ارشيف من :آراء وتحليلات

حرية الاعلام في ’اسرائيل’: الرقابة العسكرية تنتصر

حرية الاعلام في ’اسرائيل’: الرقابة العسكرية تنتصر
بيان نقابة الصحافيين الاجانب في "اسرائيل" والاراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، الصادر قبل يومين حول الاعتداءات المتكررة للشرطة الصهيونية ضد الصحفيين والمصورين الاجانب في شرقي القدس المحتلة، يعيد الى دائرة الضوء، حرية الصحافة والاعلام في كيان الاحتلال، الذي يعاني، حتى الصهيوني منه، من الرقابة العسكرية المسبقة وفرض التقارير فرضا على المراسلين العسكريين والسياسيين، وهو الواقع الذي لا يعرف عنه الكثيرون في العالمين العربي والغربي، خاصة في الغرب الذي يعد "اسرائيل" كدولة واحة ديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط.

بيان نقابة الصحفيين الاجانب، المنضوي في اطارها حوالى 500 مراسل ومصور صحفي اجنبي، غير مستغرب لمن يتتبع اخبار الاعلام والاعلاميين في الكيان "الاسرائيلي". سبق هذا البيان، بيان تقييمي، صدر عن مؤسسة "فريدم هاوس" الاميركية في واشنطن، التي تتابع الحريات الاعلامية في العالم، مشيرا الى ان مكانة "اسرائيل" لجهة حرية وسائل الاعلام بالكاد تحصل على درجة "حرة"، ويأتي ترتيبها بعد غينيا الجديدة وسورينام، علما ان تقييم العام 2013، قطع بعد معطيات وشهادات ووقائع لمراسلين ومعلقين اجانب ومحليين، الى ان درجة اسرائيل في الحرية الاعلامية "غير حرة"، الامر الذي اعتبر في تل ابيب ضربة موجهة لبلد يثابر على القول إنه من الاماكن القليلة في الشرق الاوسط، التي توفر حريات بلا قيود للاعلاميين.

تقرير مؤسسة "فريدم هاوس" في واشنطن، اشار الى النقاط الاساسية التي تدفع "اسرائيل" الى طبقة الدول غير الحرة اعلاميا، وحددتها في اربعة اتجاهات، تضغط بقوة على حرية الاعلام: تفعيل الرقابة العسكرية وتدخلها بصورة مسبقة لمعاينة والمصادقة على التقارير، واستخدام اوامر حظر النشر المسبقة لمواضيع محددة لجهة التغطية الاخبارية، اضافة الى فرض قيود على تنقل الاعلاميين، والتدخل السياسي في التقارير المنشورة، ومن بينها التقارير التحليلية وآراء المراسلين.

جهاز الرقابة العسكرية

وتعد تعليمات واوامر جهاز الرقابة العسكرية، التابع لشعبة الاستخبارات (امان)، اهم اجهزة قمع الحريات الاعلامية في الكيان "الاسرائيلي"، خاصة ان هذا الجهاز يفعل الرقابة المسبقة على مروحة واسعة من المواضيع، من بينها التقارير العسكرية والامنية وتحركات الجيش والتعليقات حول الدول والمنظمات العدوة، بل ايضا التحليلات الصحفية التي يرى الجهاز انها قد تفيد العدو، الامر الذي يمنع عن الاعلاميين التغطية الخبرية والتعليقية، حول كل المواضيع الخارجية والداخلية، التي لها دخالة بصورة مباشرة او غير مباشرة بالعدو، بحيث لا يبقى مجال للتعليقات، الا بعد عرضها على الرقابة مسبقا، والاستحصال على موافقة منها.

ورغم ان الرقابة العسكرية لا تفرض سطوتها بصورة مستندة الى عقوبات جسدية كالاعتقال والحبس او الغرامات المالية، الا انها قادرة على تفعيل هذه الرقابة من خلال سحب البطاقة الخاصة بالصحفيين والمراسلين، الذين تسمح لهم بتغطية الانباء والمجريات العسكرية والامنية، اذ لا يمكن التجول او التنقل او الحديث مع اي مصدر او مسؤول او تصوير واقعة من دون هذه البطاقة، وبالتالي تجرد الرقابة الصحافي من ادوات عمله، في حال لم تكن راضية عن ادائه، وهو ما يجعل المراسلين يتقيدون بالتعليمات بصورة حرفية.

والرقابة على الاعلام في اسرائيل، المسبقة او الاتفاقية، لا تشمل فقط الاعلام المكتوب او المرئي والمسموع، بل ايضا المواقع الاخبارية على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، ومن النادر جدا ان يقدم اي من هذه المواقع على مخالفة توقعات الرقيب العسكري، الذي يتدخل بصورة مباشرة بحذف التقارير من قبله بعد نشرها، حتى من دون علم ادارة المواقع، وتشهد السنوات الماضية على الكثير من هذه الحالات، بعد اقل من ساعة واحدة على نشر تقارير "غير محبذة".

تدابير مشددة


وعلى اي حال، تعد الحرية الاعلامية في "اسرائيل" مقيدة جدا، إن لجهة القانون المفعل والمعمول به، او لجهة العلاقة بين "اسرة" الاعلام والرقابة العسكرية المسبقة. كما انه من ناحية عملية، شهد العام الماضي جملة من الحوادث، من المفيد اطلاع القارىء العربي عليها، منعا للالتباس وللصورة النمطية الموجودة مسبقا في العقل العربي، حول مكانة وأداء وحرية الاعلام لدى الصهاينة.

وتعود جذور الرقابة على الإعلام في الكيان الصهيوني إلى القوانين الصادرة عن سلطة الانتداب البريطاني لفلسطين، وتحديداً "أمر الصحافة" للعام 1933 و"أنظمة الدفاع لحالات الطوارئ" وتعديلاته في العام 1945، وهي أنظمة شديدة القمع. و"إسرائيل" خدمة لمآربها وتمكيناً لها من استخدام هذه القوانين من دون سنِّها، عمدت إلى عدم إلغائها وضمَّتها إلى كتب القوانين الإسرائيلية بصورة غير مباشرة، واستخدمتها مدة تزيد عن 66 عاماً.. بل انها أضافت إليها صلاحيات أُعطيت لوزارة الداخلية تُمكِّنها من إغلاق الصحف بشكل استنسابي.

حرية الاعلام في ’اسرائيل’: الرقابة العسكرية تنتصر
الصحافة الاسرائيلية

ومن بين الاجراءات المتعبة، وجوب تقديم كل مادة مطبوعة للحصول على موافقة مسبقة من الرقابة قبل النشر، إذ تنص المادة 87 من "أنظمة الدفاع لحالات الطوارئ" (1945)، على أن "للرقيب أن يمنع بأمر بشكل عام أو خاص، نشر مادة من شأن نشرها أن تضر ـ حسب رأيه ـ بأمن "إسرائيل" أو السلامة العامة أو النظام العام". أما المادة التي تليها (88) فتنص على أن "من حق الرقيب أن يحظر بأمر استيراد أو تصدير للطباعة أو للنشر، أي منشورات من شأن استيرادها أو تصديرها، طبعها أو نشرها، كان أو قد يكون فيه ضرر بأمن "إسرائيل" والسلامة العامة أو النظام العام.

في العودة الى العام الماضي، شهد "فذلكة" اثارها رئيس اركان جيش الاحتلال، بني غانتس، حول نظرية "عباءة نصر الله المحترقة"، شغلت الاعلام العبري والرقيب العسكري والناطق باسم الجيش. هذه النظرية مبنية على تصريح، اعجب غانتس والناطق العسكري كثيرا، وحبك منه قصة اعلامية امتدت اشهرا. وخلاصة هذه النظرية بحسب غانتس ان "نيران سوريا بدأت تشتعل بأطراف عباءة نصر الله. تلقفت وسائل الاعلام العبرية هذه العبارة، واعقبتها بتحليلات وتعليقات واسعة عن وضع حزب الله التي رأت انه مأزوم اضافة الى الصعوبات المفترضة "اسرائيليا" حول حزب الله. لكن اللافت في كل هذه التقارير وهذه التعليقات، المنحى الواحد والمضمون الواحد، بل وايضا الشكل الواحد، وكأن جهة واحدة هي التي قادت هذه التعليقات، التي امتدت لاسابيع.

بقيت الامور في حينه في اطار التكهنات والتحليلات، الى ان اثارت مجلة "العين السابعة" هذه القضية بالتحديد، كاشفة عن جملة من الفبركات المسبقة وتوزيع الادوار، قادها الناطق باسم الجيش مع عدد من المراسلين والاعلاميين في كبريات وسائل الاعلام العبرية.

 اثارت مجلة "العين السابعة" جملة من الفبركات المسبقة

كشف تقرير المجلة، ان الناطق باسم الجيش العميد يوآف مردخاي، كما هي العادة في كثير من الاحيان، اتصل بوسائل الاعلام ومراسليها العسكريين لتوفير معطيات لازمة لنشر تقارير وتعليقات حول هذه تصريحات غانتس (العباءة المحترقة)، وطلب من الاعلاميين التركيز على ما سماه "المأزق الاستراتيجي" الذي يواجهه (السيد) نصر الله وحزب الله. وتعليمات مردخاي جاءت على الشكل الآتي: التركيز على ان المأزق الاستراتيجي لنصر الله يكمن في ثلاث ساحات هي سوريا والداخل اللبناني واسرائيل. ثانياً، ان حزب الله يعترف الان بعد صمت، بانه يساعد الرئيس السوري بشار الاسد في سوريا (وفي حينه عدت اسرائيل اعتراف حزب الله وكأنه اقرار بالذنب!!!)، وثالثا التركيز على وجود خسائر بشرية لحزب الله في سوريا (وكأنها نهاية لحزب الله)، مع التشديد في المقابل على ان سلوك حزب الله في سوريا يهدد اللبنانيين ويدفع البلاد الى شفير حرب اهلية.

المفارقة ان كل التقارير العبرية، ولكبار وصغار المعلقين والكتبة "الاسرائيليين"، جاءت متطابقة وكأنها منسوخة عن تقرير واحد موضوع مسبق. استمرت هذه الكتابات اسابيع، الى حين صدور تقرير "العين السابعة"، لتختفي لاحقا وبصورة فجائية، وكأن شيئا لم يكن.

هذه الواقعة وغيرها، تثير تساؤلا حول تقويم الاداء الاعلامي في "اسرائيل"، والرواية الموحدة وانصياع المراسلين والمحللين لتعليمات المؤسسة العسكرية. اي ان الاعلام في الكيان الصهيوني لا يخضع فقط للرقابة العسكرية المسبقة، بل ايضا ينصاع لارادة الرقيب العسكري والجيش ويصدر تقارير وتحليلات موضوعة مسبقا من الغير، اي انه لا يمنع قول الحقيقة، بل يفرض حقيقة يراها الجيش تصب في مصلحته، وهذا اكثر تأثيرا على الحرية الاعلامية من المنع نفسه.

مع ذلك، يتوجب القول ان هذه الرقابة بكل صورها، والتي اثير هنا جزء يسير منها، لان الحديث عنها يطول جدا، هي رقابة رضائية ولا تشكل تململا او انزعاجا غير مرغوب فيه من قبل الاعلاميين الصهاينة انفسهم، اذ بصورة عامة، هم من خريجي المؤسستين العسكرية والأمنية، وهم يحملون نتاجا لخبرة استخبارية حقيقية تتفهم هواجس المؤسسة الأم وتحاكيها في كل ما يتعلق بالسلامة العامة وبـ"المصلحة الأمنية للدولة"، الأمر الذي يُفسر المنحى المتواصل الذي يمارسه الإعلام منذ نشأته في أوائل القرن الماضي، بالرقابة الذاتية الرضائية التي تتجاوز في تشددها الرقابة الاتفاقية والمسبقة المفعلة بصورة كبيرة جدا من قبل الاستخبارات العسكرية لجيش الاحتلال.
2014-06-05