ارشيف من :آراء وتحليلات

غزة وانتصار الدم على السيف

غزة وانتصار الدم على السيف
الصعود على الشجرة شيء والنزول عنها شيء آخر. والواضح أن المبادرات العربية لوقف إطلاق النار لن تنجح في إخراج "إسرائيل" من ورطتها، وأن الهزيمة الإسرائيلية الجديدة أمام غزة هي خطوة هامة على طريق انهيار الكيان الصهيوني والأنظمة العربية التي تستمد بقاءها من وجوده.

أكثر من مراقب قدم أدلة تسمح بالاعتقاد بأن الموساد هو من قتل المستوطنين الثلاثة بهدف تبرير حملة القمع الإسرائيلي الشرس في الضفة الغربية، واستكمال هذه الحملة بالعدوان الحالي على غزة ومحاولة احتلالها من جديد.

ومنذ اللحظات الأولى للعدوان، حازت مقولة حق "إسرائيل" بالدفاع عن نفسها، على إجماع القوى الدولية المعروفة بتأييدها غير المشروط للكيان الصهيوني، كما امتدحت من قبل أصوات إعلامية عربية، خليجية ومصرية، بدفع أكيد من قبل الأنظمة الحاكمة.

سابقة تاريخية

لكن تعديلات هامة طرأت على هذه اللغة النارية وعلى الأهداف المحددة إسرائيلياً بعد أيام من مباشرة العدوان. منها تصريح لا يكاد يصدق لبنيامين نتنياهو أكد فيه أن الإسرائيليين قبلوا المبادرة المصرية لأن "الحل الديبلوماسي" أفضل من الحل العسكري، وذلك في سابقة تاريخية تشذ عن النهج الإسرائيلي التقليدي في استخدام القوة العسكرية كوسيلة وحيدة لتطويع العرب.

الحل الديبلوماسي نفسه هو ما تنافس على إنجاحه المبادرات المصرية والقطرية والتركية المدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والسلطة الفلسطينية. كما أن التوصل إلى هذا الحل هو الهدف الذي يكمن وراء تجوال بعض القادة العرب على العواصم الإقليمية، ووراء الزيارات المستعجلة للمنطقة من قبل العديد من كبار المسؤوليين الأميركيين والأوروبيين.

والمفارقة في هذا السعي المحموم لوقف إطلاق النار أنه يأتي من قبل أطراف كانت تنتظر انهيار المقاومة في غزة للبدء بتنفيذ مشروع لم تتضح معالمه التفصيلية بعد، مع أنه يندرج في سياق تصفية القضية الفلسطينية على طريق إعادة رسم خارطة المنطقة بالشكل الأكثر تلاؤماً مع مصالح قوى الهيمنة.
مبادرة مصرية لنزع سلاح المقاومة.

غزة وانتصار الدم على السيف
وانتصرت غزة


ما سر هذا التحول السريع والمفاجئ من "الانتقام" إلى طرح المبادرات السلمية وتلقف هذه المبادرات من قبل الكيان الصهيوني ؟ إجابة أولى تقدمها قراءة إسرائيلية للمبادرة المصرية: المبادرة تنص ضمناً على نزع سلاح المقاومة في غزة. أي، عملياً، على تسليم غزة لـ "إسرائيل" أو لطرف عربي أو وضعها تحت حماية دولية مقبولة إسرائيلياً. وبالتالي تحويلها إلى "دولة فلسطينية" مستقلة عن "دولة رام الله". وبمزيد من الوضوح، تنص ضمناً على تحقيق المطلب الإسرائيلي.

وعليه، تكون المبادرة السلمية قد جاءت، فوق كونها وسيلة لتحقيق المشروع الإسرائيلي، لتشكل قشة الغريق لإنقاذ "إسرائيل" بعد تورطها المكلف في العدوان وفشل العدوان في تحقيق غايته. فقد فشل القصف الجوي والبحري الإسرائيلي طيلة عشرة أيام، وما نجم عنه من سقوط ألوف الشهداء والجرحى، أكثرهم من المدنيين، أطفالاً ونساء وشيوخاً، في ظروف بالغة الصعوبة تعيشها غزة منذ سنوات، في إجبار غزة على الاستسلام.

وفوق ذلك، أكد قدرة المقاومة على توجيه ضربات غير متوقعة إلى عمق الأراضي المحتلة، من إيلات جنوباً إلى نهاريا شمالاً، مروراً بتل أبيب وحيفا والقدس الغربية والعديد من المدن والتجمعات الاستيطانية. كما اشتملت الضربات على قواعد بحرية ومفاعل ديمونا النووي، ومطارات عسكرية ومدنية منها مطار بن غوريون. وأثبتت، مرة أخرى، فشل القبة الفولاذية في منع تساقط الصواريخ الفلسطينية.


أصوات عربية تردد مقولة "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"

التقارير الإسرائيلية تكلمت عن حالات هلع ومقتل مستوطن جندي وجرح خمسة في صفوف "المواطنين". لكنها لم تتكلم، بحكم التعتيم الإعلامي، بهدف تفادي انهيار المعنويات في صفوف العسكريين والمستوطنين، عن الأعداد غير المعروفة من العسكريين وغير العسكريين الذي قتلوا وجرحوا جراء تساقط الصواريخ الفلسطينية. أجلوا ذلك إلى مرحلة ما بعد الحرب حيث يفترض أن ردود الفعل عليها تكون أكثر قابلية للاحتواء.

لكن مرحلة ما بعد الحرب بدت بعيدة المنال في ظل رفض المقاومة للمبادرة المصرية. وبدلاً من إبداء بعض الليونة باتجاه تعديل المبادرة بشكل أكثر استجابة لمطالب غزة، فضل الإسرائيليون دفع المغامرة إلى مداها الأقصى عبر الانتقال إلى الهجوم البري وتشديد الضربات على المدنيين على أمل أن يشكل التزايد المريع في أعداد الضحايا عنصر ضغط وإحراج لفصائل المقاومة.

وقد ساندتهم في هذا المسعى وسائل إعلام عربية ومسؤولون عرب، منهم محمود عباس، من خلال تحميل المقاومة مسؤولية القتل الذريع الذي يتعرض له أهل غزة، وأيضاً من خلال العودة إلى سردية الصواريخ "العبثية" التي تسقط في الأرض الخلاء.

لكن استشراس الكيان الصهيوني (مذبحة حي الشجاعية) وخبث الخط الانهزامي العربي لم يثنيا أهل غزة الصابرين المصابرين عن العض على الجراح وتحمل التضحيات رغم هول المذابح، ولم يفتا من عزيمة فصائل المقاومة التي أثبتت قدرتها على جعل أرض غزة مقبرة للصهاينة.

حتى الآن، دفع الإسرائيليون ثمناً باهظاً لهجومهم البري. خسائرهم البشرية والمادية وأسر جنودهم، كل ذلك يتجاوز قدرتهم على التحمل. وأي تصعيد من قبلهم مفتوح على المزيد من الفشل، وعلى المزيد من العزة التي تضخها غزة في شرايين الجماهير العربية التي آن لها أن تأخذ موقعها في المعركة وأن تقلب الطاولة على رؤوس الحكام المتواطئين.
2014-07-21