ارشيف من :أخبار لبنانية

تموز 2006.. أكبر من نصر وأبعد من عدوان

تموز 2006.. أكبر من نصر وأبعد من عدوان
لا يشبه تموز/ يوليو غيره من الشهور، ولا لبنان يشبه غيره من البلدان، ولا المقاومة فيهما تشبه سواها في هذا العالم..
ففي تموز/ يوليو 2006 أوفت المقاومة بوعدٍ صادقٍ لأمينها بتحرير الأسرى والمعتقلين، وشكّل العدوان الاسرائيلي فيه فصلاً جديداً في كتاب الحروب العسكرية وأسس لمدرسة جديدة قارعت المدارس التقليدية في مفاهيم الحرب وتكتيكاتها واستراتيجياتها.. لم تترك تلك الحرب تداعياتها عند أعتاب ذلك العام بل امتدت إلى ما بعده وما بعد بعده، وما زالت ماثلة إلى اليوم، تُستخلص منها العبر وتُحلل مفاجآتها ونتائجها ويُرتقب الجديد في جولاتها
.

عن الجيش الذي هُزم.. والمقاومة التي انتصرت

أطلقت المقاومة في تموز 2006 المارد من قمقمه وأخرجت للعالم بعضاً مما خبأته فخلقت معادلة تاريخية جديدة. من قال أن الجيش الإسرائيلي لا يُقهر؟ يسأل رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات العميد الركن المتقاعد الدكتور هشام جابر، يقول:  لقد قهر جنوب لبنان جيش الإسطورة اليهودية؛ فبعد 33 يوماً صمد أبطال المقاومة وثبتوا في أرضهم وقراهم منعوا العدو الإسرائيلي من تحقيق أهدافه. ألحقوا بعدوهم خسائر فادحة ليس إلا أبسطها فضح هالته الكاذبة، وتدمير فخر صناعته العسكرية: دبابة الجيل الرابع للميركافا.

يشارك الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد إلياس حنا العميد جابر رؤيته، هو أيضاً يرى أن لبنان حقق نصراً عسكرياً (وإن أخفق سياسياً) لأن حزب الله أثبت نجاعة استراتيجيته العسكرية في مواجهة حرب إسرائيلية. يضيف في حديثه لـ"العهد" "لقد أثبتت حرب تموز أن المقاومة قادرة على مفاجأة إسرائيل"، دون أن يرى ما يمنع من القول أن نتائج هذه الحرب فرضـت نفسها أيضاً على الولايات المتحدة الأميركية التي اضطرت إلى تغيير أولوياتها في المنطقة، بمعنى أن هذه الحرب التي تعدت بنتائجها وتداعياتها حدود الإقليم كانت استراتيجية بامتياز.

يؤكد جابر لـ"العهد" أن انتصار المقاومة الاستراتيجي عزز حضور الحلف الممانع في المنطقة. بات للمقاومة في حلفها الممتد من إيران إلى لبنان، موقع رائد، وهي الوفية لحلفها وتحالفاتها، فيما يشرح العميد الركن المتقاعد الدكتور أمين حطيط، لـ"العهد"، أن العدو اعتمد في حربه سياسة الأرض المحروقة والترويع بالمجازر، متوخياً من ذلك تركيع المقاومة وإرهاب أهلها وبيئتها الحاضنة. من جهتها اجترحت المقاومة نظريتها الخاصة بابتكار اسلوب الدفاع من باطن الأرض، وهي نظرية رئيسية في حروب الجيل الرابع ولها مكملاتها في القيادة والسيطرة.

تموز 2006.. أكبر من نصر وأبعد من عدوان
عدوان تموز 2006

يُسهب جابر في شرحه لاستراتيجة المقاومة وتكتيكاتها في مواجهة العدو، ويفصّل في أسباب نجاحها في دحره، بدءاً من الإعداد والتدريب الجدي والجديد لمجاهديها ومعرفتهم الوثيقة بالأرض والانتماء إليها، إلى جانب تسليحهم، والأهم هي الشجاعة النابعة من العقيدة القتالية الراسخة حتى الاستشهاد، في مقابل عدوٍ حمل جنوده وألقى بهم في أرض ليست له، جنود لا يحملون عقيدة قتالية ولا يجرؤون على منازلة عدوهم باسلوب المواجهة المباشرة "رجل لرجل". في مثل هذا النزال يصبح المقاوم هو المنتصر، فمقاومته تعتمد القتال المتقارب وأبطالها أسياد هذا القتال.

يشدد الخبيران ستيفن بيدل وجيفري فريدمان في مؤلفهما "حرب لبنان 2006 ومستقبل الفكر العسكري: تحديات أمام الجيش والسياسة الدفاعية على ضرورة استخلاص العبر من هذه الحرب وتطبيقها على الإستراتيجية العسكرية الأميركية التقليدية للولايات المتحدة.
ثمة إجماع لدى أغلب المحللين العسكريين والخبراء الاستراتيجيين - كما لدى العمداء جابر، حنا وحطيط - أن فرادة اسلوب قتال المقاومة وريادته فرض نفسه أسلوباً حربياً على أعرق الكليات الحربية وأهم المدارس العسكرية في العالم، صارت حرب المقاومة في تموز/ يوليو 2006 - بما مثلت من ظاهرة استثنائية ومبتكرة - تُدرس في الكليات الحربية الأميركية والغربية والإسرائيلية وسواها.

يقول جابر: عكف القادة العسكريون على دراسة سر قدرة مجموعات صغيرة بالتصدي لفرقٍ وألوية نخبوية لجيش قيل إنه لا يُقهر، واستطاعة هذه المجموعات إعاقة تقدم جيش متطور وحديث وإلحاق خسائر فادحة فيه وامتلاكها القدرة على تحديه ومنازلته وهزيمته، بما فتح الباب واسعاً أمام كتابة المقاومة اللبنانية لفصلٍ فريد في كتاب العلوم العسكرية والهجوم والدفاع.

ويستكمل حنا القراءة في تداعيات المشهد الاستراتيجي للحرب، يتحدث كيف ان الحرب قلبت معايير ومفاهيم أمنية وعسكرية واستراتيجية كبرى، تعود إلى زمن إعلان "إسرائيل" في العام 1948، وهذا خلق مشكلة حقيقية لـ"إسرائيل". يقول: لم يعد الكم والنوع مهماً في حرب اليوم؛ صار الكيف هو المهم، لقد استطاع حزب الله بخبرته أن يضرب جيشاً يسمى "جيش ما بعد الحداثة"، جيشاً مدعوماً من الغرب وبعض العرب. يخلص حنا إلى القول: "هي بحق تجربة فريدة من نوعها". وهو ما يصفه حطيط بـ "التغير الاستراتيجي الجذري".


بعد الهزيمة في لبنان.. الحرب تنتقل من "صلبة" إلى "ناعمة"

تفكيك جبهة المقاومة كان الهدف الرئيسي لعدوان تموز عبر اقتلاع المقاومة من لبنان وإسقاط سوريا وإيران ومحاصرتهما وإحكام القبضة على العراق وصولاً لتصفية القضية الفلسطينية. يؤكد حطيط أن العدو أخفق في الميدان، إخفاقٌ أجهض المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد. عجزت الحرب عن إلحاق لبنان بالمعسكر الأميركي. دخلت إيران مرحلة أمان استراتيجي. مُنع تحويل العراق إلى مستعمرة أميركية واستحالت تصفية القضية الفلسطينية.

يبين العميد حطيط أن فشل استراتيجية القوة الصلبة في إرساء نظامها العالمي الجديد فرض الانتقال إلى استراتيجية القوة الناعمة الذكية ثم القوة الناعمة، وهي استراتيجية تقوم على الانكفاء عن الجبهات المشتعلة وتشجيع الاقتتال الداخلي. وقد دفعت إليها واشنطن في كل من إيران ولبنان وسوريا.. لكن محور المقاومة استطاع الصمود وامتصاص خسائرها والتصدي لها..

تموز 2006.. أكبر من نصر وأبعد من عدوان
هزيمة جيش العدو في حرب تموز

إستثمرت سوريا وإيران نصر المقاومة في لبنان بالمزيد من التقارب وتعميق الروابط بين أركان المحور. كان النصر، بحسب حنا، عاملاً أساسياً في تجنيب إيران ضربة عسكرية مباشرة، يتابع: صارت سوريا الحلقة الثانية في مسلسل العدوان. شارك حزب الله في القتال على أرض سوريا إلى جانب جيشها، كان قتاله في لبنان دفاعياً، صار في سوريا قتالاً جهادياً. ورغم إختلاف الحربين فان ما حصل كان استمراراً لنجاح حزب الله في تموز، فلدى الحزب قدرة على التأقلم والتكيف.

يشيد جابر بعمل المقاومة الذي مر بمراحل مختلفة، فهي اختبرت الحرب مع المحتل كقوة تحريرية وأثمر جهدها العسكري انتصاراً وتحريراً للجنوب في العام 2000 وفي العام 2006 خاضت مواجهات مختلفة في تصديها البطولي للعدوان. ففي هذه المواجهة قاتلت المقاومة جيشاً كلاسيكياً. وعندما قررت - بحكمة قيادتها - محاربة التنظيمات الإرهابية استباقياً في سوريا لمنع خطر وصولها إلى لبنان قاتلت مجموعات مسلحة باسلوب هجومي، زاد إلى رصيدها خبرة جديدة في نوع آخر من القتال. وهي بكل ذلك تستحق الشكر، لا ظلمها والتجني عليها.

من لبنان.. إلى سوريا.. فالعراق

صمدت سوريا بقيادتها وجيشها وشعبها وحلفائها في حربها الدامية مع الإرهاب. ولم ينجر لبنان ولا العراق إلى فتنة مذهبية، رغم كمٍ هائلٍ من الضحايا والتضحيات. وبعد إخفاق الرهان مجدداً على سقوط سوريا بعد إخفاقه في لبنان، راهن المتآمرون على فصل جديد من فصول الشر. صار العراق اليوم ثالث الحلقات.

"هي الورقة الأخيرة التي سيراهن محور الشر على إسقاطها قبل الاستسلام"، برأي حطيط." هم خاضوا حربهم في لبنان وسوريا وإيران وفلسطين (التي جربوا سلخها عن محور المقاومة بحجج طائفية)، ولكن ما انفرط عقد هذا المحور ولا تقطعت حلقاته وهو يعود اليوم كالبنيان المرصوص.

يتوقع حطيط فشل المخطط الأميركي مجدداً، إذ ان احتمالات تقسيم العراق باتت بعيدة اليوم في ظل الانتصارات المتتالية لمحور المقاومة، معتبراً أن المواجهة الجديدة في العراق ستكون على مرحلتين: الصمود ثم الانقضاض. في المرحلة الأولى - التي قد تسغرق شهوراً - ستكون الاستراتيجية بعدم تمكين المهاجم من السيطرة، وفي المرحلة الثانية سيكون الانقضاض على العدو وتحرير المناطق التي احتلها.

تفاؤل حطيط لا ينسحب على حنا الذي يحذر من التحولات التاريخية في العالم، ومن التقسيمات المستجدة فيه التي ستلغي حدود التقسيمات السابقة لسايكس بيكو، لتنتقل المنطقة من زمان القتال الجهادي العالمي والاقتتال القبائلي والديني والمذهبي إلى تقسيمات جديدة أكثر خطورة وتعقيداً مما هي راهناً.

وإذ يتمنى جابر نجاح محور المقاومة في إسقاط مشروع العدوان الجديد، يخشى من نجاح المخطط الأميركي الخطير والكبير في تقسيم العراق، ويؤكد أن التقسيم في حال حصوله سيؤدي حكماً إلى تقسيم دول المنطقة في كل من سوريا وتركيا والأردن ولبنان بحيث ستتهاوى تباعاً كأحجار "الدومينو" واحدة تلو أخرى.

توزان الردع .. مستمر

يجمع المراقبون أن العدو الإسرائيلي وقادة جيشه وجنوده ورغم كل مناوراته واستعدادته وحديثه عن تحصين جبهته الداخلية وتطوير ترسانته العسكرية وتعديل أساليب قتاله وتحديث بنوك أهدافه، لا يزال يتهيب مواجهة عسكرية جديدة مع المقاومة، ويتعاظم في الوقت نفسه هاجسه يوماً بعد يوماً من تزايد قوة المقاومة ومراكمتها الإنجازات فوق إنجازاتها.

ويؤكد حنا، أن قوات الإحتلال لم تفلح خلال عدوان تموز بنقل المعركة إلى أرض الخصم، وهي بالتالي غير قادرةٍ اليوم على الجزم بحتمية تحقيق نصرها على المقاومة في أي مواجهة مقبلة. ولأن أسس قواعد الاشتباك لم تسقط لا يمكن الذهاب إلى مرحلة جديدة، ولا يمكن المجازفة بمغامرة غير مضمونة النتائج.

تموز 2006.. أكبر من نصر وأبعد من عدوان
جنود الاحتلال

بدوره يذهب حطيط أبعد من ذلك، فيعتبر أن الانتصار الاستراتيجي الذي تحقق في تموز ما زال يشكل هاجساً في أذهان القادة الإسرائيليين ولم تفلح الجهود الإسرائيلية بعد في خلق مناعة في الجبهة الداخلية، ولم تستطع ترميم ثقة المستوطنين بمستقبل إسرائيل ولا بقوة جيشها، لا سيما وأنه فقد حرية تنفيذ قرار الحرب أو المبادرة إلى عدوان ساعة يشاء وتحقيق الانتصار الحاسم كما كان قد أعتاد، وهو ما يجعل مصير هذا الكيان محل تساؤل والتغني بأمنه موضع تشكيك.

ويستبعد العميد جابر حرباً إسرائيلية جديدة على لبنان، لأن إسرائيل تضع في حسابها القدرات القتالية المتعاظمة للمقاومة وآلاف من صواريخ ترسانتها العسكرية التي تبقى قبتها الحديدية عاجزة عن التصدي لها وجبهتها الداخلية أعجز عن تحمل خسائرها، وتخشى في الوقت عينه تكراراً للفشل البري في تموز/ يوليو 2006.

وإذ يصبح القول نافلاً أن المقاومة هي القوة الرئيسية وعماد استراتيجية الدفاع الوطني اللبناني، وأنها قوة عسكرية ذات دور إقليمي تضع لبنان على خارطة الدول المؤثرة إقليمياً. يصبح الجزم أكيداً أن ملحمة تموز/ يوليو 2006 - في عصر "الفورات" العربية ومأ اطلق عنه زوراً ربيعاً عربياً - هي ربيع العرب العسكري، وتبقى الملحمة مستمرة بفصول جديدة تستهدف مرة بعد أخرى حلقات محور المقاومة وحلفها من موسكو إلى حارة حريك.
2014-07-12