ارشيف من :آراء وتحليلات
مخطط أمركة أوكرانيا على عتبة الفشل التام
شهد الاسبوع الماضي احداثا كبيرة في الساحة الاوكرانية، قد يصح ان ندرجها تحت عنوان عام هو "اعادة تشكيل الدولة الاوكرانية ضمن توجهات جيوستراتيجية جديدة"، وربما زوالها عن الخريطة كدولة.
وانطلقت الاحداث من قرار حكومة كييف الانقلابية باستخدام الجيش الوطني لاقتحام المناطق الشرقية والجنوبية ذات الاكثرية السكانية الروسية والناطقة بالروسية، التي تعارض اجراء الانتخابات الرئاسية في 25 ايار الجاري بناءً على النظام المركزي الحالي للدولة، وكانت تطالب باجراء الاستفتاء حول اقامة نظام فيديرالي في اوكرانيا. وقد حاولت السلطة الانقلابية في كييف اخضاع تلك المناطق بقوة الدبابات والطائرات والهليكوبترات الحربية والمدافع والصواريخ، كما بقوة العصابات الفاشستية التي جرى تأطيرها في هيكلية نظامية تابعة لوزارة الداخلية سميت "الحرس الوطني".
وقد جرت الاحداث الدامية في العديد من مدن شرق وجنوب اوكرانيا، ووقع مئات القتلى والجرحى على ايدي عصابات السلطة الفاشستية والموالية للغرب، ومن جراء القصف المدفعي والجوي للجيش النظامي الاوكراني. وفي مدينة اوديسا جرت مطاردة المتظاهرين من انصار الفيديرالية ودفعهم بالقوة الى الاحتماء في مبنى النقابات في المدينة، حيث تم اضرام النار بالمبنى بمن فيه من الناس العزل. وامام مرأى العالم المتمدن كله كان الفاشستيون يتصيدون بالرصاص كل شخص يحاول الخروج من احدى النوافذ هربا من النار، وقد خرج بعض الاشخاص من الابواب راكضين وطالبين النجدة والنار مشتعلة في ثيابهم، فكان الفاشست يطرحون الشخص الهارب ارضا ويجهزون عليه لكما ورفسا وضربا بالهراوات الغليظة (هراوات الكريكت) التي كانوا مجهزين بها سلفا. وقد سقط في هذه المحرقة في اوديسا حوالى 130 قتيلا وعدد كبير من الجرحى المصابين بالحروق او بالرصاص او المهشمة رؤوسهم بالهراوات "الديمقراطية" المستوردة خصيصا من اميركا. وجرى كل ذلك طبعا امام صمت العالم الغربي المتمدن و"الدمقراطي"، بل ان الناطقة بلسان البيت الابيض تفضلت باتهام ضحايا المحرقة بأنهم "ارهابيون" و"انفصاليون موالون لروسيا" وان القتلة المتوحشون كانوا يدافعون عن قيم "الديمقراطية" و"حقوق الانسان" على الطراز الغربي.
وكانت الدبابات، التي بالتأكيد وضع لقيادتها عناصر فاشستية، تتسلى بتوجيه مدافعها نحو حواجز التفتيش الخفيفة وغير المؤهلة عسكريا، التي اقامتها قوات "الدفاع الشعبي" على مداخل المدن "المتمردة"، وكان يتم قصف أولئك الرجال البسطاء والشرفاء الذين يقفون على الحواجز بالمدفعية، ثم تتقدم الدبابة بأقصى سرعتها لتقتحم الحاجز وهي تطلق رشاشاتها الثقيلة في كل الاتجاهات.
كما قالت نشرة "بيلد أَم زونتاغ" الالمانية انه يوجد 400 عنصر من نخبة المقاتلين المرتزقة التابعين للشركة الامنية الاميركية الخاصة التي تحمل اسم "اكاديمي"، والتي كانت مشهورة باسم "بلاك ووتر"، يقاتلون الى جانب الفاشست و"الحرس الوطني" الاوكراني ضد المتطوعين في قوات "الدفاع الشعبي" لانصار الفيديرالية في جنوب وشرق اوكرانيا. وتضيف النشرة ان المخابرات الالمانية ابلغت حكومتها بهذه الواقعة. وقد اشتهرت "اكاديمي" (او بلاك ووتر) في العراق، خصوصا في قتلها للمدنيين العزل. ويستفاد من المكالمات التي التقطت باللغة الانكليزية ان المرتزقة الاميركيين كانوا ينسقون ويقودون العمليات ضد انصار الفيديرالية في مدينة سلافيانسك.
وفيما كان الفاشست الاوكرانيون المدعومون من قبل السلطة الانقلابية والاتحاد الاوروبي والناتو واميركا يمارسون هواياتهم الدموية ضد جماهير الشعب الاوكراني المطالبة بحرياتها الانسانية المشروعة، كانت الحكومة الانقلابية في كييف تعلن الاستنفار القتالي وتحشد عشرات الاف الجنود والضباط الاوكرانيين بكامل معداتهم الخفيفة والثقيلة على الحدود مع روسيا، فيما كانت الطائرات الحربية الاوكرانية تحلق بطريقة استفزازية بمحاذاة الحدود الروسية.
مواجهات
ويقول بعض الخبراء المطلعين ان الهدف من هذه الاشتباكات المفتعلة والجرائم ضد الجماهير الروسية والناطقة بالروسية، المؤيدة للفيديرالية في اوكرانيا، والحشود العسكرية الاوكرانية الاستفزازية على الحدود مع روسيا كان ذا شقين:
الاول ـ استفزاز الجانب الروسي ومحاولة استدراج القوات الروسية الى اشتباك مهما كان "بسيطا" مع الجيش الاوكراني، من اجل اطلاق حملة صراخ بروباغندية عالمية، معدة سلفا، ضد "التدخل الروسي" و"العدوان الروسي"، لاجل تدويل الازمة الاوكرانية، وتبرير انزال قوات الناتو في اوكرانيا، اذا لم يكن لمواجهة الجيش الروسي الذي ترتعد امامه فرائص المعسكر الغربي بأسره، فعلى الاقل من اجل دعم السلطة الاوكرانية الانقلابية الحالية الموالية للغرب وحمايتها من غضب جماهير شعبها بالذات، وخصوصا من الاحتمالات المتزايدة لانقلاب القوات المسلحة الاوكرانية على سلطتها العميلة للغرب والخائنة للمصالح القومية للشعب الاوكراني.
والثاني ـ ارهاب القيادات الشعبية والنشطاء والجماهير الشعبية الواسعة في المناطق الشرقية والجنوبية، لمنع تنفيذ الاستفتاء العام حول الفيديرالية، الذي كان قد تقرر اجراؤه في 11 ايار، غداة الاستفتاء الذي جرى في القرم في 16 اذار الماضي.
ولكن المخطط الاستفزازي التآمري للسلطة العميلة في كييف فشل فشلا ذريعا في شقيه:
فأولا ـ واجهت القيادة الروسية استفزازات جـِراء الغرب في كييف على طريقة "يا جبل ما يهزك ريح"، وفي حين ادارت ظهرها لتلك الاستفزازات "الصغيرة"، وجهت رسالتها الى قادة الرؤوس الحامية في واشنطن والناتو والعالم الغربي بأسره، بأن حضر الرئيس الروسي بوتين شخصيا والى جانبه وزير الدفاع القدير سيرغيي شويغو ومجموعة كاملة من كبار المارشالات والجنرالات الروس، حضروا الى مدينة سيباستوبول في القرم وعادا حديثا الى روسيا بدون اعتراف الدول الغربية بل رغما عنها، ليشهدوا العرض العسكري البحري والجوي المهيب بمناسبة 9 ايار يوم النصر ضد الفاشستية. وشارك في العرض البحري عشرات السفن الحربية، وبينها الدارعة الحاملة للصواريخ المجنحة والصواريخ النووية، المسماة "موسكفا" ( موسكو)، والتي يسميها الخبراء الاميركيون "قاتلة حاملات الطائرات". وخلال العرض الجوي، وفيما كان الرئيس بوتين يصافح المواطنين ويوقع لبعضهم الاوتوغرافات ويداعب بعض الاطفال، كانت تشكيلات الطائرات الروسية من شتى الانواع المطاردة والقاذفة تعرض مهاراتها الطيرانية بمحاذاة الحدود الاوكرانية وتحلق فوق القطع البحرية الحربية للناتو والاسطول الحربي التركي في البحر الاسود الذي صار وضعه، اي الاسطول العثماني الجديد، اشبه شيء بوضع المحكوم بالاعدام الذي ينتظر بين لحظة واخرى ان يقطع السياف رأسه. ويقول احد الجنرالات الروس ان المدى القتالي الفعال لبعض هذه الطائرات يمتد من الجزيرة البريطانية الى سوريا والى ايران، وان بعض الصواريخ المجنحة التي تحملها هذه الطائرات تطير بسرعة اضعاف سرعة الصوت وبذلك فهي ـ بالاضافة الى مهماتها الاخرى ـ قادرة على ان تصطاد بسهولة جميع انواع الصواريخ والصواريخ المضادة للصواريخ الاميركية، ما يجعل كل منظومة الدرع الصاروخية الاميركية عديمة الفائدة. ويضيف ان تحطيم الاسطول التركي اصبح "مهمة بسيطة". وهذا يعني ان كل ما بنته العسكرية الاميركية ودول الناتو ومنها تركيا الاتاتوركية والعثمانية الجديدة، خلال عشرات السنين، اصبح كريشة في مهب العاصفة الثلجية الروسية الآتية من الشرق. وان سياسة الاستفزاز التي انتهجتها اميركا وعملاؤها الصغار في كييف سينطبق عليها تماما المثل العربي القديم "على نفسها جنت براقش".
وثانيا ـ ان التهديدات والاستفزازات والجرائم التي ارتكبت ضد الجماهير المؤيدة للفيديرالية، وحملة القمع الواسعة التي تعرض لها "حزب الاقاليم" (حزب رئيس الجمهورية الشرعي المخلوع فيكتور يانوكوفيتش) والحزب الشيوعي الاوكراني، كل ذلك لم يفت في عضد الجماهير المؤيدة للفيديرالية، ولم يدفع القيادات الشعبية الجديدة للتراجع عن فكرة اجراء الاستفتاء في 11 ايار، بل على العكس تماما فقد ازدادت الحماسة الجماهيرية والاصرار على اجراء الاستفتاء في موعده، وتطوع عشرات الالاف من المواطنين في قوات "الدفاع الشعبي" الذاتي للدفاع عن المدن والبلدات التي تتعرض للحصار والقصف والاستفزازات، كما في اللجان الشعبية لتنظيم الاستفتاء. وكان مشهدا مؤثرا للغاية، لا تستطيع ان تفهمه "الديمقراطية" الاميركية، وقوف المتقاعدين المسنين والنساء الى جانب الشباب العزل بوجه الدبابات الآتية من كييف، والنقاشات الحامية التي كانت تدور بين هؤلاء المواطنين العاديين الوطنيين والشرفاء وبين الجنود المغرر بهم الذين قيل لهم انهم يذهبون لمواجهة عصابات "ارهابية" و"انفصالية"، فوجدوا انفسهم يوجهون فوهات رشاشاتهم ومدافعهم الى صدور ابناء شعبهم، وكانت هذه النقاشات تنتهي بمحاصرة المصفحات والدبابات ببحر من المواطنين وتجميدها في مكانها، او بانسحابها الى حيث أتت. كما شارك الالوف في تحضير اللوازم اللوجستية والادارية والتنظيمية لعملية الاستفتاء، التي تم التحضير لها بدقة وسرعة كبيرين لا سابق لهما في اي عملية انتخابية سابقة. وقد ردت الجماهير واللجان الشعبية المشكلة على استفزازات السلطة الانقلابية والفاشست والقتلة المحترفين لوكالة "اكاديمي" (بلاك ووتر) الاميركية، ليس بإلغاء او تأجيل الاستفتاء، بل باعلان مقاطعتين في شرق وجنوب اوكرانيا، هما مقاطعة دونيتسك ومقاطعة لوغانسك بوصفهما "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية"، وتم تحويل السؤال في الاستفتاء من سؤال عن "فدرلة" المقاطعتين في الكيان الاوكراني الى سؤال عن "استقلال" كل من "الجمهوريتين" الجديدتين.
كما بدأت يد الانتقام الشعبي تطال المسؤولين عن الاستفزازات والجرائم ضد الجماهير الشعبية. وقد اذاعت وسائل الاعلام ان مدير الشرطة في مدينة ماريوبول التي استولى عليها الفاشست بالتواطؤ مع الشرطة، المدعو فاليري اندروشتشوك، وجد مشنوقا على شجرة قرب مطار المدينة. وعلق قائد الجبهة الشعبية في مقاطعة لوغانسك على ذلك بالقول انه من المرجح ان من اقدم على ذلك هم المواطنون الغاضبون. وقد اكد النبأ مصدر في وزارة الداخلية الاوكرانية.
وبالرغم من هذه الاجواء الحربية والجو المشحون وحملة الصراخ العالمية لـ"الديمقراطية" الغربية المعادية لروسيا وللجماهير الشعبية الاوكرانية الحرة، جرى الاستفتاء بنجاح تام في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اللتين اعلنتا بفعل الاستفتاء بوصفهما "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية". وتبلغ مساحة كل من الجمهوريتين حوالى 26 الف كلم مربع، اي اكثر بمرتين ونصف المرة من مساحة لبنان لكل منهما. ويبلغ عدد سكان دونيتسك اكثر من 4،4 ملايين نسمة، وعدد سكان لوغانسك اكثر من 4،2 مليوني نسمة. وشارك في التصويت في دونيتسك اكثر من 89% ممن يحق لهم الاقتراع، واكثر من 96% في لوغانسك. وقد صوت اكثر من 90% من المقترعين في دونيتسك بـ"نعم" للاستقلال. وصوت اكثر من 96% بـ"نعم" في لوغانسك. وفسر بعض المراقبين هذه "النعم" بأنها تعني "لا" كبيرة لاميركا والناتو والفاشية.
وفور اعلان النتائج تقدم القادة الحاليون للجمهوريتين بطلب الانضمام الى روسيا الفيديرالية. ولكن هذا الطلب يتطلب ان يمر بقنوات دستورية ومؤسساتية لم تتوافر حتى الان، الا انه يكتسب اهمية سياسية وحقوقية كبرى، ولم يعد بامكان ابواق واشنطن وبروكسل وكييف الادعاء بأن ما يجري في شرق وجنوب اوكرانيا هو بعض العمليات التخريبية لمجموعات "ارهابية" و"انفصالية موالية لروسيا". وصار من الواضح تماما ان اميركا والناتو والسلطة العميلة في كييف انما تواجه ارادة شعبية شبه اجماعية في شرق وجنوب اوكرانيا.
ويقول بعض الخبراء ان السبب الرئيسي في هذا الفشل الذريع لخطة أمركة اوكرانيا، هي ان اميركا وعملاءها المتشدقين بالديمقراطية قد عملوا كتفا الى كتف مع العصابات الفاشستية المفضوحة والمعادية تاريخيا للشعب الاوكراني الذي قدم تضحيات جساما في الحرب العالمية الثانية في الكفاح المرير الذي خاضته الشعوب السوفياتية ضد النازية.
ولمواجهة التهديدات التي لا تزال توجهها السلطة المتأمركة في كييف، صرح قادة الجمهوريتين الشعبيتين الجديدتين انه لا حاجة لهم لقوات حماية روسية، وانه يجري البحث الان في توحيد الجمهوريتين، وسيبدأ فورا تشكيل جيش شعبي كبير وقوي للتصدي للقوات النظامية والفاشستية والمرتزقة الاميركيين الآتين من كييف، وهذا الجيش الشعبي سيكون قمينا بسحق اي عدوان.
والان تضرب اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي وعصابة الانقلاب في كييف اخماسا بأسداس، وهم يخشون خطرين:
الاول ـ ان تنتفض اقاليم اوكرانية جديدة وتطالب بالاستقلال والانضمام الى روسيا.
والثاني ـ ان يقوم الضباط والجنود الشرفاء في الجيش الاوكراني بانقلاب على الانقلاب، وان يمسكوا بخناق الخونة عملاء اميركا ويحاكموهم ميدانيا، قبل ان يعيدوا الشرعية الى البلاد.
والكلمة الاولى والاخيرة ستبقى للقيادة الروسية التي لا تزال تدعو الى الحوار لاجل حل الازمة الاوكرانية، ولسان حالها يقول: إما ان تكون اوكرانيا دولة شقيقة وصديقة لروسيا، انسجاما مع تاريخها الاصيل، واما ان تـُترك لتنهار على ايدي اميركا وعملائها، وتزول من الخريطة.