الصناعات الزراعية-الغذائية تقدم حماية من الموت جوعاً للأقلية القادرة على شراء منتجاتها، في ظل الارتفاع المستمر في الأسعار والتزايد السريع في نسبة من لا تزيد مداخيلهم عن دولار واحد يومياً، فإنها تقربهم من الموت من طرق أخرى (السمنة المفرطة تضرب ربع الأميركيين ونسبة أعلى من سكان الخليج، وأمراض السرطان والسكري والقلب والشرايين تستفحل في عالم اليوم لأسباب منها ما هو على صلة بتلك الأغذية).
وفي الحالتين، بات من المؤكد أن "النخبة العالمية"، "أسياد العالم" قد تمكنت من وضع الغالبية الساحقة من بني البشر أمام خيارين: الموت جوعاً (أربعون مليون إنسان يموتون سنوياً من الجوع، والرقم في تصاعد) أو الموت بالسموم التي تحتويها الأغذية المصنعة.
الخوف من التكاثر البشري وتناقص الموارد
أما السبب الذي يدفع تلك النخبة إلى خلق هذا الوضع فهو الخوف من التكاثر البشري وتناقص الموارد. والحقيقة أن هذا الخوف هو في أساس الدعوات التي ظهرت منذ عقود إلى "تنظيم الأسرة" (الحد من التوالد) لتأخذ في أيامنا شكل الدعوة الصريحة، من قبل سياسيين ونافذين في الولايات المتحدة خصوصاً، إلى تقليص عدد سكان الكوكب إلى ما لا يزيد عن 500 مليون نسمة.
وهنا يكون عالم اليوم قد بدأ بتجاوز الإشكاليات التقليدية المتمثلة بالاستعمار والاستعباد ونهب ثروات الشعوب، وبات عليه أن يتصدى لحل إشكالية جديدة هي التصدي لمشروع الإبادة الشاملة.
والحقيقة أن هذا المشروع يحقق نجاحات كاسحة في عالم اليوم عن طريق الحروب المصطنعة، والأزمات المالية والاجتماعية المصطنعة، والإمعان في مفاقمة الكارثة المناخية المصطنعة بكل انعكاساتها السلبية على "الأمن الغذائي" تحديداً...
على هذا الأساس، أصبح سعي الأكثرية الساحقة من البشر إلى "تحسين أوضاعهم" من خلال النضال المطلبي أو من خلال ثورات من الأنماط التقليدية، سعياً محكوماً عليه بالفشل. لا بل إن النخبة العالمية باتت قادرة حتى على توظيف النضالات والثورات التقليدية وشعارات الحرية والديموقراطية وحقوق الرجل والطفل والمرأة والمعاقين والحيوانات لخدمة مخططاتها التدميرية.
صحيح أن جبهة عالمية هامة تثبت اليوم قدرتها على التصدي لمشاريع الهيمنة التقليدية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. لكن تضعضع الدولة الأميركية نفسها، ومن خلفها غالبية الدول أمام أشكال السلطة الجديدة المتمثلة بالمؤسسات المالية والشركات العابرة للقارات وفي طليعتها تلك التي تسيطر على الغذاء ومصادر الغذاء، يستدعي أشكال نضال جديدة.
والحقيقة أن الإحساس العام بخطر الجوع يحفز في أيامنا أشكالاً مرعبة من النضال الهادف إلى الحصول على بعض الفتات. وهذا ما يفسر قدرة الاستكبار العالمي على تجنيد جيوش كاسرة للثورات بين صفوف الشبيبة العاطلة عن العمل والمسدودة أمامها آفاق العيش. أمر طالما أعاق مسيرة التحرر البشري. لكن ذلك لا ينبغي له أن يحجب الإمكانيات الفعلية لإطلاق نضالات قادرة على مواجهة مشروع الإبادة الجديد... عبر التوجه الجدي والصارم نحو تحقيق الاستقلال الغذائي على مستوى الأفراد والجماعات والأمم.