ارشيف من :آراء وتحليلات
احتفالات 9 أيار 2014: علامة تحول في الاستراتيجية الدولية لروسيا
منذ بداية انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، مرت روسيا الفيديرالية بمرحلتين متناقضتين:
الاولى ـ مرحلة حكم زمرة غورباتشوف ـ يلتسين التي تأكد لاحقا علاقاتها الوثيقة بالدوائر الغربية المعادية. وقد تحول ميخائيل غورباتشوف شخصيا الى "باحث" متعاون مع "مراكز الابحاث" المخابراتية الاميركية والغربية.
وفي هذه المرحلة، وتحت غطاء نشر "الديمقراطية" ولبررة الاقتصاد، على الطريقة الغربية، تعرضت روسيا الى هجوم حقيقي، اعلامي ـ سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي ـ امني، من قبل العصابات الغربية والصهيونية خصوصا، هدفه الابعد التخريب والتدمير التام للدولة الروسية وإلغاؤها من الخريطة كدولة والاستيلاء التام على اراضيها الغنية، وقتل ودفن متقاعديها في الامراض والفودكا المغشوشة واستخدام شبانها المتعلمين كيد عاملة تقنية متدنية الاجور وفتياتها الجميلات كبائعات هوى رخيصات الثمن على ارصفة المدن الغربية، وهدفه الاقرب النهب غير المحدود للاقتصاد الروسي، وتجويع الشعب الروسي، وتحويل روسيا الى دولة مستعمرة بالمعنى الحرفي للكلمة، كأي دولة عالمثالثية.
وكان "مفتاح" هذا الهجوم تعطيل القدرات العسكرية لروسيا والإلغاء الفعلي للجيش الروسي، الذي جرى توريطه لشرشحته في "مسرحية حرب الشيشان" الاولى سنة 1996 التي كانت تحيط بها الخيانة من كل جانب.
وانتهت هذه المرحلة بالإقالة السلمية لبوريس يلتسين في نهاية يوم 31 ـ 12 ـ 2000.
والمرحلة الثانية ـ بدأت في الساعة صفر من 1 ـ 1 ـ 2001، باستلام فلاديمير بوتين للرئاسة الروسية بالوكالة، بعد اضطرار يلتسين لتقديم استقالته واعتزال العمل السياسي. وكان بوتين قبل ذلك يشغل منصب رئيس المخابرات الروسية، ثم منصب آخر رئيس وزراء لدى يلتسين.
وفي البدء اعتقد كثيرون ان عهد فلاديمير بوتين سيكون استمرارا لعهد يلتسين ولسياسته الموالية للغرب والتي شرعت ابواب روسيا امام الغزو العصاباتي الغربي ـ الصهيوني والفوضى والتسيب الشاملين. ولكن سرعان ما اتضح ان عهد بوتين هو على وجه التحديد انقلاب على عهد يلتسين وما كان يمثله. ويقدر بعض المطلعين ان "القوة الفعلية" التي تقف خلف انقلاب يلتسين هي تحالف بين كبار ضباط الجيش وكبار ضباط المخابرات، القوميين المعتدلين، المستائين من الحالة المزرية التي أوصِلت اليها بلادهم، والمصممين على انقاذ روسيا واعادتها للاضطلاع بدورها التاريخي العالمي، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وحضاريا. وقد وضع هذا التحالف حدا للنزاع المصطنع بين قطاع المخابرات ووزارة الداخلية وقطاع الجيش ووزارة الدفاع، الموروث من العهد المشؤوم لستالين الذي تثبت تجربة "الحرب الوطنية الكبرى لروسيا" (اي الحرب العالمية الثانية) انه كان اكبر خائن للاتحاد السوفياتي وكان ينوي تسليمه لقمة سائغة لهتلر، والذي كان قد استخدم اسلوب التفريق هذا وافتعال التناقض بين قطاعي القوة في الدولة من اجل التسلط على القطاعين، ومن ثم التفرد بالسلطة والتسلط على البلاد بأسرها وتسهيل إمرار خيانته.
وبمراقبة مجريات الاحداث يتبين ان عهد بوتين وضع كهدف رئيسي له: اعادة انهاض روسيا من كبوتها، ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي والعسكري، وعودتها للاضطلاع بدورها كقوة عظمى على الساحة الدولية، تقف بوجه الناتو والقطب الاميركي الاوحد ونزعته نحو الهيمنة العالمية.
وقد انقسم عهد بوتين بدوره الى مرحلتين، او مستويين متداخلين من العمل الاستراتيجي لاعادة انهاض الدولة:
المستوى الاول ـ يمكن تسميته جدلا مستوى "الدفاع الاستراتيجي".
وفي هذه المرحلة او المستوى تم التركيز على الشؤون الداخلية، لوقف الهجوم العصاباتي الغربي ـ الصهيوني على روسيا، وكسره. فتم تحطيم النفوذ المنفلت للاوليغارشيين والمليارديرية اليهود امثال خودوركوفسكي وبيريزوفسكي وغيرهما، الذين كانوا قد سيطروا سيطرة شبه تامة على الاقتصاد والاعلام والقطاع المالي والبنكي والحياة السياسية والامن. وفي هذه المرحلة تساقطت رؤوس الكثيرين من رؤساء البنوك والتلفزيونات والصحف والشركات الكبرى، وتم اعتقال عشرات الالاف من اصحاب الشركات التي تثري عن طريق ارتكاب المخالفات والتدمير الفعلي للاقتصاد. وزج كبير المليارديرية اليهود خودوركوفسكي في السجن، ووضعت الدولة يدها على شركته العملاقة "يوكوس" (800 مليار دولار)، وفر المليارديرية اليهود بيريزوفسكي الى بريطانيا ومايكل تشورني وليف ليفايف وغيرهما الى اسرائيل. وتم سحق التمرد "الاسلامي!" الشيشاني الذي كان يموله ويديره اليهودي بيريزوفسكي.
واختتمت هذه المرحلة "بالسيطرة على الوضع" في جورجيا في آب 2008، وعلى توريدات الغاز الى اوكرانيا وعبرها الى اوروبا في مطلع سنة 2009. وكانت منطقة الشيشان تستخدم لسرقة وتهريب النفط، واوكرانيا تستخدم لسرقة الغاز بمليارات الدولارات.
المستوى الثاني، المتزامن والمرتبط مع المستوى الاول ولكن المتميز عنه، هو التركيز على اعادة تأهيل وتحديث وتطوير القوات المسلحة الروسية، وتحريك وتفعيل المجمع الصناعي ـ العسكري الروسي، بوصفه المحور والمحرك الرئيسي للاقتصاد الروسي برمته والقاعدة الراسخة للسياسة الانمائية والداخلية، كما للاستراتيجية الدولية لروسيا. وبالاشتراك مع جميع الوزارات والمؤسسات العلمية والاقتصادية والمالية المعنية، وضعت وزارة الدفاع خطة كبرى حتى سنة 2020 لتحديث الجيش الروسي وتحويله بالكامل الى جيش مؤلل ـ مؤتمت ـ نووي ـ صاروخي، مؤهل في الوقت ذاته لخوض حرب كونية شاملة وحرب فضائية معا.
وطبعا ان الدولة الروسية، التي لا تمتلك "فضيلة" نزعة الهيمنة العالمية كالدولة الطفيلية الاميركية التي تنهب وتبتز شعوب العالم، لا تنفخ مزامير يشوع ولا تقرع طبول الجاز الاميركية للدعاية لمشاريعها وانجازاتها. ولكن من يتابع وسائل الاعلام اليومي الروسية يكتشف الانجازات العسكرية الروسية التي تأخذ طريقها الى الخدمة الفعلية بدون ضجة دعائية فارغة، ومنها مؤخرا الدبابة الجبارة المتعددة المهمات التي سماها الاعلام الغربي "ترميناتور" (القاتل الاخير)، والصاروخ الشبحي النووي الذاتي التوجه الذي يختفي في قاع المحيطات والبحار وينطلق الى الهدف الذي يحدد له في اللحظة المناسبة، والصواريخ المجنحة النووية التي تفوق سرعتها اضعاف سرعة الصوت والذاتية الحركة والتي تتلقى التوجيهات وتغير مساراتها وهي طائرة، والغواصة الصاروخية ـ النووية الشبحية التي دخلت مؤخرا في الخدمة الفعلية والتي سمتها الغارديان البريطانية "الوحش القابع في الاعماق".
وفي هذه المرحلة فإن الدولة الروسية تنتقل بالتدريج من سياسة "الدفاع الاستراتيجي" التي انتهجتها حتى الامس، الى سياسة "الفعالية الهجومية الاستراتيجية" على الساحة الدولية.
ولعله يمكن توصيف مجريات الازمة الاوكرانية بأنها مثلت نقطة تحول على هذا الصعيد. وتبين ذلك بوضوح في الازمة الاوكرانية الراهنة، حينما ردت الدولة الروسية فورا وبحزم على الاستفزازات الغربية والانقلاب الذي تم في كييف في اواخر شباط 2014 والذي كان يهدف الى اعلان انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو، فقامت روسيا باجراء مناورات استراتيجية على الحدود مع اوكرانيا والموافقة الفورية على طلب انضمام شبه جزيرة القرم ومدينة سيباستوبول (الروسيتين اصلا) الى الوطن الام روسيا. وأفهمت اميركا والناتو والدول الاكثر عدوانية في اوروبا ان ادخال اوكرانيا في الناتو هو خط احمر. وتحركت آلة الدولة الروسية بأكملها لتحويل شبه جزيرة القرم الى قاعدة استراتيجية متقدمة في مواجهة اميركا والناتو والغرب بمجمله، من دون ان يجرؤ احد ان يهز اصبعا او يرمش بعين.
يوم النصر على الفاشية
وفي 9 ايار، يوم النصر على الفاشية، الذي ـ بدون اي حياء ـ تسميه اوساط الاتحاد الاوروبي "يوم اوروبا"، جرى عرض عسكري مهيب في الساحة الحمراء في موسكو، شارك فيه رمزيا 11 الف جندي يمثلون كافة المناطق الروسية، بما في ذلك القرم ومدينة سيباستوبول، وكافة الوحدات وانواع الاسلحة والمعاهد العسكرية الروسية، وسارت في العرض 151 آلية قتالية عسكرية، وحلقت 69 طائرة عسكرية، وحمل الجنود العلم الروسي وعلم النصر (العلم الاحمر بالمنجل والمطرقة)، كما سارت في العرض سيارة خاصة تحمل علم شبه جزيرة القرم وعلم مدينة سيباستوبول، وكان من بين الاسلحة الجديدة والمجددة التي سارت في العرض المنظومة الصاروخية السمتية المضادة للطيران المعادي من طراز “TOR-M2U”، والمنظومة الصاروخية المضادة للدروع "خريزانتيما ـ S"، والسيارات العسكرية ذات الحماية العالية من طراز "طيفون"، والسيارات المصفحة "تيغر"، وناقلات الجند المصفحة “BTR-82A”، وتمثل سلاح الصواريخ بمنظومات "اسكندر ـ M" و"توبول ـ M" و"بوك ـ M2".
وحلقت في الاجواء طائرات SU-24M، SU-25، SU-27، SU-34، MIG-29، MIG-31BM، AN-22، AN-124، IL-76MD، IL- 78M، A-50، TU-22M3، TU-95MS، TU-160، YAK-130، والهليكوبترات الحربية MI-8MTB، MI-26، MI-35M، و KA-52.
ولقد حمل آلاف الحضور في العرض صور آبائهم واجدادهم الذين قاتلوا او استشهدوا في جبهات القتال ضد الغزاة الفاشست.
وفي كلمته بمناسبة الاحتفال قال الرئيس بوتين "في هذا العيد نحتفل بالقوة المظفرة للوطنية، وفيه نحسّ بقوة خاصة ماذا يعني ان تكون مخلصا للوطن وان تدافع عن مصالحه". واضاف "ان الارادة الفولاذية وغير الهيابة للشعب السوفياتي هي التي انقذت اوروبا من العبودية".
وفي اليوم ذاته بعد الظهر انتقل الرئيس بوتين برفقة عدد كبير من كبار مارشالات وقادة القوات المسلحة الروسية يمثلون كافة قطاعات الجيش، وحضروا القسم البحري والجوي من العرض العسكري في سيباستوبول، بمناسبة يوم النصر الـ69، الذي يحتفل فيه ايضا بصفته العيد الـ70 لتحرير مدينة سيباستوبول البطلة من النازية الالمانية، وشارك في العرض 10 سفن حربية روسية من مختلف المهمات و70 طائرة حربية روسية من كل الانواع وبينها القاذفات البعيدة المدى حاملة الصواريخ المجنحة والصواريخ النووية. وتؤكد جريدة "بيلد أم زونتاغ" ان وكالة الامن القومي الاميركية التقطت برقيات صادرة عن قيادة الجيش الروسي تأمر فيها الطيارين باختراق المجال الجوي الاوكراني خلال تحليقهم الاستعراضي. وبصرف النظر عن صحة هذا الادعاء او عدم صحته، تفيد وسائل الاعلام الروسية ان بعض الخبراء يقول ان الطائرات المقاتلة والاستراتيجية البعيدة المدى المشاركة في عرض 9 ايار هذه السنة هي مؤهلة كي تقضي "بسهولة" على الاسطول الحربي التركي في البحر الاسود وعلى جميع القواعد العسكرية والصاروخية في كل محيط البحر الاسود، وان تضرب جميع الاهداف الجوية والبرية والبحرية والغواصات المعادية في المنطقة الممتدة من بريطانيا شمالا، حتى سوريا جنوبا، وحتى ايران شرقا.
استنادا الى ذلك يمكن الاستنتاج ان عرض يوم النصر الروسي في 9 ايار 2014 لم يكن عرضا احتفاليا عاديا، بل كان مظاهرة قوة هدفها التعبير عن ان روسيا انتقلت نهائيا من مرحلة "الدفاع الاستراتيجي" وتجنب الصدام مع القوة العسكرية الغربية وعلى رأسها الاميركية، الى مرحلة "التصدي الاستراتيجي الفعال" في الساحة الدولية، اي التصدي لسياسة العدوان الاميركية ـ الناتوية والوقوف بوجه ومنع التدخل العسكري الخارجي المباشر في مختلف البلدان، كما جرى في صربيا في 1999، ثم في افغانستان والعراق واخيرا في ليبيا. وقد ظهرت نتائج الاستراتيجية الروسية الفعالة الجديدة في منع التدخل العسكري الغربي المباشر في سوريا، كما تظهر الان في منع التدخل العسكري الغربي المباشر في اوكرانيا المرشحة، كسوريا، لان تغرق في حرب اهلية "على الطريقة السورية" بين القوى النازية والفاشستية و"الديمقراطية" المزيفة المدعومة من قبل الغرب، وبين القوى الشعبية الوطنية والديمقراطية الحقيقية. ومهما كان الدعم الغربي للقوى النازية في اوكرانيا او "الاسلامية" المزيفة في سوريا، او "الديمقراطية" المزيفة في اي مكان في العالم، فإن مصيرها ان تسحق كما سحقت النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية.